ارشيف من :آراء وتحليلات
مباحثات اليونان والدائنين العالميين امام الجدار المسدود
بعد الانتخابات النيابية اليونانية في 25 كانون الثاني الماضي وانتصار حزب "سيريزا" الراديكالي اليساري، شكل الحزب حكومة ائتلافية برئاسة اليكسيس تسيبراس، شارك فيها حزب "المستقلين اليونانيين" ذو التوجه الأرثوذكسي، الذي اعطي عدة "وزارات دولة" لوزراء بدون حقائب ووزارة سيادية واحدة هي وزارة الدفاع التي تسلمها رئيس هذا الحزب بانوس كامينوس.
أزمة المديونية الخارجية
ومع ان انتصار اليسار الراديكالي يعتبر انقلابا حقيقيا في الحياة السياسية لليونان على المستوى الداخلي، فإن الحكومة الجديدة كان عليها ان تؤجل النظر في اية مسألة كانت، وان تركز كل جهودها لاخراج البلاد من الازمة المالية ـ الاقتصادية الخانقة، حيث ان الخزينة فارغة تماما، والحكومة بالكاد تستطيع دفع الأجور. وقد بلغت البطالة نسبة متوسطة 25% من اليد العاملة، و60% في صفوف الشباب.
اليورو فوق السيادة الوطنية
وبحكم الطبيعة الخارجية لازمة المديونية اليونانية، فإن الحكومة لا تملك استخدام "حلول وطنية" داخلية للازمة، عن طريق اللجوء الى "اسفنجة التضخم" وطباعة كمية إضافية من العملة، ذلك ان اليونان هي عضو في منطقة اليورو ولا تملك عملتها الوطنية الخاصة، ومن ثم لا يحق لها طباعة اليورو، بل فقط اقتراضه.
ديون اليونان
وكان يتوجب على الحكومة الجديدة ان تبحث عن حلول للازمة على خطين: الأول خط التفاوض مع الدائنين الخارجيين. والثاني البحث عن آفاق جديدة لانعاش الاقتصاد اليوناني.
الفخ القاتل لـ"البرنامج الانقاذي"
وعشية الانتخابات وتشكيل الحكومة الجديدة، كانت "الترويكا" قد طرحت على اليونان "برنامجا انقاذيا" يقضي بتقديم قروض جديدة (على دفعات) لتمكين الحكومة اليونانية من تسديد أقساط الديون القديمة، ومن ثم عدم اعلان "عدم القدرة على الدفع" و"الإفلاس"، واحتمالات خروج اليونان من منطقة اليورو وربما من الاتحاد الأوروبي أيضا، بكل المضاعفات الاقتصادية والسياسية لهذه الاحتمالات، على اليونان ومنطقة اليورو والاتحاد الأوروبي ككل. ولكن مقابل "برنامج الإنقاذ" المالي هذا فإن "الترويكا" تطالب اليونان بتطبيق ما يسمى "إصلاحات" تتمحور كلها حول المزيد من الإجراءات التقشفية.
ولعدم "كسر الجرة" مع الدائنين الخارجيين، ولقناعتها بضرورة عدم الخروج "طوعا" من الاتحاد الأوروبي، من جهة، ولكسب الوقت للبحث عن آفاق أخرى، من جهة ثانية، وعدت حكومة تسيبراس بالشروع في دراسة المقترحات "الاصىلاحية" للترويكا. وبدأت المفاوضات مع الترويكا تحت هذا العنوان.
ومن جانبها فإن الترويكا لم تكن تستهين بالمضاعفات الدولية لخروج اليونان من الاتحاد الأوروبي، ومن اعلان "افلاسها" من وجهة نظر المؤسسات المالية الغربية، بما سيترتب عليه من الخسارة المحتمة لمئات مليارات اليوروات التي سبق وقدمت كقروض "انقاذية" لليونان. ولهذا قررت الترويكا منح حكومة تسيبراس الراديكالية اليسارية ـ الارثوذكسية مهلة يتم فيها الشروع في تنفيذ البرنامج "الانقاذي" الجديد، وتقديم القروض الجديدة لايفاء القديمة، قبل إقرار برنامج "الإصلاحات" من قبل حكومة تسيبراس. وكان من المفترض حسبما اعلن ان تنتهي هذه المهلة في 30 حزيران الماضي.
مفاوضات ماراتونية
وخلال الأشهر الماضية، ولا سيما في الشهر الأخير أي حزيران، جرت محادثات ماراتونية مكثفة ومحمومة بين اليونان والدائنين الخارجيين.
وكانت المباحثات تدور حول خيارين متناقضين في ذاتهما، ومتناقضين فيما بينهما:
الأول ـ رفض الدول الأوروبية (الى درجة الرعب) فكرة فصل اليونان من الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت ذاته الإصرار على "اقناع" الحكومة اليونانية بتطبيق وصفة "الإصلاحات" التي يشترطها الدائنون الدوليون لاجل الموافقة على تنفيذ ما يسمى "برنامج الإنقاذ" المالي لليونان، الذي يعني في الحساب الأخير ان "ينسى" الدائنون ما دفعوه حتى الان لليونان وان يدفعوا لها فوقه ربما اضعافه.
والثاني ـ هو ان الحكومة اليونانية الجديدة، ترفض رفضا قاطعا وصفة "الإصلاحات" التي يقترحها الدائنون الدوليون، لانها تعتبر ان هذه الوصفة "التقشفية" كما تسمى تعني شيئا واحدا: القضاء على الشعب اليوناني. ولكن في الوقت نفسه فإن الحكومة اليونانية لا تريد ان تسجل على نفسها ان اليونان "انفصلت بارادتها" عن الاتحاد الأوروبي.
وقد لخص وزير العمل اليوناني بانوس سكورليتيس الوضع كما يلي: في كل مرة تحاول اليونان ان تجد حلا، فإن الدائنين يقولون "هاتوا لنا بقسم من المتقاعدين حتى نقضي عليهم".
وتنطلق الحكومة اليونانية في موقفها هذا من قناعتين رئيسيتين:
الأولى ـ الادراك الراسخ بأن الشعوب الأوروبية جميعا تكن احتراما عميقا للشعب اليوناني الذي اضطلع تاريخيا بدور الخميرة الأولى للحضارة والنهضة الاوروبيتين. ولا تريد حكومة تسيبراس ان تعطي الامبريالية والصهيونية أي حجة بانها تدير ظهرها لـ"الشعوب الأوروبية"، بل على العكس هي تريد ان تسهم في استنهاض الشعوب الأوروبية ضد الامبريالية الغربية والصهيونية العالمية.
والثانية ـ الادراك التام بأن اليونان هي جزء رئيسي لا يتجزأ من الحالة "المسيحية الشرقية" التي كانت عبر التاريخ عقبة كأداء وشوكة في حلق الشركة العالمية الجهنمية للكتلة الامبريالية الغربية ـ اليهودية ـ الاسلاموية ـ التركية (العثمانية والاتاتوركية).
من يعوض لليونان
وهذه الكتلة تتحمل المسؤولية الكاملة عما حل باليونان من دمار هائل ومن مجازر وابادة وتهجير ملايين اليونانيين قبل وخلال وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهي أيضا التي تتحمل المسؤولية الكاملة عن الازمة المالية الراهنة لليونان. واذا كانت الكتلة الغربية وحلفاؤها يؤمنون بمبدأ التعويض ويمارسونه، فلماذا لا يتم التعويض على اليونان، بل تعامل على طريقة "مكافأة المجرم ومعاقبة الضحية"؟
فشل المفاوضات مع الدائنين
وبعد الفشل التام للمفاوضات بين الطرفين، وانتهاء مهلة الانذار لليونان، في 30 حزيران الماضي، اعلن تسيبراس ان اليونان لا تقبل بأي انذار يمس سيادتها والتاريخ العنفواني لشعبها، وانها توقف المفاوضات من جانبها. كما اجتمعت الحكومة اليونانية وأصدرت قرارين: اقفال البنوك والاستفتاء العام.
وفي الوقت ذاته صرح رئيس الوزراء السابق وزعيم المعارضة اليمينية أندونيس ساماراس ان الاستفتاء سيكون عمليا: مع او ضد بقاء اليونان عضوا في الاتحاد الأوروبي.
اليكسيس تسيبراس
وترجح غالبية المراقبين المحايدين ان تصوت غالبية الشعب اليوناني بـ" لا " للاقتراحات الغربية.
وفي رأينا انه مهما كانت نتيجة الاستفتاء فإن صفحة التصادم بين اليونان والكتلة الغربية (وشراذم حلفائها اليونانيين) قد فتحت على مصراعيها. واذا كانت الثورة الدمقراطية الشعبية اليونانية في 1946 ـ 1949 قد ووجهت بقوة الدبابات الإنكليزية، واذا كانت اليونان قد ألقيت في أحضان الناتو والاتحاد الأوروبي، عملا بمنطوق "اتفاقية يالطا" التي وقعها ستالين في 1945، فإن الوضع الراهن اصبح يختلف جذريا:
فأولا ـ ان "اتفاقية يالطا" سقطت نهائيا مع انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.
وثانيا ـ ان خط الخيانة الوطنية لروسيا، الذي دشنه ستالين، وتابعه خروشوف وغورباتشوف ويلتسين، قد سقط الى الابد.
وثالثا ـ ان الحزب الشيوعي اليوناني ذا القيادة الخشبية التي كانت تأتمر بشكل اعمى بالقيادة الستالينية والنيوستالينية، قد افلس تاريخيا وتحول الى قوة هامشية تسعى الان للاحتفاظ ببعض رصيدها الشعبي القديم بالمزايدة الوطنية على اليسار الراديكالي اليوناني، تماما مثلما يسعى الحزب الشيوعي الروسي الحالي للمزايدة الوطنية على بوتين وحزبه في روسيا. وهذه هي ظاهرة "صحية" تعني ان التاريخ سيعود ليأخذ مجراه الصحيح في التعاون بين الشعوب الشرقية المناضلة (وطليعتها روسيا والشعوب المسيحية الشرقية) وبين القوى التقدمية في الغرب، ضد الشركة الجهنمية للامبريالية الغربية واليهودية العالمية والاسلاموية "العثمانية ـ الداعشية".