ارشيف من :ترجمات ودراسات
مئة عام بعد سايكس-بيكو، خلافة إسلامية تخرج من بين الأنقاض في سوريا والعراق
الكاتب : شمس الدين شيطور
عن موقع alterinfo الالكتروني
29 أيار / مايو 2015
"حياة بلا قيمة، ولكن لا شيء له قيمة الحياة"
آندريه مالرو
خارطة الشرق الأوسط يعاد رسمها بشكل لا رجوع عنه من قبل الإمبراطورية رغم ما تبديه الدولتان السورية والعراقية من مقاومة. فآلبيون الخبيث [البريطاني] (سايكس) وخادمه الخسيس [الفرنسي] (بيكو)، بدآ، قبل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها، بدآ بتقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية. لنعد إلى التاريخ : في العام 1916، كان قد مضى عامان على اندلاع الحرب التي وقفت فيها الامبراطورية العثمانية، "رجل أوروبا المريض"، إلى جانب ألمانيا. وقد شكل ذلك فرصة انتهزها الشريكان البريطاني والفرنسي لتوجيه رصاصة الرحمة إلى الإمبراطورية المتآكلة التي لم تكن قد عرفت الراحة منذ أكثر من قرن بفعل ما تعرضت له من هجمات متلاحقة من قبل هاتين القوتين اللتين كانتا لا تتوقفان عن توجيه الضربات للإمبراطورية تحت ستار حماية الأقليات.
اتفاقيات سايكس-بيكو هي اتفاقيات سرية تم التوقيع عليها في 16 مايو / أيار 1916 بين فرنسا وبريطانيا ونصت على تقسيم الشرق الأوسط (أي الرقعة الممتدة بين البحر الأسود والبحر المتوسط وبحر قزوين والمحيط الهندي) بعد نهاية الحرب، بين هاتين القوتين بهدف التصدي لمطالب تركية. وقد أثارت هذه الاتفاقية استنكار الرئيس الأميركي وودرو ويلسون الذي سعى دون جدوى إلى إعطاء الأولوية إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها. وقد اتفق الفرنسيون والبريطانيون على ترسيم الحدود في مؤتمر سان ريمو الذي عقد في نيسان / أبريل 1920.
سقوط تدمر : سيناريو على الطريقة الهوليودية
وتبعاً لهذه الاتفاقية، تعاني سوريا (بلاد الشام) صنوف العذاب منذ أربع سنوات. وفي ظروف استحالة إسقاط الأسد، تجري إقامة كيان جغرافي تتمدد مساحته بالتوازي مع ما يتم تسجيله من انتصارات. هنالك حدث بارز تداولته وسائل الإعلام : سقوط تدمر ! في الغرب، يقولون أنهم يهتمون بالجانب الحضاري، "بعد تدمير القطع الأثرية في متحف نينوى، جاء الآن -على ما تقوله وسائل الإعلام الغربية- جاء دور القطع الأثرية في تدمر والمصير الذي ينتظر المسيحيين". ومن بين هذه القلوب الطيبة، نذكر جان بونفي الذي كتب : "كان بالإمكان إيقاف ’محمديي‘ داعش المتعصبين في تدمر. لكنهم لم يفعلوا ذلك لسبب واحد هو عدم الصوابية السياسية لأعانة الأسد. وهنالك من بدأ يفرك يديه فرحاً لظهور مؤشر على إمكانية انهيار النظام في دمشق. (...) نحن الأوروبيون نقف الآن إلى جانب أولئك الذين أوجدوا داعش (...). ما إن احتل الجهاديون المدينة حتى دخلوا إلى المتحف وقاموا بتدمير نسخ مصنوعة من الجبس لتماثيل أشخاص عاشوا منذ مئة ألف عام (...). ما الذي سيقوله الديموقراطيون الذين يدافعون عن الحضارات ويقفون معها ضد الهمجيات. إنهم يفضلون على الطاغية الذي يتسامح مع الكنائس إسلاميين يحرقون المسيحيين. يا له من اختيار سيء ومن خيانة أخلاقية !".
لنتكلم عن الخطيئة الأخلاقية ! حياة المئات، لا بل حتى الألوف من العراقيين والسوريين، هل هي أقل أهمية من الحصى، حتى عندما يجري التلمظ بكلمات فجة كالحضارة والإنسانية ومهد الحضارات في أور ونينوى وسومر ؟ لنتذكر مدمري الحضارات الذين وصفهم فيكتور هيغو باللصوص. لنتذكر نهب القصر الإمبراطوري الصيني في أواسط القرن التاسع عشر، وفيما بعد نهب متحف بغداد وسط لا مبالاة الجنود الأميركيين الذين فضلوا الذهاب لوضع اليد على وزارة النفط وآبار النفط.
الواقع على الأرض من وجهة نظر الرئيس الأسد
مقابلة لم تثر إنتباه أحد. أو بالأحرى جرى طمسها بالحبر الأسود. أنها المقابلة التي اجراها صحفي من قناة " France 2" مع الرئيس السوري. رداً على سؤال حول ما إذا كان الرئيس الأسد مسؤولاً عن الخراب الذي يضرب سوريا، قدم الرئيس السوري الإجابة التالية : "منذ الأسابيع الأولى للصراع، اندس الإرهابيون في الوضع السوري بدعم من دول غربية وإقليمية. وقد بدأوا بتوجيه الضربات إلى المدنيين وبتدمير الأملاك العمة والخاصة. (...). الأكيد أن لكل شخص حقه في المطالبة بالحرية. ولكن هل تعني الحرية قتل المدنيين ورجال الشرطة ؟ هل تعني تدمير المدارس والمستشفيات والكهرباء ؟ (...). لقد ظهرت داعش في العراق عام 2006 بإشراف من الولايات المتحدة. أنا لست في العراق، ولم أذهب أبداً إلى العراق، ولا أسيطر على العراق. الأميركيون هم من كان يسيطر على العراق. داعش جاءت من العراق إلى سوريا بفعل عدوى الفوضى. وعندما انتشرت الفوضى في سوريا، جاءت داعش إلى سوريا. وقبل داعش، كانت جبهة النصرة، أحد فروع القاعدة، تتحرك في سوريا".
"الذين يحصلون الآن على الدعم ويمتلكون أسلحة غربية هم من داعش. لقد تم تسليحهم وتجهيزهم من قبل دولتكم ودول غربية أخرى. لم نسمع يوماً داخل جيشنا عن أسلحة عمياء. لكن، عندما تتكلمون عن مجازر عمياء لا تمييز فيها بين المدنيين والمقاتلين، فإن هذه المجازر يتم ارتكابها بواسطة طائرات بدون طيار أميركية في باكستان وأفغانستان ويقتل فيها مدنيون أكثر بكثير مما يقتل فيها إرهابيون. وماذا عن الأسلحة الكيميائية ؟ لا، إنها أكذوبة أخرى تروجها حكومات غربية".
ارهابيون
دافيد بوجادا طرح السؤال التالي : "هنالك اليوم تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة، وهو يقوم بتوجيه ضربات جوية إلى داعش. هل يشكل ذلك مشكلة بالنسبة لكم، أم أنه مساعدة لكم؟ وأجاب بشار الأسد : "لا هذه ولا تلك. لا مشكلة طبعاً قي ضرب الإرهابيين. ولكن، إذا لم يكن التحالف جدياً فإن ذلك لا يساعدنا. فإذا قارنتم عدد الضربات الجوية التي ينفذها تحالف من 60 دولة بعدد الضربات التي ننفذها نحن، ونحن دولة صغيرة، لوجدتم أننا نقصف خلال يوم واحد أحياناً عشر مرات زيادة عما يقوم به التحالف. هل هذا جدي ؟ وهنالك دليل آخر : داعش توسعت في سوريا والعراق وليبيا والمنطقة بوجه عام. كيف يمكنكم والحالة هذه أن تقولوا بأن التحالف كان فعالاً ؟ إنهم ليسوا جديين، ,هذا هو السبب في كونهم لا يساعدون أحداً في هذه المنطقة (...). من غير الممكن تشكيل تحالف ضد الإرهاب وتقديم الدعم في الوقت نفسه للإرهابيين. إذن، سيان بالنسبة لنا إن ضربوا في سوريا أو العراق أو في البلدين معاً طالما أنهم مستمرون في دعم الإرهابيين في الوقت نفسه.
إقامة دولة إسلامية وتحالف عربي-غربي من لا شيء
أخيراً، وعلى سؤال حول ما قاله رئيس الوزراء الفرنسي عندما وصف بشار الأسد بـ "الجزار"، رد بشار الأسد يقوله، وقوله لا يحتاج إلى تعليق : "قبل كل شيئ، أريد أن أكون صريحاً معك. لم يعد أحد يحمل على محمل الجد تصريحات المسؤولين الفرنسيين. لسبب بسيط هو تحول فرنسا إلى نوع من تابع للسياسة الأميركية. فرنسا ليست مستقلة ولا وزن لها بالمرة".
ما يقوله الأسد صحيح ! هنالك وثيقة مذهلة تشرح كيف أن داعش قد أنشئت لكي تحل محل سوريا والعراق. نحن نعلم منذ مدة طويلة أن التحالف العربي-الغربي هو الذي اخترع داعش ومنحها معسكرات للاعداد والتدريب. تشهد على ذلك بوقاحة مذهلة وثيقة صادرة عن البنتاغون. في 18 أيار / مايو الماضي، نشرت " Judicial Watch " مجموعة من الوثائق المختارة التي رفعت عنها السرية. إحدى هذه الوثائق كتبت عام 2012 وصدرت عن وكالة استخبارات الدفاع الأميركية تظهر بشكل واضح رغبة بإقامة "دولة إسلامية" في شرق سوريا. أما الهدف فهو تمكين كل من الغرب وبلدان الخليج وتركيا الذين تجمعهم مؤامرة واحدة من تنفيذ مخططهم على حساب الحكومة الشرعية في سوريا : "الغرب وبلدان الخليج وتركيا تقدم الدعم إلى المعارضة" وهنالك "إمكانية لإقامة إمارة سلفية رسمية أةدو غير رسمية في شرق سوريا، وهذا بالضبط ما تريده القوى التي تدعم المعارضة بهدف عزل النظام السوري". وتشير الصفحات السبع التي يستغرقها التقرير إلى أن تنظيم القاعدة في العراق هو الخطوة الأولى نحو الدولة الإسلامية في العراق التي تحولت إلى "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) التي قدمت، منذ البداية، الدعم الإيديولوجي والإعلامي إلى المعارضة السورية". وفي فقرة تحمل عنوان "الفرضيات المستقبلية حول الأزمة"، يقرر تقرير وكالة استخبارات الدفاع أنه في حال تمكن نظام الأسد من الصمود والاحتفاظ بالسلطة فوق الأراضي السورية، فإن الأزمة ستتصاعد نحو "حرب بالوكالة".
"باختصار، هذه الوثسقة السرية الصادرة عن البنتاغون تثبت أن التحالف العربي-الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة ويزعم أنه يقاتل الدولة الإسلامية (صحيح أن قتاله لها رخو جداً) هو نفسه الذي أشاد قبل ثلاثة أعوام بولادة "خلافة سلفية" في العراق. كما تنبأ بأن هذه الخلافة يمكن أن تتوسع وأن تصل إلى سوريا لإسقاط الحكم الشرعي للرئيس الأسد ولوقف التوسع الاستراتيجي الإيراني. (...) وعليه، فإن السلطات الغربية وحلفاءها السنة في تركيا والسعودية وإمارات الخليج قصدوا إقامة هذه الخلافة وتوقعوا توسعها واستخدامها كأداة لإسقاط السلطات الشرعية في سوريا".
خارطة المشرق الجيوسياسية الجديدة
"لقد تعقد الوضع في المشرق إلى حد كبير بفعل إقامة الإمارة الإسلامية وقطع "طريق الحرير" القديمة، أي الممر القائم بين إيران والبحر المتوسط. ولم يبق غير خيارين اثنين : إما عن طريق دير الزور وحلب، وإما عن طريق تدمر ودمشق (...). وقد تتملكنا الدهشة لكل هذه الأهمية المعطاة في الصحافة الغربية لسقوط تدمر، مع أن التقدم الأكبر الذي حققته داعش هذا الأسبوع لم يكن في سوريا ولا في العراق، بل في ليبيا، حيث تم سقوط سيرت، وهي مدينة يزيد عدد سكانها خمس أو ست مرات عن عدد سكان تدمر. ولكي يعطون الوضع طابعاً أكثر مأساوية، يجمع الصحافيون الغربيون على أن داعش باتت تسيطر على نصف الأراضي السورية.
وخلافاً لحماقات بعض الصحافيين الذين يتهمون "نظام بشار" بأنه قام بصنع داعش لهدف تقسيم المعارضة ودفعها للانزلاق في التطرف، تؤكد وكالة استخبارات الدفاع أن "الإمارة الإسلامية تتحرك وفق الاستراتيجية الأميركية". فتقريرها الصادر في 12 آب / أغسطس 2012 يكشف بوضوح عن مخططات واشنطن.
وكما سبق لنا وقلنا على الدوام، فإن الإمارة الإسلامية قد تنامت بفعل قرار صادر عن الكونغرس الأميركي في اجتماع سري عقد في كانون الثاني / يناير 2014 بهدف تنفيذ خطة رايت. والمقصود هو إقامة "كردستان" و"سنيستان" بين سوريا والعراق بهدف قطع "طريق الحرير" بعد شراء دير الزور (المدينة تم شراؤها دون حرب من مومظفين فاسدين"(...) وعليه، فإن تدمر، "مدينة الصحراء" ليست مجرد أثر باق من ماض رائع، بل هي جزء استراتيجي من التوازن الإقليمي. من هنا، فإن الزعم بأن الجيش العربي السوري لم يسع إلى حمايتها هو زعم مضحك.
من المعروف أن بلدان التحالف لم تقاتل داعش بشكل فعلي. حتى السناتور ماكين أقر بذلك. ويقول تييري ميسان أن ”التحالف الدولي المضاد لداعش والذي أقامته الولايات المتحدة في آب / أغسطس 2014، لم يقاتل الجهاديين مطلقاً. وعلى العكس من ذلك، هنالك إثباتات أن الطائرات الغربية لم تقم مرة واحدة "عن طريق الخطأ"، بل أربعين مرة، بإلقاء أسلحة وذخائر إلى الإمارة الإسلامية. ثم إن التحالف المذكور المكون من 22 دولة يزعم أنه يحرك أعداداً من المقاتلين يفوق عدد مقاتلي داعش، ويتفوق عليهم لجهة التدريب والعتاد. ومع هذا، فإنه لم يتمكن من إجبار الإمارة الإسلامية على التراجع. لا بل إن هذه الأخيرة لا تتوقف عن السيطرة على طرقات جديدة. ومهما يكن من أمر، فإن واشنطن قد غيرت استراتيجيتها وعادت إلى اعتماد تصور إمبراطوري كلاسيكي يقوم على التعامل مع دول مستقرة وثابتة. ولكي تتوصل إلى توقيع اتفاقيتها مع إيران، عليها الآن أن تتخلص من الإمارة الإسلامية قبل 30 حزيران / يونيو. ذلكم هو معنى اجتماع أعضاء التحالف الـ 22 (ومنظمتين دوليتين) في باريس في 2 حزيران ، يونيو. إذن، من الآن وحتى ذلك التاريخ، سيكون على البنتاغون أن يقرر إما أن يدمر الإمارة الإسلامية، وإما أن ينقلها إلى مكان آخر لاستخدامها في تنفيذ مهام أخرى. كل المشكلة هي في معرفة ما إذا كان الوحش سيخرج عن إرادة من قام بتصميمه، أو ما إذا كانت الخلافة الإسلامية ستتمكن من الاستمرار دون الاعتماد على عرابيها.
التجاذبات الروسية-الأميركية
في السياق نفسه، وفي ما تستتبعه زيارة وزير الخارجية الأميركي إلى سوتشي ولقاؤه، في 12 مايو / أيار 2015، مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، وبعدها زيارة المبعوث الأميركي الخاص في سوريا بتارخ 18 أيار / مايو إلى موسكو، ثم المؤتمر الذي عقد على الهاتف في 21 أيار / مايو، من الواضح أن واشنطن وموسكو قد اتفقتا على الدخول في عملية سلمية في سوريا. وقد جاء هذا الاتفاق بناء على اقتراح قدمته واشنطن. وقد اتفق الطرفان على مواصلة التعاون فيما بينهما من أجل التخلص من الأسلحة الكيميائية في سوريا. ويبدو أنهما اتفقتا أيضاً على أن الرئيس بشار الأسد سيكمل فترته الرئاسية، غير أن المفاوضات ستتركز على تشكيل حكومته. كما تم الاتفاق على إنشاء هيئتين جديدتين تشتملان على جميع أطياف المعارضة، وهما "المعارضة السورية الوطنية" (مستقلة) سيتم تشكيلها في 8 و9 حزيران في القاهرة من قبل أحزاب سياسية سورية وشخصيات في المنفى.
وهنالك هيئة أخرى سيتم تشكيلها برعاية المملكة السعودية في حزيران / يونيو أو تموز / يوليو في الرياض. وستدعى هذه الهيئات مع الحكومة السورية الى مؤتمر سلام ينعقد خلال هذا الصيف في كازاخستان ( دولة إسلامية حليفة لروسيا).
ويقال بأن النظام السوري الذي أضعفته أربع سنوات من الحرب هو بصدد الاقتناع بتقسيم فعلي للبلاد عن طريق تقليص طموحاته والاكتفاء بـ "سوريا المفيدة". ففي مقابلة أجرتها معه وكالة الأنباء الفرنسية، يقول وضاح عبد ربه، مدير صحيفة الوطن القريبة من النظام أنه "من المفهوم تماماً أن ينكفيء الجيش السوري لحماية التجمعات التي تعيش فيه أعداد كبيرة من السكان الذين هرب قسم منهم من جهاديي داعش والنصرة، الفرع السوري لتنظيم القاعدة". كما يرى أنه "لم يعد على الجيش السوري أن يقاتل وحده ضد الإرهاب، وأن على العالم كله أن يفكر فيما إذا كان من مصلحته أم لا أن تقوم دولة أو دولتان تمارسان الإرهاب". وهو يشير بذلك إلى إعلان داعش إقامة دولة خلافة بين سوريا والعراق، وإلى رغبة جبهة النصرة بإقامة إمارة إسلامية في شمال سوريا.
من المؤكد أننا نشهد عملية إعادة تنظيم للعالم. فالقوتان الكبريان ستتفاهمان وستتفقان على حدود جديدة تضمن مصالح كل منهما. أما الفرنسيون والبريطانيون فمحكومون بلعب دور قوى ثانوية. ولجهة الألمان الذين يراهنون دائماً على حصانين في وقت واحد، فإنهم سيميلون إلى جانبي روسيا (استمرار سياسة شرودر). يبقى الخاسرون الدائمون، وهم هنا أيضاً العرب.
وهنا يمكننا طرح السؤال التالي : لماذا هذا الغياب العالمي للمعايير الاجتماعية والذي يستمتع بعذابات الضعفاء ؟ هل أن ما يجرى هو صدام حضارات بحسب التسمية التي أطلقها صمويل هنتينغتون ؟ أم أنه حروب دينية جديدة وتوحيدية تحديداً تشنها أديان تدعو، مع ذلك، إلى المحبة ؟ أم أن ذلك هو أخيراً هو النيوليبرالية الكاسرة التي لا يمكنها أن تزدهر إلا على حطام الضعفاء، خصوصاً إذا كانوا يمتلكون منابع النفط، "أوساخ الشيطان" على ما أسماه عن حق هيغو شافيز ؟ الأمر هو كذلك إلى حد ما. الأمم المتحدة هي اليوم أقل ما تكون توحداً. ونلاحظ بمرارة أن أشكال الحماس الحالمة لحقوق الإنسان والحرية والديموقراطية ليست غير عصف ريح. إنها في الواقع معركة الأقوياء في كل مكان من العالم.
لقد جاء دور الضعفاء في البلدان المتقدمة. نلحظ ذلك في حالة البؤس التي وصل إليها اليونانيون والبرتغاليون والإيطاليون والإسبان. المعركة الحقيقية هي، من وجهة نظري، معركة معذبي الأرض أياً تكن مستوياتهم ضد عولمة جارفة تسحق آمال ومصائر الضعفاء.
أكثر من أي وقت مضى، علينا أن ندعو إلى حب الآخر وأن نبين أن المهاجر الذي ضاقت به السبل، وصاحب الدخل المتدني الذي لا يغطي دخله مصروفه الشهري، والفلاح الذي تحول إلى عبد لتوجيهات بروكسل، ومواطني بلدان الجنوب الذين يحكمهم بقبضة من حديد طغاة يدللهم قادة النخب الغربية الحاكمة، كل هؤلاء عليهم أن يخوضوا المعركة ذاتها، معركة الشرف والعودة إلى الإنسانية التي فقدت معناها في هذه الأيام.