ارشيف من :آراء وتحليلات
الإتفاق النووي (1): خضوع الإيديولوجيا
عندما يصحّ توقع ما، فهذا يعني الى حد ما أن الافتراضات التي أُسست على التوقع كانت صحيحة، حينها ينبغي الاستفادة من هذه الافتراضات أو ما ثبت صحته منها في محاولة الإجابة عن أسئلة أخرى.
السؤال الأساسي: لماذا قرر أوباما (والاتجاه الذي يمثل في الولايات المتحدة) - الذي ثبت أنه قرار واقعي وليس من باب المناورة - إطلاق مسار لانفراج العلاقات مع إيران؟
يريد الأميركيون "تسييج" أوراسيا بطوق يقيّد من حركة الصين وروسيا باتجاه العالم، وعليه لا بد من محاولة إدماج إيران مستقبلاً في هذا الطوق بدل أن تتحول لرأس جسر صيني – روسي باتجاه العالم. الخطوة الأميركية تجاه إيران هي جزء من فكرة "الانحراف نحو آسيا" التي حملها أوباما منذ أيامه الأولى. أغلب الظن أن أوباما كان يملك تصوراً عاماً حول العرض الذي سيقدمه للإيرانيين بخصوص الملف النووي منذ وصوله للبيت الأبيض، إلاّ أن أنه تفرّغ في ولايته الأولى لإعداد الظروف والبيئة اللازمة لدفع الإيرانيين للقبول بعرضه بثمن مقبول (تشديد العقوبات – استنزاف إقليمي)، وأصبحت "صفقته الكبرى" جاهزة للعرض في نهاية تلك الولاية كما توقع حينها روبرت ساتلوف المدير التنفيذي لمعهد واشنطن.
إن كانت الولايات المتحدة محكومة لتحولات كبرى خارج الشرق الأوسط الذي تراه منطقة شديدة التعقيد وعالية المخاطر من دون قدرة للاعب منفرد على الهيمنة عليه، فلا بد إذاً من شريك إقليمي يسهم في استقرار المنطقة مقابل ثمن مقبول. هنا تبنّى أوباما مقاربة يمكنني تسميتها "إمنح – إمنع"، أي منح إيران الاعتراف النووي والإقليمي والانخراط معها حيثما يمكن، في موازاة ضبط مشروعها الإقليمي من خلال رفع ثمن طموحاتها الإقليمية ومنعها من الاستفراد أو الهيمنة في أي بقعة داخل المنطقة. وسبق أن قال جون كيري في جلسة الاستماع الخاص بالتصويت على تعيينه في وزارة الخارجية عام 2013، إن سياسة واشنطن تجاه طهران ليست العزل بل المنع.
تمكّن الإيرانيون وحلفاؤهم من تحقيق توازن قوى منحهم حق الشراكة في المنطقة. وقد سبق أن دعا رضا مراشي في "الفورين بوليسي" إدارة أوباما الى الانخراط مع إيران كونها تحتاجها في سبع مسائل ضمن أمنها القومي هي: الانتشار النووي، مكافحة الإرهاب، سوريا، العراق، أفغانستان، أمن الطاقة، والصراع العربي "الإسرائيلي". في المقابل نجح أوباما في تحويل العقوبات الى أداة لاتفاق متوازن وليس لإخضاع الإيرانيين، أي كانت العقوبات جزء من استراتيجية واقعية في ظل إدراك أوباما لمحدودية القوة العسكرية الأميركية.
هكذا يكون أوباما طبّق نصائح "بريجينسكي" في أن العقوبات لن تجدي إذا كان الهدف منها إذلال الإيرانيين او دفعهم للتخلي بالكامل عن مشروعهم النووي، لأنه حتى لو قلت (أوباما) إنه من غير المقبول أن تتملك إيران قدرات نووية، فأحياناً تكون الكلمات الكبيرة لا تعني شيئاً.
إذاً إدارة أوباما مهتمة بإقامة بنية أكثر استقراراً في المنطقة تضمن مصالحها الحيوية وتتيح إمكانية "عقلنة" الثورية الإيرانية بتشبيك اقتصادي مع حلفاء واشنطن في الغرب وفي المنطقة. في المقابل يجد الإيرانيون في الاتفاق فرصة لكسر الحلقة المفرغة التي تدور فيها المنطقة من خلال التلاعب بحسابات كل القوى الإقليمية التي ستجد أن الصدام مع طهران – القنبلة الاقتصادية لا النووية – مكلف جداً وفيه إضاعة لفرص ثمينة في ظل وطأة الضغوط الشعبية الداخلية. يريد الأميركيون من الاتفاق تعزيز عوامل دفع إيران من "الثورة" الى "الدولة"، ويريده الولي الفقيه لإنعاش "الدولة" لتحفيز "الثورة".
ثلاثة أشهر تقريباً تفصلنا عن دخول الاتفاق حيز التنفيذ، الذي يبدو شبه حتمي. إن فشل التصديق على الاتفاق في الكونغرس سيكون كارثياً على صدقية الولايات المتحدة وهيبتها حول العالم ويشرعن الفوضى والخروج على النظام الدولي الذي "تحرسه" واشنطن. الأميركيون معنيون بإظهار قوة نظامهم السياسي وتماسكه وفعاليته، إذ إن قوة الدولة في الخارج تبدأ من منزلها الداخلي. على الأغلب سيجد أوباما والكونغرس مخرجاً لتمرير الاتفاق، وإلا ستنتقل العزلة من طهران الى واشنطن بخصوص قضية إيران النووية.
توازن القوى هو الضابط الأبرز في سياسات الدول وليس الإيديولوجيا، فرغم أن الإيديولوجيا تساهم في تعريف المصالح الوطنية وتحديد أولوياتها، إلاّ أن الإيديولوجيا لا تعمل في فراغ بل تتحرك ضمن مساحات الممكن الذي يتيحه توازن القوى. أثبت الاتفاق فرضية عقلانية اللاعب الإيراني بعدما حاول الصهاينة ترويج فرضية إيران كلاعب مجنون انتحاري (بخلفية الانتظار المهدوي) بهدف تشجيع خيار الحرب على إيران. لم يتجاوز الإميركيون والإيرانيون عامل الفارق الإيديولوجي بشكل تام، إلاّ أنهم سمحوا لتوازن القوى بمد جسر رخو فوقه. مختلف التحولات المعاصرة جعلت الأنظمة السياسية شديدة التأثر بالضغوط الداخلية ما يحتم عليها حساسية عالية لخياراتها الخارجية.
الدرس الإيراني للساعين للتحرر من ضغوط الهيمنة وإقامة مشاريع تحرر واستقلال وطني توجزه العبارات التالية: "استجمع، اصبر، انتظر، استثمر". استجمع واستغل كل عناصر القوة الممكنة (في الداخل والخارج) بما يتلاءم مع ميزاتك وخصوصياتك، اصبر واثبت - قدر الاستطاعة وبمرونة - حين تنقض عليك قوة الهيمنة لمنعك من كسر حلقة التبعية، انتظر التحولات التي سيفرضها منافسون آخرون على قوة الهيمنة (سواء من داخلها أو خارجها) وهي تحولات دائمة ومن طبيعة التنافس الدولي لا سيما في عصر العولمة الحالية، وحينها استثمر واحصد ما حافظت عليه من منجزات بأي قدر كان، ثم كرر العملية مجدداً.
السؤال الأساسي: لماذا قرر أوباما (والاتجاه الذي يمثل في الولايات المتحدة) - الذي ثبت أنه قرار واقعي وليس من باب المناورة - إطلاق مسار لانفراج العلاقات مع إيران؟
صورة تذكارية بعد الاعلان عن حصيلة المفاوضات النووية
حين تقوم القوة الأولى في العالم بخطوة بهذه الجرأة والضخامة في إقليم محدد يصبح من الواضح أن حساباتها تتجاوز الإقليم ذاته. اليوم تثبت فرضية أن هاجس الأميركيين الفعلي هو صعود قوى دولية جديدة خارج الشرق الأوسط. هذا الهاجس هو محدد أساسي في سياساتهم الدولية. الولايات المتحدة محكومة لتحدي صعود آسيا وانزياح مركز الاقتصاد الدولي باتجاهها. توازن القوى في أوراسيا هو ما يشغل العقل الأميركي. التوازن داخل أوراسيا سيحدد مستقبل النظام الدولي ودور الولايات المتحدة فيه، وهذه عملية ستدوم على الأقل حتى العام 2030. يريد الأميركيون "تسييج" أوراسيا بطوق يقيّد من حركة الصين وروسيا باتجاه العالم، وعليه لا بد من محاولة إدماج إيران مستقبلاً في هذا الطوق بدل أن تتحول لرأس جسر صيني – روسي باتجاه العالم. الخطوة الأميركية تجاه إيران هي جزء من فكرة "الانحراف نحو آسيا" التي حملها أوباما منذ أيامه الأولى. أغلب الظن أن أوباما كان يملك تصوراً عاماً حول العرض الذي سيقدمه للإيرانيين بخصوص الملف النووي منذ وصوله للبيت الأبيض، إلاّ أن أنه تفرّغ في ولايته الأولى لإعداد الظروف والبيئة اللازمة لدفع الإيرانيين للقبول بعرضه بثمن مقبول (تشديد العقوبات – استنزاف إقليمي)، وأصبحت "صفقته الكبرى" جاهزة للعرض في نهاية تلك الولاية كما توقع حينها روبرت ساتلوف المدير التنفيذي لمعهد واشنطن.
إن كانت الولايات المتحدة محكومة لتحولات كبرى خارج الشرق الأوسط الذي تراه منطقة شديدة التعقيد وعالية المخاطر من دون قدرة للاعب منفرد على الهيمنة عليه، فلا بد إذاً من شريك إقليمي يسهم في استقرار المنطقة مقابل ثمن مقبول. هنا تبنّى أوباما مقاربة يمكنني تسميتها "إمنح – إمنع"، أي منح إيران الاعتراف النووي والإقليمي والانخراط معها حيثما يمكن، في موازاة ضبط مشروعها الإقليمي من خلال رفع ثمن طموحاتها الإقليمية ومنعها من الاستفراد أو الهيمنة في أي بقعة داخل المنطقة. وسبق أن قال جون كيري في جلسة الاستماع الخاص بالتصويت على تعيينه في وزارة الخارجية عام 2013، إن سياسة واشنطن تجاه طهران ليست العزل بل المنع.
تمكّن الإيرانيون وحلفاؤهم من تحقيق توازن قوى منحهم حق الشراكة في المنطقة. وقد سبق أن دعا رضا مراشي في "الفورين بوليسي" إدارة أوباما الى الانخراط مع إيران كونها تحتاجها في سبع مسائل ضمن أمنها القومي هي: الانتشار النووي، مكافحة الإرهاب، سوريا، العراق، أفغانستان، أمن الطاقة، والصراع العربي "الإسرائيلي". في المقابل نجح أوباما في تحويل العقوبات الى أداة لاتفاق متوازن وليس لإخضاع الإيرانيين، أي كانت العقوبات جزء من استراتيجية واقعية في ظل إدراك أوباما لمحدودية القوة العسكرية الأميركية.
هكذا يكون أوباما طبّق نصائح "بريجينسكي" في أن العقوبات لن تجدي إذا كان الهدف منها إذلال الإيرانيين او دفعهم للتخلي بالكامل عن مشروعهم النووي، لأنه حتى لو قلت (أوباما) إنه من غير المقبول أن تتملك إيران قدرات نووية، فأحياناً تكون الكلمات الكبيرة لا تعني شيئاً.
إذاً إدارة أوباما مهتمة بإقامة بنية أكثر استقراراً في المنطقة تضمن مصالحها الحيوية وتتيح إمكانية "عقلنة" الثورية الإيرانية بتشبيك اقتصادي مع حلفاء واشنطن في الغرب وفي المنطقة. في المقابل يجد الإيرانيون في الاتفاق فرصة لكسر الحلقة المفرغة التي تدور فيها المنطقة من خلال التلاعب بحسابات كل القوى الإقليمية التي ستجد أن الصدام مع طهران – القنبلة الاقتصادية لا النووية – مكلف جداً وفيه إضاعة لفرص ثمينة في ظل وطأة الضغوط الشعبية الداخلية. يريد الأميركيون من الاتفاق تعزيز عوامل دفع إيران من "الثورة" الى "الدولة"، ويريده الولي الفقيه لإنعاش "الدولة" لتحفيز "الثورة".
ثلاثة أشهر تقريباً تفصلنا عن دخول الاتفاق حيز التنفيذ، الذي يبدو شبه حتمي. إن فشل التصديق على الاتفاق في الكونغرس سيكون كارثياً على صدقية الولايات المتحدة وهيبتها حول العالم ويشرعن الفوضى والخروج على النظام الدولي الذي "تحرسه" واشنطن. الأميركيون معنيون بإظهار قوة نظامهم السياسي وتماسكه وفعاليته، إذ إن قوة الدولة في الخارج تبدأ من منزلها الداخلي. على الأغلب سيجد أوباما والكونغرس مخرجاً لتمرير الاتفاق، وإلا ستنتقل العزلة من طهران الى واشنطن بخصوص قضية إيران النووية.
توازن القوى هو الضابط الأبرز في سياسات الدول وليس الإيديولوجيا، فرغم أن الإيديولوجيا تساهم في تعريف المصالح الوطنية وتحديد أولوياتها، إلاّ أن الإيديولوجيا لا تعمل في فراغ بل تتحرك ضمن مساحات الممكن الذي يتيحه توازن القوى. أثبت الاتفاق فرضية عقلانية اللاعب الإيراني بعدما حاول الصهاينة ترويج فرضية إيران كلاعب مجنون انتحاري (بخلفية الانتظار المهدوي) بهدف تشجيع خيار الحرب على إيران. لم يتجاوز الإميركيون والإيرانيون عامل الفارق الإيديولوجي بشكل تام، إلاّ أنهم سمحوا لتوازن القوى بمد جسر رخو فوقه. مختلف التحولات المعاصرة جعلت الأنظمة السياسية شديدة التأثر بالضغوط الداخلية ما يحتم عليها حساسية عالية لخياراتها الخارجية.
الدرس الإيراني للساعين للتحرر من ضغوط الهيمنة وإقامة مشاريع تحرر واستقلال وطني توجزه العبارات التالية: "استجمع، اصبر، انتظر، استثمر". استجمع واستغل كل عناصر القوة الممكنة (في الداخل والخارج) بما يتلاءم مع ميزاتك وخصوصياتك، اصبر واثبت - قدر الاستطاعة وبمرونة - حين تنقض عليك قوة الهيمنة لمنعك من كسر حلقة التبعية، انتظر التحولات التي سيفرضها منافسون آخرون على قوة الهيمنة (سواء من داخلها أو خارجها) وهي تحولات دائمة ومن طبيعة التنافس الدولي لا سيما في عصر العولمة الحالية، وحينها استثمر واحصد ما حافظت عليه من منجزات بأي قدر كان، ثم كرر العملية مجدداً.