ارشيف من :نقاط على الحروف
عن الثقافة المقاومة: غسان كنفاني نموذجاً -1-
"المقاومة فعلُ حياة؛ لا فعل موت. إننا حينما نختار أن ترحل أجسادنا فذلك لأننا نحب أن نحيا كراماً فوق هذي الأرض. خلقت أكتاف الرجال لحمل البنادق، فإما عظماء فوق التراب؛ أو عظماء تحته".
غسان كنفاني – كاتب فلسطيني
يبدو تعبير "ثقافة المقاومة" فعلاً شائكاً بحتاً، فهو وإن كان مرتبطاً بكلمة "الثقافة" باللغة العربية (من ثقّف الشيء أي هذّبه وأحسن صنعه، وكذلك شذبه وجعله حاداً المرتبطة بالسهام والرماح أي "الحرب" التي تختلف اختلافاً جذرياً عن كلمة الثقافة باللغة الإنكليزية (culture) القادمة من فعل (cultivate) أي زرع ونمى وربى (المرتبطة بالحضارة الزراعية/النباتية) فهو يأتي مضافاً إليه كلمة "المقاومة". من هنا كان التعبير شائكاً للغاية، وإيجاد "تعريفٍ" منطقي له أكثر صعوبة مما يتوقع البعض. تأتي الثقافة أساساً، كمفهوم وجود، لا كمجرد إطارٍ تجري الحركة من خلاله، فمن نافل القول أن نقول أن المنتصر هو من يصنع "الثقافة" التي يريدها وعلى المهزوم أن يتقبل ذلك، وأن يعيش من خلاله، هذا هو التعريف العلني والواضح. من هنا تأتي ثقافة المقاومة كبديلٍ عن ثقافة المنتصر مقابل ثقافة المهزوم، فهي في إسرها وإزارها تقف مع المهزوم/الضعيف "حاميةً" و"حافظةً" له ولتراثه.
بالتالي، فإن مجرد "البقاء" حياً هو انتصارٌ لثقافة "المقاومة" أكثر من أي فعلٍ آخر في المرحلة الأولى؛ فيما بعد، تبدأ المراحل بالتصاعد حتى الوصول إلى مرحلة "التمظهر" و"الأسطرة" (أي صناعة الأسطورة). من هنا واجهت ثقافة المقاومة (كما أي ثقافة مقاومة) أعداء يتميزون بوحشية بالغة، ومقدراتٍ لا حدود لها، لذلك كان مجرد التفكير في إنشاء ثقافة مقاومة يواجه بعنفٍ لا نظير له. تزخر محاولات "خلق" ثقافة مقاومة بالتجارب الكثيرة، والتي عانى كثيرٌ منها فشلاً شديداً بينما انتصرت أخريات، ذلك أن الصلابة هي المقياس في صراع الوجود هذا. وبما أن الصلابة هي الأصل، فإن الإرتباط بالأرض كان مقياس صلابةٍ في حد ذاته، فنجحت مثلاً التجربة الروسية(السوفياتية لاحقاً) في مقاومة الإحتلال الألماني، وازدهرت منتشرة في أنحاء العالم بصفتها معبراً عن "مقاومة" للمحتل الغازي. فأصبحت معالم هذه المقاومة معالماً "عالمية" لا مجرد "ثقافةٍ روسية/سوفياتية فحسب"(مثلاً رواية "الأم" لمكسيم جوركي والتي كتبت في شهرٍ واحدٍ فحسب، أو رواية "كيف سقينا الفولاذ" لفيكتور أوستروفسكي)؛ بدورها نجحت الثورة الفيتنامية ليس فقط في التغلّب على المحتل الأميركي، بل إنها أيضاً قدمت "ثقافة مقاومة" شعبيةٍ للغاية عبر أغاني الفيتكونغ (المغني الشعبي هاو شي مان). عربياً راكمت الثورة الفلسطينية على تجارب ثوارٍ آخرين قبلها وصولاً إلى إيجاد تجربة "ثقافة مقاومةٍ" خاصة بها، الأمر الذي "مظهر" ثلاثياً فلسطينياً شهيراً -ضمن هذه الثقافة- عربيا/شرقياً: محمود درويش (شعراً وإن لم يكن الوحيد أو الأهم، لكنه الأشهر)، غسان كنفاني (نثراً ومسرحاً)، ناجي العلي (رسماً وكاريكاتيراً).
في أصل الصورة:
كانت البدايات متواضعةً كالعادة، ففكرة إيجاد ثقافة مقاومة تستطيع مقاومة "السيل" كانت فكرة مخيفة، فالمقاومة كفعل أصل هي أساساً نوعٌ من التغلّب على "سيلٍ" عارم من "الضغوط" التي قد لا يحتملها الغير. شهدت فترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ثورات في العالم أجمع، إلا أنها في الوقت نفسه شهدت هزائم "عربية/شرقية" كثيرة (فمن النكبة 1948 إلى النكسة 1967) الأمر الذي خلق تيارين متضادين: تيار ينادي بالسلام وثقافة "الحياة" بشكلها الانهزامي الإستسلامي؛ وآخر ينادي بالمقاومة المسلحة المحاربة. اشتهر التيار الأوّل بكراهيته ونبذه واحتقاره لكل ما هو عربي/شرقي مقابل رغبته بخلق ثقافةٍ تسلوية تعتبر الغرب (الأميركي/أوروبا الغربية تحديداً) أساساً، مصدراً وملهماً. أما الأخرى فقد اعتبرت البيئة/التراث العربية فضلاً عن جميع حركات التحرر العالمية (الأوروبية الشرقية/الآسيوية/الأميركية الجنوبية) ملهماً أساسياً. تصارع هاتين التجربتين كان حاداً للغاية، فأنتج ثقافةً متضادة تظل مفاعيلها تجري حتى اللحظة. لم يستطع أيٌ من هاذين التيارين الانتصار على خصمه ذلك أن لكليهما قوةً كبيرة على الأرض: نجح التيار الأوّل في خلق بيئةٍ حاضنة له بين الطبقات المتوسطة فالمرتفعة الغنية والمؤثرة سياسياً واجتماعياً، فأيده الإقطاع ومثقفوه القادمون من أوروبا: فظهر "التفرنس/الأنجلزة" وعداء اللغة العربية والدين الإسلامي بصفته حاملاً لمشروعٍ "ثقافي" مرتبط بحضاراتٍ شرقية. أما التيار الثاني فكان أكثر قرباً من بيئات الشعب الأكثر فقراً والأكثر حقيقيةً، فصال وجال ونجح في أن يؤطر نجاحاته في جيلٍ جديد من المثقفين الراغبين بإحداث تغيير ما في مجتمعاتهم، فظهرت الحركات اليسارية المتأثرة بالحركات اليسارية/الشيوعية العالمية، فضلاً عن الحركات القومية التي اعتبرت أنَّ وحدة العرب من شأنه إعادتهم إلى ما كانوا عليه في السابق وصولاً –لاحقاً- إلى حركات الإسلام السياسي التي توجت بانتصار الثورة الإسلامية في إيران العام 1979.
ولادة ثقافةٍ مقاومة:
لم يكن غريباً أن يلجأ التياران إلى محاولة تخليق بيئاتهما المثقفة؛ كان غسان كنفاني واحداً من مثقفي التيار الثاني، وكان لا يمثّل الشارع الفلسطيني فحسب كما يحاول كثيرٌ من مثقفي التيار الثاني وسمه به. كان كنفاني الفلسطيني المولود في عكّا العام 1936 (والمستشهد في الحازمية في بيروت العام 1972) صورةً دقيقةً عن ذلك الصراع المذهل لتكوين "ثقافة" مقاومة. يأتي كنفاني كمثقفٍ متكاملٍ أشبه بأولئك التي تحكي كتب التاريخ عنهم: كان قارئاً نهماً، يجيد عدة لغات، يمهر في كتابة كل أنواع النثر، صحافياً لامعاً (وإدارياً بارعاً)، وفوق كل هذا كان يمارس الرسم بحرفية بالغة. يحشر كثيرون الكاتب الراحل في خانة "مثقفي" البندقية، وهي تسميةٌ أطلقها عديدٌ من مثقفي "النفط" على كنفاني، ذلك أنّهم أرادوا بذلك أن يسموه بأنه ليس بمثقف، فالمثقف مكانه ألا يحمل بندقية حسب "رؤيتهم" الخاصة (وفي ذلك إعادة للصراع القديم بين التيارين الأصليين). من هنا يمكن فهم عناوين جريدة الحياة يوم استشهاد كنفاني حينما أعلنت صراحةً أنه كان "قائداً فدائياً" في إشارةٍ لتوغله في الصراع العربي الصهيوني. كانت تلك "اللفتة" محاولةً "خبيثةً" للغاية لسلخ كنفاني عن محتواه الثقافي وإدغامه في المدى العسكري للأمر: إنه ليس أديباً مثقفاً، إنه مقاتل، هو لم يتعرض للإغتيال كونه ذا قيمةٍ وقامةٍ أدبية مرتفعة، بل لأنّه بكل بساطة "عسكري" هكذا كانت الرسالة خلف ذلك المقال الذي نشرته الصحيفة السعودية آنذاك.
لكن قبل هذا كله لابد لنا من أن ندرك ما الذي نعنيه بفكرة "ثقافة مقاومة"، فهل كان لهذه الثقافة قبيل تخليقها صفاتٍ معينة، أم أنها كانت أقرب إلى الإرتجال كما يعتقد كثيرون؟ لا بد من الدخول أكثر إلى الفكرة في حد ذاتها وتبسيطها إلى أبعادها الأولى كي نفهمها بشكلٍ أوضح. تحتاج ثقافة المقاومة أساساً إلى "الانتماء" إلى البيئة التي تأتي منها، وهذا أمرٌ معاكس للثقافة المتغربة المعادية أصلاً للبيئة الآتية منها (أي التيار المعارض)، من هنا فقد نهل كنفاني (كما غيره) من مجتمعه وبيئته وحضارته كإطارٍ أوسع، فكتب في القضية الفلسطينية وعنها، وشارك في إرساء نوعٍ من الأطر التي تتحرك من خلالها المفاهيم الأدبية المرتبطة بالكتابة عن البيئة بحد ذاتها. عرى الأعداء وألبسهم شكلهم المناسب أمام الغرب من خلال كتابةٍ "أدبية" محترفة، لا مجرد "كلامٍ" منمق مرصوف دون أي معانٍ حقيقية خلفه، فكانت مجموعته القصصية الأولى "موت سرير رقم 12 (العام 1961) واحدةً من أهم التجارب في القصص القصيرة التي تروي حكايات "عربية/شرقية"، ليتبعها بأرض البرتقال الحزين ورجال في الشمس (كليهما في العام 1963) اللتين قدم ولأول مرةٍ في العالم العربي نموذجاً "قريباً" لفكرة "المقاومة" الثقافية في إطارها الأعم والأشمل؛ فكانت المقاومة "تتشكل في العقل قبل اليد، والروح قبل الرصاصة" (بحسب الكاتبة المصرية رضوى عاشور).
بعد الإنتماء للبيئة في حد ذاتها، هناك تأطير لفكرة المقاومة وتظهيرها للعلن. لم يكن كنفاني يخجل من المقاومة، ورغم تماسه الدائم مع الغرب ومع مثقفين وكتابٍ غربيين بشكلٍ دائم فإنّه كان يعرف أن المقاومة لا بد لها من "تأطير" و"مظهرة" خارج كونها "إرهاباً" كما كان يسميها الإعلام، كما المثقفون الغربيون (يمكن مراجعة تعليقات جان بول سارتر حول القضية الفلسطينية مثلاً). ظهرت مهارات كنفاني في القدرة على "تحويل" شعبٍ بأكمله إلى كوكبة مناضلين، وتنميط وجودهم ضمن فكرة "المقاومة"، فأصبح الشعب بأكمله (الشعب الفلسطيني) مرادفاً لفكرة المقاومة، وأصبح مجرد ذكر الجنسية كافياً بأن تكون جزءاً من الصراع الدائر بحدة.
-يتبع-
غسان كنفاني – كاتب فلسطيني
يبدو تعبير "ثقافة المقاومة" فعلاً شائكاً بحتاً، فهو وإن كان مرتبطاً بكلمة "الثقافة" باللغة العربية (من ثقّف الشيء أي هذّبه وأحسن صنعه، وكذلك شذبه وجعله حاداً المرتبطة بالسهام والرماح أي "الحرب" التي تختلف اختلافاً جذرياً عن كلمة الثقافة باللغة الإنكليزية (culture) القادمة من فعل (cultivate) أي زرع ونمى وربى (المرتبطة بالحضارة الزراعية/النباتية) فهو يأتي مضافاً إليه كلمة "المقاومة". من هنا كان التعبير شائكاً للغاية، وإيجاد "تعريفٍ" منطقي له أكثر صعوبة مما يتوقع البعض. تأتي الثقافة أساساً، كمفهوم وجود، لا كمجرد إطارٍ تجري الحركة من خلاله، فمن نافل القول أن نقول أن المنتصر هو من يصنع "الثقافة" التي يريدها وعلى المهزوم أن يتقبل ذلك، وأن يعيش من خلاله، هذا هو التعريف العلني والواضح. من هنا تأتي ثقافة المقاومة كبديلٍ عن ثقافة المنتصر مقابل ثقافة المهزوم، فهي في إسرها وإزارها تقف مع المهزوم/الضعيف "حاميةً" و"حافظةً" له ولتراثه.
بالتالي، فإن مجرد "البقاء" حياً هو انتصارٌ لثقافة "المقاومة" أكثر من أي فعلٍ آخر في المرحلة الأولى؛ فيما بعد، تبدأ المراحل بالتصاعد حتى الوصول إلى مرحلة "التمظهر" و"الأسطرة" (أي صناعة الأسطورة). من هنا واجهت ثقافة المقاومة (كما أي ثقافة مقاومة) أعداء يتميزون بوحشية بالغة، ومقدراتٍ لا حدود لها، لذلك كان مجرد التفكير في إنشاء ثقافة مقاومة يواجه بعنفٍ لا نظير له. تزخر محاولات "خلق" ثقافة مقاومة بالتجارب الكثيرة، والتي عانى كثيرٌ منها فشلاً شديداً بينما انتصرت أخريات، ذلك أن الصلابة هي المقياس في صراع الوجود هذا. وبما أن الصلابة هي الأصل، فإن الإرتباط بالأرض كان مقياس صلابةٍ في حد ذاته، فنجحت مثلاً التجربة الروسية(السوفياتية لاحقاً) في مقاومة الإحتلال الألماني، وازدهرت منتشرة في أنحاء العالم بصفتها معبراً عن "مقاومة" للمحتل الغازي. فأصبحت معالم هذه المقاومة معالماً "عالمية" لا مجرد "ثقافةٍ روسية/سوفياتية فحسب"(مثلاً رواية "الأم" لمكسيم جوركي والتي كتبت في شهرٍ واحدٍ فحسب، أو رواية "كيف سقينا الفولاذ" لفيكتور أوستروفسكي)؛ بدورها نجحت الثورة الفيتنامية ليس فقط في التغلّب على المحتل الأميركي، بل إنها أيضاً قدمت "ثقافة مقاومة" شعبيةٍ للغاية عبر أغاني الفيتكونغ (المغني الشعبي هاو شي مان). عربياً راكمت الثورة الفلسطينية على تجارب ثوارٍ آخرين قبلها وصولاً إلى إيجاد تجربة "ثقافة مقاومةٍ" خاصة بها، الأمر الذي "مظهر" ثلاثياً فلسطينياً شهيراً -ضمن هذه الثقافة- عربيا/شرقياً: محمود درويش (شعراً وإن لم يكن الوحيد أو الأهم، لكنه الأشهر)، غسان كنفاني (نثراً ومسرحاً)، ناجي العلي (رسماً وكاريكاتيراً).
في أصل الصورة:
كانت البدايات متواضعةً كالعادة، ففكرة إيجاد ثقافة مقاومة تستطيع مقاومة "السيل" كانت فكرة مخيفة، فالمقاومة كفعل أصل هي أساساً نوعٌ من التغلّب على "سيلٍ" عارم من "الضغوط" التي قد لا يحتملها الغير. شهدت فترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ثورات في العالم أجمع، إلا أنها في الوقت نفسه شهدت هزائم "عربية/شرقية" كثيرة (فمن النكبة 1948 إلى النكسة 1967) الأمر الذي خلق تيارين متضادين: تيار ينادي بالسلام وثقافة "الحياة" بشكلها الانهزامي الإستسلامي؛ وآخر ينادي بالمقاومة المسلحة المحاربة. اشتهر التيار الأوّل بكراهيته ونبذه واحتقاره لكل ما هو عربي/شرقي مقابل رغبته بخلق ثقافةٍ تسلوية تعتبر الغرب (الأميركي/أوروبا الغربية تحديداً) أساساً، مصدراً وملهماً. أما الأخرى فقد اعتبرت البيئة/التراث العربية فضلاً عن جميع حركات التحرر العالمية (الأوروبية الشرقية/الآسيوية/الأميركية الجنوبية) ملهماً أساسياً. تصارع هاتين التجربتين كان حاداً للغاية، فأنتج ثقافةً متضادة تظل مفاعيلها تجري حتى اللحظة. لم يستطع أيٌ من هاذين التيارين الانتصار على خصمه ذلك أن لكليهما قوةً كبيرة على الأرض: نجح التيار الأوّل في خلق بيئةٍ حاضنة له بين الطبقات المتوسطة فالمرتفعة الغنية والمؤثرة سياسياً واجتماعياً، فأيده الإقطاع ومثقفوه القادمون من أوروبا: فظهر "التفرنس/الأنجلزة" وعداء اللغة العربية والدين الإسلامي بصفته حاملاً لمشروعٍ "ثقافي" مرتبط بحضاراتٍ شرقية. أما التيار الثاني فكان أكثر قرباً من بيئات الشعب الأكثر فقراً والأكثر حقيقيةً، فصال وجال ونجح في أن يؤطر نجاحاته في جيلٍ جديد من المثقفين الراغبين بإحداث تغيير ما في مجتمعاتهم، فظهرت الحركات اليسارية المتأثرة بالحركات اليسارية/الشيوعية العالمية، فضلاً عن الحركات القومية التي اعتبرت أنَّ وحدة العرب من شأنه إعادتهم إلى ما كانوا عليه في السابق وصولاً –لاحقاً- إلى حركات الإسلام السياسي التي توجت بانتصار الثورة الإسلامية في إيران العام 1979.
غسان كنفاني ...مثقف مقاوم
ولادة ثقافةٍ مقاومة:
لم يكن غريباً أن يلجأ التياران إلى محاولة تخليق بيئاتهما المثقفة؛ كان غسان كنفاني واحداً من مثقفي التيار الثاني، وكان لا يمثّل الشارع الفلسطيني فحسب كما يحاول كثيرٌ من مثقفي التيار الثاني وسمه به. كان كنفاني الفلسطيني المولود في عكّا العام 1936 (والمستشهد في الحازمية في بيروت العام 1972) صورةً دقيقةً عن ذلك الصراع المذهل لتكوين "ثقافة" مقاومة. يأتي كنفاني كمثقفٍ متكاملٍ أشبه بأولئك التي تحكي كتب التاريخ عنهم: كان قارئاً نهماً، يجيد عدة لغات، يمهر في كتابة كل أنواع النثر، صحافياً لامعاً (وإدارياً بارعاً)، وفوق كل هذا كان يمارس الرسم بحرفية بالغة. يحشر كثيرون الكاتب الراحل في خانة "مثقفي" البندقية، وهي تسميةٌ أطلقها عديدٌ من مثقفي "النفط" على كنفاني، ذلك أنّهم أرادوا بذلك أن يسموه بأنه ليس بمثقف، فالمثقف مكانه ألا يحمل بندقية حسب "رؤيتهم" الخاصة (وفي ذلك إعادة للصراع القديم بين التيارين الأصليين). من هنا يمكن فهم عناوين جريدة الحياة يوم استشهاد كنفاني حينما أعلنت صراحةً أنه كان "قائداً فدائياً" في إشارةٍ لتوغله في الصراع العربي الصهيوني. كانت تلك "اللفتة" محاولةً "خبيثةً" للغاية لسلخ كنفاني عن محتواه الثقافي وإدغامه في المدى العسكري للأمر: إنه ليس أديباً مثقفاً، إنه مقاتل، هو لم يتعرض للإغتيال كونه ذا قيمةٍ وقامةٍ أدبية مرتفعة، بل لأنّه بكل بساطة "عسكري" هكذا كانت الرسالة خلف ذلك المقال الذي نشرته الصحيفة السعودية آنذاك.
لكن قبل هذا كله لابد لنا من أن ندرك ما الذي نعنيه بفكرة "ثقافة مقاومة"، فهل كان لهذه الثقافة قبيل تخليقها صفاتٍ معينة، أم أنها كانت أقرب إلى الإرتجال كما يعتقد كثيرون؟ لا بد من الدخول أكثر إلى الفكرة في حد ذاتها وتبسيطها إلى أبعادها الأولى كي نفهمها بشكلٍ أوضح. تحتاج ثقافة المقاومة أساساً إلى "الانتماء" إلى البيئة التي تأتي منها، وهذا أمرٌ معاكس للثقافة المتغربة المعادية أصلاً للبيئة الآتية منها (أي التيار المعارض)، من هنا فقد نهل كنفاني (كما غيره) من مجتمعه وبيئته وحضارته كإطارٍ أوسع، فكتب في القضية الفلسطينية وعنها، وشارك في إرساء نوعٍ من الأطر التي تتحرك من خلالها المفاهيم الأدبية المرتبطة بالكتابة عن البيئة بحد ذاتها. عرى الأعداء وألبسهم شكلهم المناسب أمام الغرب من خلال كتابةٍ "أدبية" محترفة، لا مجرد "كلامٍ" منمق مرصوف دون أي معانٍ حقيقية خلفه، فكانت مجموعته القصصية الأولى "موت سرير رقم 12 (العام 1961) واحدةً من أهم التجارب في القصص القصيرة التي تروي حكايات "عربية/شرقية"، ليتبعها بأرض البرتقال الحزين ورجال في الشمس (كليهما في العام 1963) اللتين قدم ولأول مرةٍ في العالم العربي نموذجاً "قريباً" لفكرة "المقاومة" الثقافية في إطارها الأعم والأشمل؛ فكانت المقاومة "تتشكل في العقل قبل اليد، والروح قبل الرصاصة" (بحسب الكاتبة المصرية رضوى عاشور).
بعد الإنتماء للبيئة في حد ذاتها، هناك تأطير لفكرة المقاومة وتظهيرها للعلن. لم يكن كنفاني يخجل من المقاومة، ورغم تماسه الدائم مع الغرب ومع مثقفين وكتابٍ غربيين بشكلٍ دائم فإنّه كان يعرف أن المقاومة لا بد لها من "تأطير" و"مظهرة" خارج كونها "إرهاباً" كما كان يسميها الإعلام، كما المثقفون الغربيون (يمكن مراجعة تعليقات جان بول سارتر حول القضية الفلسطينية مثلاً). ظهرت مهارات كنفاني في القدرة على "تحويل" شعبٍ بأكمله إلى كوكبة مناضلين، وتنميط وجودهم ضمن فكرة "المقاومة"، فأصبح الشعب بأكمله (الشعب الفلسطيني) مرادفاً لفكرة المقاومة، وأصبح مجرد ذكر الجنسية كافياً بأن تكون جزءاً من الصراع الدائر بحدة.
-يتبع-