ارشيف من :ترجمات ودراسات

العولمة : نحو جنة الخلد أم نحو حديقة حيوانات بشرية ؟

العولمة : نحو جنة الخلد أم نحو حديقة حيوانات بشرية ؟

الكاتب :  Jacques-Robert SIMON
عن موقع  Agoravox
22 حزيران / يونيو 2015


لم يبق أحد في العالم إلا وبات يعتقد بوجود مقصد رسالي تسعى الولايات المتحدة من خلاله إلى إعادة تشكيل العالم على صورتها. أما عملية التوصل إلى ذلك فبسيطة جداً : الدول تقترض الأموال لكي تتمكن شعوبها من الاستمتاع حتى الشبع. الديون تشد البلاد إلى النظام العالمي بشكل لا فكاك منه. عندها تصبح التنظيمات السياسية والاجتماعية المحلية خاضعة للقواعد والمعايير الأميركية. وما الضرر في ذلك؟ ولكن هل يمكن لهذه المقاربة أن تكون صحيحة في حين أن المشكلة الأساسية التي نواجهها هي مشكلة بيئية؟

ظهور أنماط تكنولوجيا الاتصالات الجديدة وتنامي وسائل النقل سمحا بتحرير المبادلات على الصعيد العالمي وألحقا الضرر باشكال الحكومة المحلية وبحقوق العاملين المكتسبة. فالرأسمالية المعولمة تتجه في كل مكان تبسط سيطرتها عليه نحو جعل أنماط النشاط واحدة، ولكن دون أن تقلص الفوارق والصراعات الطبقية.

لنأخذ مثالاً عما يمكن أن ننتظره من "العولمة"، أي من هذا التعبير الذي أصبح دالاً في اللغة الجديدة المعتمدة في وسائل الإعلام على "الرأسمالية المعولمة":

متوسط الدخل لأحد سكان الهند هو على وجه التقريب أقل بعشر مرات من دخل أحد الفرنسيين. على ذلك، وفي ظروف متساوية لجهة الكفاءة والعناصر المحيطة، فإن للمستثمر [الفرنسي] كامل المصلحة في أن يذهب إلى الهند ليصنع أي شيء يتطلب يداً عاملة مرتفعة الثمن في [فرنسا]. ثم إن الإنتاج الإجمالي للثروة سيزداد في هذا البلد [الهند]، كما سيتحسن مستوى المعيشة. في الوقت نفسه، فإن مستوى معيشة الفرنسي الذي يتمتع بمستوى تأهيل يعادل مستوى تأهيل الهندي سيبقى على حاله كي يحافظ المنتج الفرنسي على قدرته التنافسية. ويمكن للبلدين أن يتجها على المدى البعيد نحو تحقيق وضع اقتصادي متكافئ، لكن 250 مليون نسمة مقابل 0658، 0 ملياراً في فرنسا، يفضي بالضرورة إلى انخفاض هام في مستوى معيشة الفرنسي. تلك أمور بات يفهمها الجميع بمن فيهم المختصون في الاقتصاد !  فبفضل ما لديهم من برامج المعلوماتية، بات بمقدورهم أن يتنبأوا بمقدار الوقت اللازم لكي يصل العالم كله إلى المستوى الاقتصادي نفسه. فالرأسمالية يمكنها أن تحقق ما لم تنجح في تحقيقه الطروحات العالمثالثية التي تنبأت بتراجع النمو في البلدان الغنية وبتسارعه في البلدان الفقيرة. وبالفعل، كان ذلك شرطاً إجبارياً لتحقيق جنة عدن. غير أن غياب المساواة داخل المجتمعات الغنية والفقيرة على السواء لم يتراجع على الإطلاق. فاللامساواة هي في الحقيقة الملاط الاجتماعي الذي يسمح لمجتمع من النمط الرأسمالي بأن يقوم بوظيفته: أي أن حديقة الحيوانات البشرية قريبة من جنة عدن.   

لكن، هناك مشكلات تستعصي على الحل: هل يمكن للمجتمعات الفقيرة أن تلحق بالمجتمعات الغنية دون صدام، على ما يتمناه كثيرون من وجهة النظر الأخلاقية ؟ وهل تكفي قدرات الكوكب لتوفير الموارد الضرورية للعيش في مجتمع المستقبل؟
الإجابة هي، بكل وضوح، سلبية في الحالتين:

العولمة : نحو جنة الخلد أم نحو حديقة حيوانات بشرية ؟
العولمة

كل إنسان يعيش في الولايات المتحدة يستهلك كمية من الطاقة تزيد بـ 3،6 مرات عن المتوسط العالمي، وهذا الرقم يجب أن يقرأ على ضوء الواقع المتمثل بعدد سكان الولايات المتحدة البالغ 320 مليوناً وبعدد سكان الكوكب الذي يزيد عن 7 مليارات نسمة. هذا يعني أن الكوكب يحتاج إلى كمية من الطاقة تزيد بـ 80 مرة عن الكمية المستهلكة حالياً، كي يكون من الممكن لكل إنسان يعيش على الأرض أن يستهلك كمية من الطاقة تعادل ما يستهلكه المواطن الأميركي. وقد بات الجميع يلاحظون ما تعنيه هذه الأرقام ويعرفون ما يطرحه هذا الواقع من مشكلات. ومن جهتهم، فإن الحكام ومن يحيط بهم من خبراء يعلمون ذلك جيداً ويمكنهم أن يفهموا كافة متعلقات هذه القضية. ولكن ما الذي يمكن فعله طالما أن تحقيق الأهداف غير ممكن وأن الجميع يعلمون ذلك.
خلال السبعينات، تنامت محاولة لخلق بشر جدد يتمتعون بصفات الاتزان واحترام الطبيعة ويشجعون الإنتاج الحرفي الرفيع المستوى على الإنتاج المكثف والخاضع لمعايير موحدة. لكن، تبين أن هذا التوجه المرتبط بشكل أساس بالعالم الغربي غير مفهوم من قبل أولئك الذين لم يكونوا يمتلكون شيئاً مما يمتلكه أصحاب هذا التوجه. فهذا الإنسان الجديد كان يريد تغيير العالم عبر تغيير نفسه وتغيير نفسه عبر التخلي عن كل بقايا البهيمية التي ربما تكون قد علقت بنفسه. كان يكره السيطرة والإكراه والعنف، ويدعو إلى عالم جديد بقوة القانون وخصوصاً بقوة الأسوة الحسنة. والحقيقة أن بعض مظاهر هذا التوجه الجديد قد ازدهرت وانتشرت، فأصبحت أواليات السيطرة أكثر خفاءً، وحققت أنثنة المجتمعات خطوات إلى الأمام، لكن العلاقات الاجتماعية بقيت مرتكزة بشكل أساس إلى القوة، وإلى قوة المال بشكل يكاد يكون حصرياً.

وهكذا بدا أن الإنسان الجديد قد مات قبل أن يولد. وعلى أي حال، لم يكن بمقدوره أن يجد ملتجأً في بيئته ومحيطه. فالطاقة المتجددة تتطلب انتشار المساكن، إذ يستحيل تأمين الطاقة (لمدن ضخمة يسكن في كل منها ملايين الأشخاص) عن طريق الخلايا الناقلة للأشعة أو المراوح التي يحركها الهواء. وهكذا، لم يبد أن الإنسان المتزن والذي يحترم الاختلاف والطبيعة هو الإنسان الذي كان بإمكانه أن يكون نزيل جنة عدن.

لكن، يمكن التطلع إلى نوع آخر من البشر الجدد، إلى إنسان حديث أو على الأقل يزعم لنفسه هذه الصفة، إلى إنسان يساير التقدم ويعيشه ويقوم بوظائف أكثر اتساعاً بفضل التكنولوجيا (عن طريق أعضاء اصطناعية تتحرك بأوامر من دماغه)، إلى إنسان بالغ القوة والمقدرة ومحصن من الموت بفضل خلايا "متجددة البرمجة". إنه إنسان غوغل  2.0 .  إنسان هو عبارة عن غولدوراك * من نوع جديد يختلف من وجوه عديدة عن "الإنسان العاقل" الحالي لجهة كونه غير عاقل وغير ذكي وغير حكيم وغير حذر. قدراته التقنية والجسدية ومهارته في الحساب لا مثيل لها إطلاقاً ولا يمكن امتلاكها من قبل البشر العاديين. لكن هذا الإنسان الجديد يفتقر إلى الأمر الأساسي : الروح أو النفس. هؤلاء البشر الجدد هم إذن عبارة عن أموات يتحركون. فالروح أو النفس هي المبدأ الملازم والمفارق في كل كيان يتمتع بالحياة. إنها غير متمايزة عن الحياة لأنها هي الحياة. فنحن غالباً ما نكتب عندما يموت شخص ما بأنه قد فارق الروح. هنالك من يعتقد بأن هذه الروح تذهب نحو عالم وراء هذا العالم. ويعتقد آخرون بأن ذاكرة البشر هي ما يحتفظ بتلك الروح. فالفرق هو بين مؤمنين وغير مؤمنين. النفس أو الروح هي ما سمح بأشكال التجديد الأكثر جنوناً، وبالأفكار الأكثر جموحاً، والإنجازات الأكثر جرأة. الإنسان 2.0 لا يمتلك شيئاً من هذا حتى ولو كان تقليده للـ 100 مليار خلية دماغية وما يتصل بها من عصيبات يتكون منها الدماغ لا يقع بعيداً عن متناول العبقرية البشرية. ولكن يبقى عليه أن يؤمن الإتصال بين هذه العصيبات (هنالك عشرة آلاف عملية اتصال على مستوى كل خلية دماغية) عن طريق العديد والعديد من الجزيئات الكيميائية. ثم إن الأدمغة نفسها ليست منعزلة أو منفصلة عن بعضها البعض : إنها تتفاعل لا عن طريق جزيئات بحسب الاعتقاد الذي كان سائداً، بل عن طريق ما نسميه عموماً بالفكر، حتى ولو كان يتم إطلاق مصطلح الفكر على عواهنه في بعض الأحيان. فالعقل البشري ليس عقل رجل، بل إنه من صنع الجميع. إن الصياغات الأكثر تعقيداً أو شبكات الترانزيستور الأكثر براعة لا يمكنها أن تنافس العقل البشري. فالجزء لا يمكنه أن يحل محل الكل.

عندما يتصارع رجلان، هل من الضروري أن يكون الهلاك نصيب أحدهما ؟ لقد وصلنا إلى مفترق طرق : فهل نحن ذاهبون إلى جنة عدن أم إلى حديقة حيوان بشرية ؟ ولا مجال للتوفيق بين هاتين القضيتين : الغريزة مقابل العقل، السيطرة مقابل الاحترام، تعددية أماكن تجميع الطاقة مقابل المراكز الكبرى ؟ كل شيء يحول دون المصالحة بين هاتين القضيتين.

منذ أواسط القرن الماضي، قامت الولايات المتحدة بإعلان نفسها "قائدة" للعالم الحر، أي لعالمها في الحقيقة. ولا فائدة من سرد الأمثلة عن أسلوب العنف الذي لا تتردد الولايات المتحدة عن اللجوء إليه: من قصف هيروشيما وناكازاكي إلى قصف فييتنام، وأخيراً إلى الغزو العسكري للعراق.  
وإلى جانب أسلوب العنف، هناك جاذبية المظهر الأميركي الذي لا يكاد يقوى على مقاومته شيء والذي انتهى بإفحام أولئك الذين كانوا ما يزالون يشكون بالرسالة ذات الطبيعة الإلهية التي تحملها الولايات المتحدة.

صحيح أن الولايات المتحدة هي البلد الوحيد الذي يمكنه أن يفرض النظام على المستوى العالمي، وذلك بالنظر إلى إنفاقه العسكري الذي يساوي الإنفاق العسكري لبلدان العالم كله. من هنا، فإن مستقبل العالم مهدد فيما يبدو بأن يكون مشابهاً لحاضر الولايات المتحدة: قلة قليلة من الأغنياء تسيطر خارج أي إطار ديمقراطي حقيقي على الكثرة الكثيرة من المعدمين الذين تم إخضاعهم بقوة التلفزيون، وبعض المساعدات المالية، وبالدخول الحر إلى عالم الجنس.
إقامة بنيان آخر يحتاج إلى جهود جبارة والكثير الكثير من العقل، ولكن، وبالتأكيد، كثير من العقل الذي لا يأتي عن طريق الفوز في الامتحانات.         

* غولدوراك : إنسان آلي يقوم بدور البطولة في مسلل ياباني ظهر عام 1975 وأحدث ضجة عالمية.
2015-06-30