ارشيف من :أخبار لبنانية
مقاربة متوازنة لمعنى العروبة
"الخليج" - رغيد الصلح
أثار شعار “لبنان أولاً” الذي اعتنقته أكبر الكتل النيابية اللبنانية جدلاً واسعاً خلال الأسبوعين المنصرمين. انتقده زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط واعتبره منافياً لعروبة لبنان التي كرسها اتفاق الطائف. ورد نواب وقادة سياسيون آخرون على هذا النقد بالتأكيد على أنه ما من تناقض بين أولوية لبنان والعروبة. النائب أحمد فتقت أوضح أن لبنان يعني أن كتلة “لبنان أولاً” التي يتزعمها النائب سعد الحريري المكلف بتشكيل الحكومة اللبنانية الجديد تعتزم تقديم مصالح الدولة اللبنانية على مصالح “دولة أخرى كائنة ما كانت”. سمير جعجع، زعيم القوات اللبنانية، أضاف قائلاً إن اللبنانيين هم “جزء أساسي من المحيط العربي”، لذلك لا مجال لتفسير شعار “لبنان أولاً” على أنه معاد للعرب. أما إعطاء مصالح لبنان وشعبه الأولوية فإنه لا يعدو، في تقدير زعيم “القوات”، ما تفعله الدول العربية الأخرى في إيثار مصالحها ومصالح شعوبها على مصالح الدول العربية الأخرى.
إذا كان كانت هذه هي حدود شعار “لبنان أولاً” لا غير فلماذا انتقده وليد جنبلاط وبعض الزعماء اللبنانيون مثل رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سليم الحص؟ ولماذا طالب الناقدون أكبر كتلة نيابية لبنانية بالتخلي عن هذه التسمية؟ وهل هناك من تناقض حتمي بين أولوية لبنان، من جهة، وعروبته، من جهة أخرى؟
لا يوجد تناقض، حتمي، بين الالتزام بعروبة لبنان، وهو أمر نص عليه الدستور اللبناني، وبين إعطاء الأولوية لمصالح لبنان وحاجاته. فالتزام لبنان بالعروبة يعني اليوم التزاماً بموجبات التضامن والتعاون العربيين. ومثل هذا الالتزام لا يتعارض، بالضرورة، مع مصالح لبنان وحاجاته. فلبنان هو من أكثر الدول العربية استفادة من التعاون بين الدول العربية. القسم الأكبر من صادراته يذهب إلى أسواق هذه الدول، والكم الأكبر من الاستثمارات والعائدات تأتيه من اللبنانيين العاملين فيها أو من أبنائها من الأشقاء العرب الذين يفضلون توظيف أموالهم، أو جزء منها على الأقل، في لبنان، والعدد الأكبر من السياح والمصطافين المعول عليهم لتحريك الاقتصاد اللبناني يأتون من المجتمعات العربية الشقيقة.
وقد يفسر التزام لبنان بالعروبة التزاماً خاطئاً بحيث يحمله ويحمل اللبنانيين ما هو فوق طاقاتهم من المسؤوليات ومن الأعباء. هذا ما حدث خلال السبعينات إذ تحول لبنان إلى جبهة قتال وحيدة ضد “إسرائيل”، بينما سكتت كافة الجبهات العربية الأخرى، البعيدة والقريبة. والمطلوب هنا هو مقاربة متوازنة وفهم منصف وعقلاني لمعنى عروبة لبنان. هذه المقاربة غير موجودة في بيان أكبر كتلة نيابية في لبنان والذي تضمن تسميتها بكتلتة “لبنان أولاً”. فهذا البيان تضمن موقفاً سليماً من حيث تأكيده على ضرورة تعزيز الدولة اللبنانية وعلى تغليب مصلحتها على سائر “المصالح الأجنبية”. بيد أن الإعلان خلا من أية إشارة ولو عابرة ومختصرة إلى موقف لبنان وموقف الكتلة تجاه القضايا العربية مثل قضية التعاون بين الدول العربية ومسألة الصراع العربي “الإسرائيلي”.
إن حضور لبنان في “المحيط العربي” كمعطى تاريخي وجغرافي، قد يكون كافياً، كما أشار سمير جعجع، لتأكيد هذه الالتزامات والمواقف، ولكن ليس بالضرورة، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنه هناك تباينات كثيرة في الاجتهادات بين اللبنانيين حول هذه المسألة. هذه التباينات برزت بصورة جلية خلال الأربعينات ابان مفاوضات تأسيس النظام الإقليمي العربي.
ففي بداية المفاوضات كانت الحكومة اللبنانية تميل إلى صف الحكومات العربية التي عملت على قيام تكتل عربي إقليمي قوي ومتماسك، إلا أن هذا الموقف تبدل في نهاية المفاوضات مع تبدل الحكومة، إذ لعب ممثل الحكومة اللبنانية الجديد دوراً رئيسياً في إحباط هذا المشروع وفي اضعاف مؤسسات العمل العربي المشترك المنبثقة عنه. في الحالتين كان لبنان “حاضراً” في المحيط العربي. في الحالة الأولى، كان حضوره عاملاً في تمتين اللحمة بين أطراف هذا المحيط. وفي الحالة الثانية كان الحضور اللبناني عاملاً في إضعافها. ومن ثم الحاجة إلى تفسير وتوضيح عندما تعتنق أكبر كتلة نيابية لبنانية نفسها شعار “لبنان أولاً” كتسمية لها.
إذا كانت التجارب المحلية تبرر للناقدين انتقاداتهم، فإن هناك من التجارب غير اللبنانية ما يبررها أيضاً. أشار المفكر العربي د. كلوفيس مقصود، إلى هذه التجارب عندما أشار إلى أن شعار “بلدي أولاً”، هو شعار دأبت على اعتناقه المنظمات العنصرية والقومية المتعصبة والمتطرفة في شتى أنحاء العالم وخاصة في دول الغرب. استخدم هذا الشعار كأداة تحريضية وتعبوية ضد الشعوب والأمم الأخرى، تبريراً لإعلان الحروب ضدها والاستحواذ على ثرواتها. واستخدم شعار “بلدي أولاً” أيضاً كمبرر لإشهار الحرب على القوانين والمواثيق الدولية والإنسانية التي تشجع تقديم المساعدات والمعونات إلى الدول والشعوب الفقيرة. واستخدم شعار “بلدي أولاً”، في التنكيل بالمهاجرين الاقتصاديين واللاجئين السياسيين الذين يؤمون الدول المتقدمة وصولاً إلى استخدام العنف ضدهم.
“الطبعة” العربية من هذا الشعار، كثيراً ما استخدمت لتبرير تنازلات مجحفة قدمتها بعض الأطراف الإقليمية إلى قوى الهيمنة العالمية على حساب القضايا العربية. قيل في هذه التنازلات انها كانت ضرورية لتحقيق مصالح هذا البلد العربي أو ذاك، وإنه لولا تلك التنازلات لما تمكن البلد العربي من ضمان مصالحه. ولكن التجارب تدل على أن هذه التنازلات لم تقدم مصالح البلد العربي على المصالح العربية الأخرى، وإنما قدمت مصالح قوى الهيمنة الدولية والإقليمية وخاصة “إسرائيل” على مصالح الدول العربية مجتمعة ومتفرقة، ومنها بالطبع مصلحة البلد الذي رفع شعار “بلدي أولاً”.
التجارب العالمية تدل، بالمقارنة، على أن الدول التي تجمعها مقومات كثيرة مثل القرابة الثقافية والجوار الجغرافي والمصالح المشتركة البعيدة المدى وليس فقط المصالح الآنية والعابرة، تلجأ إلى تكوين التكتلات والتحالفات في ما بينها حتى تصون مصالحها الوطنية على كل صعيد سياسي واقتصادي واستراتيجي ومعنوي. وفي أكثر الحالات فإن الدول التي تسهم في تأسيس هذه التكتلات لا تكون، أساساً، مستقلة ومتمتعة بسيادة كاملة، بل تكون جزءاً من شبكة علاقات دولية تحكمها قوى الهيمنة الدولية ويكون فيها للدولة المعنية دور التابع والملحق العاجز عن الدفاع عن مصالحه الحقيقة. رحلة هذه الدولة إلى عالم السيادة والاستقلال تبدأ عندما تنخرط مع أقرانها في تأسيس تكتل تقوم فيه بدور الشريك الفاعل القادر، حقاً، على صون مصالحه.
* كاتب لبناني