ارشيف من :نقاط على الحروف

السر المدفون :قراءة نقدية

السر المدفون :قراءة نقدية
"المقاومة هي فعل حياة لا فعل موت؛ وإنما نحنُ حينما نضع أرواحنا في الميزان، فإننا نفعل ذلك بدافع حبنا للحياة. الفارق الأهم لدينا هو نوعية تلك الحياة وكيفيتها، لا مجرد كينونتها".  المهاتما غاندي

لا شكَّ أنَّ مجرَّد صناعة فيلمٍ عن حياة مقاومٍ شهيد هو عملٌ مقاوم، فتذكير الناس بأهمية هؤلاء الشهداء بعد رحيلهم يجعل منهم أيقوناتٍ تقربهم إلى محبيهم، وتجعلهم أكثر خلوداً في الذاكرة. على سبيل المثال، لا الحصر، أتى الشهيد علي منيف أشمر صاحب الوجه الجميل، والذي أعطي لقب "قمر الاستشهاديين" لدى حزب الله، متميزاً للغاية في الفيلم القصير الذي كانت "رسالات" قد أنتجته عن "استشهاده". لكن الفيلم القصير لا يحقق المطلوب كالفيلم السينمائي الطويل، فالمساحة الزمانية/المكانية التي يحتلها الفيلم السينمائي الطويل، تجعل القصة أكثر رسوخاً، فضلاً عن امكانية قول/تمرير رسائل أكثر رسوخاً ووضوحاً من تلك في الفيلم القصير. لكن ما يصعّب مهمة "السينمائي" هو أنّه قد يقع في فخ "الإطالة" أو "فقدان المشاهد" في اللحظة التي يدخل في "التكرار" و"التسطيح".

لعبة السر
يروي فيلم "السر المدفون"(من إنتاج مؤسسة الأرز للإنتاج الفني) حكاية الشهيد عامر توفيق كلاكش(1966-1985)، الذي استشهد في عمليةٍ كبرى للمقاومة عند بوابة "مستعمرة" المطلة في 10 آذار (مارس)، وأبقت والدته خبر استشهاده سراً (لأكثر من 14 عاماً، وتحديداً حتى التحرير في عام 2000) عن والده وشقيقاته (ما عدا شقيقته نوال التي كانت تشاركه المقاومة وتعرف بعمله المقاوم وشقيقيه رياض وعادل). تكتسب الحكاية بُعداً "أسطورياً" بالتأكيد إذا ما فكرنا في الأمر قليلا، فأن تستطيع الوالدة إخفاء حزنها على ولدها الأحب إلى قلبها، فضلاً عن كبت الأمر عن أقرب المقربين إليها لم يكن أمراً اعتيادياً البتة. إذا باختصار، لم تكن القصة مجرد قصةٍ عادية لاستشهادي متميز، بل كان كل شيءٍ غير اعتيادي في حكاية عامر كلاكش الذي بقي معروفاً باسمه الحركي "أبو زينب" ولسنين طوال (حتى اعلان سماحة السيد حسن نصر الله اسمه في أحد خطاباته بعد النصر في العام 2000). يرجح الفيلم كثيراً أن المقاومين – وحتى بعد استشهاد عامر - كانوا يقومون بعملياتٍ مقاومة ويعلنون أن "أبا زينب" قد قام بها مما جعل الصهاينة وجيش العميل لحد يبحثون عن "الشبح" دون إيجاده ولو لمرةٍ واحدة. هذا أولاً، أما ثانياً، فقد كانت استمرارية الحكاية هي مصدر آخر لـ "تميزها" أكثر، فاستشهاد "عامر" لم تكن نهاية القضية بل بدايتها، فشقيقته نوال استشهدت بعده حينما تسبب المحتلون بقتلها (تشير احتمالاتٌ كثيرة أنَّ الصهاينة دسوا لها سماً في شرابٍ قدم لها أثناء التحقيق معها)، وشقيقاه رياض وعادل دخلا إلى المعتقلات وبقيا فيها حتى لحظة تحرير الجنوب في العام 2000، كل هذا يضاف إلى صبر والدته وصلابتها.

السر المدفون :قراءة نقدية
فيلم عن الاستشهادي عامر كلاكش

من ناحية الإداء
برزت النجمة كارمن لبُّس في دور إنصاف عاشور والدة الشهيد. كان بروزها من خلال استيعابها لطبيعة الشخصية، وعلى ما يبدو أنها قضت وقتاً طويلاً في التعامل مع الشخصية والتدرب عليها وحدها قبل أن تؤديها أمام المخرج وفي العلن. عمار شلق الذي أدى دور توفيق والد الشهيد بدا ماهرا هو الآخر ومتقناً للهجة الجنوبية (كان قد أدى سابقاً شخصية الشيخ الشهيد راغب حرب باللهجة المحكية ذاتها تقريباً في مسلسل الغالبون لذلك لم يكن غريباً أبداً تمرّسه عليها هنا)، قدم شلق شخصية والد الشهيد بسهولة بالغة وإن أنهكه "النص/السيناريو" أحياناً، فبدت كلماته "زائغة" في بعض المشاهد (يمكن مراقبة مشهده عند بداية الفيلم تقريباً في حديثه مع العملاء "الخفيين".
 شقيقا الشهيد عادل ورياض لعب دوريهما الممثلان باسم مغنية وحسين المقدّم بالترتيب وكانا دون أخطاءٍ تقريباً، وإن بديا "منهكين" تمثيلياً أحياناً، لأن أدواراً كهذه تستلزم جهداً كبيراً؛ مغنية الذي يحاول جاهداً إعطاء أدواره حقها كان قريباً من الشخصية، لكن يخشى عليه كثيراً من "تشبيع الدور بشخصه" أكثر من "الشخصية التي يؤديها" فيشعر المشاهد أن هذا هو "باسم" وليس "عادل". أدت الوافدة الجديدة إلى عالم السينما والتمثيل راشيل الحسيني دور شقيقة الشهيد نوال براحةٍ بالغة، وكانت متميزة للغاية ببراءتها الشديدة، وقد استفاد المخرج غفاري من تلك الميزة كثيراً، لكن ما "صعّب" التمثيل عليها هو "ثقل جملها المنطوقة" حيث تفاجئ الجمهور بـ "جمل" لا تناسب عمرها (يمكن مراقبة نقاشها مع شقيقها عادل حول المقاومة مثالاً).

علي كمال الدين والذي أدى دور الشهيد كلاكش بدا "مسترسلاً" إلى حدٍ كبير، أنيقاً في أغلب الأحيان، إنما أرخت مسحة "الأنبياء" التي فرضها السيناريو عليه ثقلاً هائلاً؛ حيث كان من المفترض أن يظهر الفيلم - ولو قليلاً - جزءاً من الجانب الإنساني لهذا الشهيد الفذ، فهو لم يكن مجرد شهيدٍ فحسب، فغابت أي صفةٍ من صفاته الإنسانية: هل كان يمزح مثالاً؟ هل كان لديه أصدقاء (خارج العمل الجهادي)؟ هل كان لديه أي طموحات؟ أو رغبة بالزواج مثالاً؟ كان من المفترض أن يبتعد السيناريو عن "إضفاء القداسة" كي يتيح الفرصة للجمهور أن "يترابط" أكثر مع شخصيةٍ هي منهم وهم منها أصلاً؛ فالشهيد كلاكش ككثيرٍ من الاستشهاديين هو من أبناء هذه البيئة وساكنيها.
 أما يوسف حداد والذي يقدّم إداء هو الأقل "حرفيةً" بالنسبة إليه منذ فترةٍ طويلة، إذ تبدو شخصيته "معتادة" ومتوقعة،   فضلاً عن "تسطيحها"(أي أنها دون أبعاد بشرية) إلى حدٍ كبير ودون أي منطق، فلا يعرف المشاهد مثلاً لماذا لا يعتقل اللَّحدي (أو الصهيوني) هذا الشخص الذي يتردد دائماً إلى مسجد القرية رغم أنه يعتقل جميع زائريه! فبدا أن دوره محدود في كونه من أرسل الشهيد إلى عمليته الاستشهادية فحسب (بعد ذلك يدخل شقيق عامر، عادل إلى المقاومة هو الآخر)! وبالتأكيد لا يمكن إلا الإشارة إلى خلل في السيناريو حتى تأتي الشخصية على هذه الشاكلة.

من ناحية الإخراج
جاء "السر المدفون" بإدارة المخرج الإيراني المعروف علي غفّاري. بذل غفّاري جهداً بالغاً في صناعة فيلمٍ بعيدا عن "المعتاد" عربياً ولبنانياً حين تناول قصص الشهداء، فترك الجميع يتحدثون عن الشهيد، من زاوية الرؤيا التي يروونها هم أنفسهم، لا الشهيد فحسب.
صّور غفّاري في جنوب لبنان قصة الفيلم بأكملها، وأكثر ما برز في إدائه كمخرج حرفته في استعمال الكاميرا كما اللعب معها. فمزج بين عدة تقنيات سينمائية أوروبية كلعبة التبديل الصوري(Visual Transition)، فيأتي المشهد عند لحظة مشهد وداع الشهيد لوالدته لتختلط مع مشهد شقيقه يجلس على ركبتيها، يندمج المشهدان ليصبحا كأنهما مشهدٌ واحد في تقنيةٍ درامية تذكرنا كثيراً بأسلوب السينما الإيطالية الأولى (كسينما المخرج الإيطالي روبيرتو روسليني1906-1977 مع ثلاثيته الشهيرة: روما: مدينة مفتوحة، بايسا، وألمانيا: السنة صفر)، فضلاً عن لمساتٍ من السينما الروسية (تحديداً مع المخرج جريغوري شوخري وفيلمه "أنشودةٌ لجندي" 1959) من خلال التركيز على خلط "الحدث البسيط" بالحدث الجلل: الوالدة تدق "لحمة نيئة" والابن الشهيد "يفجّر نفسه بالعدو"، كل "ضربةٍ" على لوح الطرق نشاهد وجه الأم يصبح مسكوناً بالألم كما لو أنها تراقب ولدها يخطو ناحية "شهادته". كانت هذه الحرفة التقنية تبدو ظاهرةً للعيان لأي متابع عادي دون حاجة أن يكون "محترفاً" أو ناقداً أبداً. أما المشهد الذي لا يمكن لأي متابعٍ نسيانه هو مشهد "التحرير" حيث تم إضافة مشاهد لأبطال الفيلم ضمن أفلامٍ مصورة في تلك المرحلة، فبدا الأبطال "لشدة حرفية التصوير والمونتاج وادارة الألوان" جزءاً من المشهد التحريري الشهير (لدى تحرير معتقل الخيام مثلاً)، فبدا "باسم مغنية وحسين المقدّم"(بشخصيتيهما عادل ورياض) جزءاً من المحررين من ذلك السجن الرهيب. النقطة الوحيدة التي تسجّل ضد المخرج هو أنه لم "يدقق" في السيناريو "أمامه" فهل كانت اللغة هي المشكلة؟

في إطارٍ آخر، نجد حرفيةً عالية في اختيار "الثياب المناسبة" للحقبة التاريخية (ثمانينيات القرن الماضي) فلم يشذ عن القاعدة أيٌ من المشاركين، هذا الانتباه الدقيق بالتفاصيل جعل المشاهد - حكما - يدخل في المشاهد، ويتذكر تلك المرحلة الزمنية إن كان قد عايشها، أو يعود إليها في حال كان يراها لأول مرة. كانت الثياب، السيارات، طريقة ارتداء غطاء الرأس (الحجاب) كلها جزءٌ من "حرفة" الفيلم ومهاراته.

ختاماً، جاء السيناريو الذي كتبه رضا اسكندر ومحمد غلامي النقطة الأضعف في العمل. تسطحت الشخصيات فلم تمتلك أبعاداً مناسبة، وظهرت التقريرية بشكلٍ مباشر كحديث الشخصيات التي "تلقي" حكماً ومواعظ كأن ينطق أحد الممثلين (شخصية يوسف حداد: أبو خليل) حديثاً خلبياً في معرض وصفه للشهيد من نوعية: "هو مقاوم لبناني أصيل، كانت النار تمشي بعروقه بدل الدم"!(خصوصاً أن الفيلم بالعامية، فهل يتحدث الناس بالعامية هكذا؟) أو للإخبار عن حدثٍ ما (أيضاً لشخصية أبو خليل): "تجهيز السيارة للقيام بالعملية كان أمرا صعبا بس شباب المقاومة قدروا يقوموا بهاي المهمة" مع العلم أن الأفلام تلجأ لرسم الصورة بدلاً من "التلقين" المباشر للمشاهد (ألم يكن الأجدى مثلاً أن نشاهد الشباب يعملون على السيارة ومرور الساعات وهم يتعرقون من التعب لرسم الصورة بدلاً من إخبارنا عنها بالكلام؟.
2015-05-20