ارشيف من :خاص
تباشير أيار تلوح في سماء معتقل ’1391’
على وقع الشهادة والجراح ووقفات تحدي أسرى المعتقلات الصهيونية، كان التحرير في أيار. لفحت نسائمه الربيعية كل محب للحرية في أصقاع الأرض. وكان ريحًا عاصفةً من الذل لكل مساند ومؤازر لكيان العدو، أو حتى محايد . دُحر الصهاينة و عملاؤهم في الخامس والعشرين من هذا الشهر عام 2000. تلاحقهم صيحات مجاهدي المقاومة عند كل اقتحام لمواقعهم، تَقِرُ آذانهم. خلّفوا كل عتادهم وراءهم، وصورةً مخزيةً في ذاكرة شعب مضحٍ، وفَرّوا. تحررت بذلك أرض الجنوب والبقاع الغربي. ومن "الخيام" أُطلق المعتقلون. إلا أن العدو الإسرائيلي على حماقته، ترك مزارع شبعا في قبضته، ولبنانيين أبطالًا أسرى لديه في السجون داخل كيانه.
غير بعيدٍ من القرى المحررة، في المنشأة السرية "1391"، شمال فلسطين المحتلة، كان الشيخ عبد الكريم عبيد والحاج أبو علي مصطفى الديراني ، تحدثهما صباحات تلك الأيام بأن الفجر قريب. فرجال المقاومة أضحوا قاب قوسين، على حدود الأرض المقدسة.
"كنا نتابع أيام التحرير على شاشة التلفاز، ونَسعدُ بمشاهد العودة، والمعتقلين وهم يكسرون قيود الأسر في الخيام"، يقول الشيخ عبيد مستعيدًا مرحلة ما تزال فصولها محفورة في ذاكرته، إذ أن الثالث والعشرين من أيار من ذلك العام أتى ملوحًا بتباشير الحرية.
أما أيار لرفيق الدرب في الأسر، الحاج أبو علي مصطفى، فيحمل أسرارًا ومعانيَ خاصة. وهو الذي كان بداية أيام التحرير، في الحادي والعشرين من ذلك الشهر يسجل على جدران الزنزانة، إشارة تخط عامه السادس منذ اختطافه ليلة عيد الأضحى من عام 1994.
السيد نصرالله يحتضن الشيخ عبيد والرئيس بري يعانق الحاج الديراني
"مصادفة جميلة ان يتتطابق التاريخ في أيامه، يوم بداية الأسر مع بداية تحرير الأرض، الذي خطته الدماء والجراحات والمعاناة"، يقول الحاج. فلربما تكون دلالاتها أن الظالم وكلما طغى وعتا، فإن خسارته ستحمل معها أضعافًا من المهانة والعار. وهو ما بدا واضحًا إبان انسحاب الصهاينة من الجنوب.
صباح الخامس والعشرين، وبينما جموع الأهالي تحتفي بالنصر، كان الشيخ والحاج أبو علي بصبرهما وإيمانهما بالله أولًا وبثقتهما بالمقاومة ثانيًا، يواجهان "استفزاز" القاضي والمحامي الصهيونيين في المحكمة العسكرية: "من المستغرب أن لا يشملكما التحرير!"
"ليس الصهاينة من قرر الفرار من لبنان"، يؤكد أبو ساجد. ."فحملة إيهودا باراك الانتخابية وقت ذاك كانت باسم الخروج منه، وهو لم ينجح لولا إطلاق الوعود بالانسحاب". ويوضح الشيخ بأن لـ"الصهاينة حسابهم الخاص عندما يتعلق الأمر بموازيين القوى السياسية والعسكرية"، فالمصلحة هي الأولى بالنسبة إليهم، وما انتصار أيار إلا نتيجة لضغط المجتمع الإسرائيلي على السياسيين، جراء خسائرهم المتكررة في الأرواح خصوصًا، في مواجهاتهم مع المقاومة.
وفي هذا الصدد، يتحدث الحاج مصطفى عن منظمة "الأمهات الأربع" الإسرائيلية، التي لم تترك بابًا إلا وطرقته، مستجديةً مواقف داعمة لقرار حكومي بالخروج من لبنان"، وهم الذين أرهقتهم ضربات المجاهدين، واستحوذ عليهم الذعر. وقد أضحى الذاهب من أبنائهم الجنود إلى أرض المعركة مع حزب الله "مفقود، والعائد منها مولود"، يستقبله ذووه بالورود.
ولعب الإعلام الصهيوني، من حيث لا يدري، دورًا كبيرًا في عملية الضغط على السياسيين في تلك الآونة، مُظهرًا مدى مصداقية المقاومة وقائدها، مقابل ادعاءات قادتهم المزعومة عن النصر والتقدم العسكريين. ففي تلك الحقبة، وقبيل الانتصار ، كان إعلامهم يستعرض صورًا لجنود مطروحين أرضًا، يبكون ويئنون. "وهذا جعل من السيد حسن نصرالله مصدرًا صادقًا لا يشوب حديثه اللبس، بنظر مجتمعهم "، يوضح الشيخ عبيد.
في المقابل، على الطرف الآخر من الحدود، مقاومة تزداد قوة، تملك كل موازين القوى، أبرزها "مجتمع مقاوم هو الآخر، صلب وعازم على النصر"، يقول الحاج أبو علي.
كل ما تقدم، كان أرضية خصبة للنصر في أيار. ولكن..ماذا بعد؟ ماذا عن الأسرى في السجون؟
"تجددت عزيمتنا بُعيد النصر، رغم أن اليأس أضاع على الدوام سبيله إلى نفوسنا"، يؤكد الحاج أبو علي، ويردف: "إلا أننا آمنّا دومًا بأن فك أسرنا لا يمكن أن يكون على حساب عدائنا للصهاينة، ونحن الذين علمنا أبدًا أن قضيتنا هي المحقة العادلة أمام عدو غاشم حاقد".
وعد المقاومة جاء أقرب من التوقعات، "فنصر الـ2000 مهّد فعليًا لتحريرنا من الأسر"، يقول الشيخ، "إذ أن أيلول من العام ذاته جاء حاملًا أشعة شمسه مخترقةً ضباب الظلم والقهر: المقاومة تأسر جنودًا للعدو في مزارع شبعا".
"مرحلة مفصلية كانت تلك"، يقول الديراني مسترجعًا نبضات تلك اللحظات، التي سمع فيها والشيخ عبيد ذاك الخبر من على شاشة التلفاز.
لحظات قليلة مرت قبل أن يظهر حقد العدو الأعمى مقترنًا بجزعه، الذي جعله يسارع لحجب البث عن التلفاز في الزنزانة لأسبوع كامل" يقول أبو ساجد، وذلك خوفًا حتى من مشاعر العزة والفخر التي انتابت الأخوين في المقاومة والصبر بعد توارد تلك الأنباء.
هي تباشير أيار إذًا، حملها أيلول إلى فلسطين، لتمضي سنوات ثلاث، يتبعها أشهر ثلاثة، ليتحقق الوعد باقتراب الحرية. "كنا نصلي مغرب يوم السبت (24\01\2004)، حينما سمعنا إشارة من أسرى الزنازين المجاورة، أن ثمة خبر عليكم متابعته عبر التلفاز: المفاوضات بين حزب الله والعدو، عبر الوسيط الألماني، تأخذ منحىً إيجابيًا"، يسرد الشيخ.
وأطل سيد المقاومة والتحرير في اليوم التالي خلال مؤتمر صحفي، يستعيد الحاج أبو علي ما جرى حينها: "حاولنا التقاط بث قناة المنار للاطلاع على مجريات المؤتمر، وتمكنا من ذلك بطريقة ما". أنبأ الأمين بالبشارة، معلنًا نجاح المفاوضات، إلا أنه حذّر "عدونا عودنا الغدر والنكث بالعهود". وسارت الأمور حسب الاتفاق، خطوات روتينية فصلت الشيخ عبيد والديراني وأسرى آخرين، لبنانيين وعرب، عن لحظة الحرية.
"عندما وصلنا إلى ألمانيا ، هناك، عند باب الطائرة، حيث نزع الجندي الصهيوني القيود من يدي وهممت بالنزول، أدركت أني تحررت، وأنه لم يعد يستطيع النيل من حريتي"، يقول الشيخ وكأنه يشعر بنسائم الحرية تنساب إلى رئيته مجددًا.
مساء الخميس (29\01\2004)، وطأت عجلات الطائرة الألمانية مدرج مطار بيروت، أطلا منها متنشقين عبق الانتصارات، منذ أوائل البدايات، مرورًا بعيد المقاومة والتحرير وصولًا إلى تحريرهما وأسرى باقين من قيد السجان.
"كان مشهد استقبال الأسرى على طول الطريق الممتد من المطار حتى وصولنا إلى مجمع سيد الشهداء "ع" في الضاحية الجنوبية يومها، أشبه ما يكون بمهرجانات التحرير التي شهدتها القرى والبلدات عام 2000 محتفيةً بإنجاز المقاومة العظيم"، يقول الديراني مسترجعًا أدق لحظات ذلك اليوم.
"إنكم يا أخواني الثوار كموج البحر متى توقفتم انتهيتم"، يردد الحاج اليوم، في ذكرى المقاومة والتحرير، وهو ما يزال يحتفظ في صدره بكلماتٍ للسيد المغيب موسى الصدر، لطالما اتخذها المقاومون وغيرها من الكلمات الخالدة للإمام الخميني والإمام الخامنئي وعلماء شهداء ، كالشيخ راغب حرب والسيد عباس الموسوي، أيقونة يرفعونها في درب الجهاد والشهادة.
كما أن سبيل الحرية كان على مر الأزمان مُعبدًا بالتضحيات، هو اليوم كذلك، ضد أعداء الإنسانية من الصهاينة والتكفيريين ومن خلفهم. هنا يؤكد الشيخ عبد الكريم عبيد والحاج مصطفى الديراني على إكمال المسيرة في مواجهتهم، فنصر أيار لم يكن إلا البداية، والنهاية حتمًا تحمل العزة والنصر للباذلين على مذبح الحرية.