ارشيف من :آراء وتحليلات

مرقد الجوادين .. بين زمانين

مرقد الجوادين .. بين زمانين

صورتان مختلفتان

   في مثل هذا الوقت، قبل عقدين من الزمن، كانت صورة الكاظمية المقدسة مختلفة تماما، وهي تعيش أجواء الخامس والعشرين من شهر رجب، حيث تحل ذكرى استشهاد الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) الملقب براهب آل محمد، وكذلك كاظم الغيظ، وباب الحوائج.

  لم تكن هناك حشود مليونية تتدفق من مختلف أنحاء العراق باتجاه المرقد الشريف للجوادين، الكاظم وحفيده الجواد عليهما السلام، ولم تكن هناك مواكب وهيئات حسينية تقدم شتى انواع الخدمات للزائرين، ولم تكن هناك خطط واجراءات امنية وخدمية لحماية الزائرين والسهر على راحتهم من قبل مختلف مؤسسات الدولة الرسمية.

  بل على العكس من ذلك، كان على من يريد زيارة مرقد الجوادين في مثل هذه الايام قبل عقدين، ان يتخذ اقصى اجراءات الحيطة والحذر، حتى لايقع في قبضة رجال الامن والحزب، ولم يكن هناك من يفكر بنصب موكب حسيني، او اقامة مجلس عزاء في مكان عام. وكانت الدولة - بنظامها البوليسي القمعي - بدلا من ان تحتفي بالزائرين وتقدم لهم الخدمات، تطاردهم وتتعقب أثرهم أينما حلوا.

   واذا لم تكن صورة المشهد القمعي واضحة بما فيه الكفاية بالنسبة لذكرى استشهاد الإمام الكاظم عليه السلام، فإنها كانت واضحة الى اقصى الحدود في ذكرى استشهاد الامام الحسين عليه السلام، في العاشر من شهر محرم الحرام، وفي ذكرى اربعينيته في العشرين من شهر صفر.

التاريخ يعيد نفسه

  على مر الأزمنة، تعرض أتباع أهل البيت عليهم السلام لشتى صنوف الظلم والاضطهاد والاذى، في وقت كانت مراقد أئمتهم عرضة للاهمال والتخريب والتدمير من قبل السلطات الحاكمة، ولعل ما أظهره هذا الحاكم او ذاك من اهتمام بأعمار أو ترميم أو تطوير مرقد ما، فإنما يكون من دوافع سياسية خاصة، غالبا ما تبرز وتتجلى حقيقتها في طريقة التعاطي مع أتباع ومحبي وأنصار الائمة عليهم السلام، وفي بلد مثل العراق برزت الكثير من المظاهر والسلوكيات القمعية الاستبدادية لحكام  السوء ضد أتباع آل البيت عليهم السلام، بسبب وجود مراقد لستة من الائمة المعصومين، مرقد الامام علي عليه السلام في النجف الاشرف، ومرقد ولده الامام الحسين عليه السلام في كربلاء المقدسة، ومرقد الإمامين الكاظم وحفيده الجواد عليهما السلام في الكاظمية المقدسة، ومرقد الإمام علي الهادي وولده الامام الحسن العسكري عليهما السلام في سامراء المقدسة، فضلا عن عشرات المراقد لأبناء وذراري الائمة المعصومين في مختلف مدن العراق.

مرقد الجوادين .. بين زمانين
حشود الزائرين تحيي ذكرى استشهاد الامام الكاظم (ع)

    وحاله حال بقية المراقد، تعرض مرقد الجوادين في مراحل مختلفة للإهمال والتخريب، فضلًا عن التضييق على زواره والوافدين إليه، وربما كانت حقبة نظام حزب البعث السابق من أسوأ المراحل بالنسبة لأتباع أهل البيت ولمراقد الائمة، اذ بلغت محاربة الشعائر الحسينية ومختلف الطقوس الدينية اوجها، لتنطلق مرحلة جديدة بعد سقوط ذلك النظام في عام 2003، اذ تم استثمار اجواء ومناخات الحرية في نشر وبث ثقافة ومنهج اهل البيت عليهم السلام، من خلال التعريف بسيرتهم ومظلوميتهم وحجم الاضطهاد الذي تعرضوا له هم واتباعهم على أيدي حكام بني أمية وبني العباس، وبعد ذلك ايضا، وحتى يومنا هذا، يسعى التكفيريون المدعومون من دول وحكومات عديدة الى اعادة عجلة الزمن الى الوراء، عبر اساليب ووسائل لا تمت بأية صلة الى الدين او الانسانية، فاستهداف زوار الامام الكاظم عليه السلام بالسيارات المفخخة والأحزمة والعبوات الناسفة، ما هو إلا تكرار لأساليب وممارسات دأب أعداء أهل البيت على اتباعها لسفك دماء وازهاق ارواح اتباع ومحبي وانصار العترة الطاهرة، فالهدف والمنهج واحد وان اختلفت الاساليب والوسائل والممارسات، واليوم نجد ان التاريخ يعيد نفسه، وان اصرار الملايين على السير بمنهج اهل البيت، والانتصار لذلك المنهج والتضحية بكل شيء، دليل دامغ على عقم وعدم جدوائية كل المحاولات والمخططات والمشاريع الرامية لإسكات صوت الحق والعدل الالهي المتمثل برسول الانسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والائمة الاطهار من ذرية امير المؤمنين عليه السلام. 

مظاهر جديدة

   ومن ابرز المظاهر والحقائق الجديدة التي برزت خلال الاعوام الاثني عشر الماضية في إطار احياء ذكرى استشهاد الامام موسى بن جعفر عليه السلام، هي:

- توافد ملايين الزوار من شتى مدن ومناطق العراق الى الكاظمية المقدسة، اذ بلغ عدد الزائرين العام الماضي اكثر من خمسة ملايين شخص، ويتوقع ان يتجاوز عددهم هذا العام السبعة ملايين، وهذا التوافد المليوني، اخذ يتدفق نحو مرقد الجوادين سيرا على الاقدام، وهو ما لم يكن معروفا ولا مسموحا به في المراحل والحقب السابقة. وطبيعي ان ذلك الزحف المليوني، يستتبعه اقامة ونصب المئات، بلا الالاف، من مواكب الخدمة التي تتولّى تقديم الطعام والشراب والدواء وتوفير اماكن الراحة للزائرين  داخل بغداد وخارجها، حيثما تواجد الزائرون.

- مشاركة آلاف المؤمنين من خارج العراق في مراسم العزاء الكاظمي، البعض من إيران، لبنان، دول الخليج، باكستان، تركيا، واوروبا واميركا، وغيرها من البلدان، في مقابل ما كان يحصل سابقا، إذ أن الزوار القادمين من خارج العراق كانوا محدودي العدد ومقيدي الحركة بشكل كبير من قبل العناصر المحازبة للنظام.
  وحينما يتواجد الالاف في احياء ذكرى الامام الكاظم عليه السلام، من شتى بقاع العالم، فهذا يضفي على المناسبة بعدا عالميا، بل هو بعدٌ إنسانيٌّ يتجاوز حدود الدين والمذهب.

- والمظهر الثالث، يتمثل في أن صورة الحزن الولائي في الخامس والعشرين من رجب، باتت فئات المجتمع العراقي وشرائحه كافة تساهم في صياغة خطوطها، وبلورة معالمها وملامحها، وترسيخ ألوانها، متكئة على رأس الدولة والمفاصل الرسمية وغير الرسمية، فالدولة التي كانت تحارب وتطارد وتضيِّق على الزائرين، اصبحت بكل مفاصلها ومؤسساتها جزءا من تلك التظاهرة العالمية، وغدا الناس عموما، إما زائرين للمراقد - سواء بواسطة وسائل النقل او سيرا على الاقدام - او أنهم يتركون الدنيا ويتفرغون لخدمة للزائرين على أكمل وجه..

- والمظهر الرابع، هو تلك الثورة المعلوماتية التي اجتاحت العالم وحولته الى قرية صغيرة، فتمَّ استثمارها على أفضل طريق لايصال حقيقة الحب والولاء والاخلاص والاستعداد للتضحية للمحافظة على نهج أهل البيت عليهم السلام، الذين ضحوا بأغلى ما لديهم من أجل إحياء الدين المحمدي الاصيل.

  فالجالس اليوم في بيته او مكان عمله، في اقصى نقطة على وجه البسيطة يمكنه ان يتابع ويشاهد بأدق التفاصيل والجزئيات عبر شاشات التلفاز ما يجري على أرض الكاظمية او كربلاء او النجف او سامراء، بل وأكثر من ذلك، يمكنه ان يتفاعل مع من يهتم بالمناسبة، من خلال تبادل مقاطع الفيديو والصور، عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة لمجالس العزاء، وملتقيات الذكر الايماني، وجموع الزائرين الذين يشدّون السير باتجاه كربلاء المقدسة، أو النجف الاشرف، وسامراء، والكاظمية المقدسة، وغيرها وغيرها من الصور والمشاهد التي تبهر الالباب، وتحير العقول.

وارقام الزائرين الهائلة تؤشر الى عظمة صاحب المناسبة، وكذا أعداد الخادمين، وكذلك صدى الاصوات التي تصدح بالحب والولاء ورفض الظلم والاستعباد، التي راحت تتردد اصداؤها في مشارق الارض ومغاربها، لتترجم المعنى من مقولة "كل يوم عاشوراء .. وكل ارض كربلاء" وتجعل منها واقعا يتحرك على الأرض، تعجز كل قوى العالم ان توقفه او تكبح جماحه.
2015-05-14