ارشيف من :آراء وتحليلات
الاتفاق النووي (2): تمزيق الجدار
بعد عرض الدوافع الدولية والإقليمية للاتفاق في المقال السابق، يركز هذا المقال على الدوافع المرتبطة بالداخل الإيراني. يراهن الاتجاه الأوبامي في الولايات المتحدة على قوة النظام الدولي المعلوم، الخاضع لتأثير الولايات المتحدة، وقدرته على تطويع أي مجتمع من خلال جذبه ودمجه في هذا النظام ومن ثم تدويره وإعادة إنتاجه بشكل يؤدي الى تطويع "ثورية" أي نظام سياسي معادِ لواشنطن. وبناء على هذا الرهان يسعى أوباما الى خلق ثقب في جدار العداء مع هذه الأنظمة المعادية وإطلاق عملية تطبيع للعلاقات المتبادلة بهدف إيجاد "رأس جسر" عبر "نخبة محلية" داخل هذه الدول.
هذا "الثقب" يبدأ عبر تخفيض التصعيد والتراجع عن حافة الصدام بإجراءات واقعية (رفع العقوبات أبرزها) وأخرى رمزية (الإقرار بندية الخصم، إظهار الاحترام لرموزه الثقافية، تقديم سردية تتجاوز التحدي نحو الانفتاح). هذا الاختراق سيسمح ببدء تدفق الأفكار والقيم والمصالح الغربية الى داخل هذه المجتمعات (استثمارات – تبادل اجتماعي – منح وهبات - تعزيز أدوات وآليات مخاطبة المجتمع المستهدف بلغته )، وتبدأ "النخبة المحلية – رأس الجسر" بالتمدد والتوسع وخلق شبكات مصالح ونقاط ضغط وأدوات تأثير لا سيما في أوساط مراكز القوى المالية، أقطاب ثقافية، وشباب الطبقات الوسطى المدنية. وحينها يصبح النظام السياسي شديد الحساسية للضغط الخارجي من الولايات المتحدة وصولاً الى احتمالات الانهيار أو المساومة.
بطبيعة الحال إن هذا السيناريو لا يقدم نتائج سريعة كونه يعتمد على تحول اجتماعي. إلا أن الأميركيين في ظل غياب أي أفق لقهر الجمهورية الإسلامية عسكرياً، لم يبق أمامهم إلا السعي لتغيير سلوك النظام على المدى القريب، وثم محاولة تغيير النظام ذاته على المدى البعيد. كان الحصار الغربي على إيران يؤدي الى نتائج داخلية معاكسة، إذ زادت من وحدة المجتمع والدولة، وقلّصت المسافة بين الديني والقومي، وبين الإصلاحي والمحافظ، وبدل عزل النظام الإيراني جرى عزل الشعب الإيراني عن التأثير الخارجي.
صورة تذكارية بين رؤساء وزراء خارجية الدول الست وايران
الهدف الأميركي الأساسي داخل المجتمع الإيراني هو الشباب، حيث يمتاز المجتمع الإيراني كونه من أكثر المجتمعات شباباً في العالم (35% من السكان هو من الفئة العمرية بين 15 – 29 سنة). تشير الدراسات الى تفضيل غالبية شباب الطبقات الوسطى الانفتاح والتأثر بالقيم الغربية، ويؤدي هؤلاء دور "البؤرة الرخوة" التي يستهدفها الأميركي ابتداءً. يدرك الأميركيون غنى المجتمع الإيراني ثقافياً وتميزه بالانفتاح والميل للاطلاع وسعيه للاحتكاك بالعالم للتعلم. ولذا يجد الأميركي في مجمل هذه الخصائص فرصاً للتأثير أهملتها العقوبات المفروضة من الغرب، كما حصل مثلاً في الهبوط الكبير في أعداد الطلاب الإيرانيين المتجهين للدراسة في الخارج.
إذاً يراهن الأميركي على أن فتح المجال للاحتكاك والتبادل الثقافي – العلمي – الاقتصادي مع الإيرانيين سيعزز من حضور الثقافة الغربية داخل إيران، وهي ثقافة تقع على نقيض ثقافة الإسلام الثوري في إيران. إن حصل الاختراق ستتوتر العلاقات بين المحافظين والإصلاحيين، بين الشباب وجيل الثورة، بين المجتمع المدني والمؤسسة الدينية، بين الأرياف والمدن، وبين الدولة والثورة. هذه التوترات يطمح الأميركيون الى أن تدفع إيران بالنهاية الى اختيار أن تكون "أمة" بدل أن تكون "قضية"، كما يعبر كيسنجر. في محصلة الطموح الأميركي أن يفشل "النظام الديني" في مجاراة الأجيال الجديدة المنجذبة ثقافياً للغرب، وفي ضبط طبقة المنتفعين من الاندماج في السوق الدولية، وتنفجر الجمهورية الإسلامية من داخلها.
بطبيعة الحال تدرك المؤسسة الإيرانية هذه المخاطر وقد اختبرت بعض آثارها سنة 2009، التي كانت بمثابة صدمة ضرورية. تتعامل القيادة الإيرانية مع خطر الغزو الثقافي - القيمي الغربي بجدية توازي التهديدات العسكرية الأميركية. حتى أن صياغة مفردات هذا التحدي الثقافي – القيمي تنهل من القاموس العسكري، مثل "حرب ناعمة"، "جبهة مجازية"، "غزو ثقافي". وهذه الصياغة متعمدة للإشارة لجدية التهديد وجسامته، ولشحن همم الشباب الإيراني للانخراط في هذه المواجهة.
منذ إضرابات 2009 جرت عملية تكييف واسعة لأجهزة الدولة للتعامل مع ما أصبح يعرف بـ"الحرب الناعمة"، حيث جرى خلق الاف المؤسسات داخل الدولة وخارجها، مدنية وعسكرية، وتم وضع رؤى وإستراتيجيات، وتخصيص موارد مادية وبشرية مهولة للتعامل مع هذا التهديد. مثلاً يجري تخصيص معارض فنية، إنتاجات إعلانية، دعايات ترويجية، مهرجانات أفلام، مسابقات ثقافية، مخصصة للشباب تحت إطار مواجهة "الحرب الناعمة"، مع تركيز واضح على "العالم الافتراضي" أو ما يعرف "بالجبهة المجازية".
يقع الشباب في جوهر اهتمام "جبهة الحرب الناعمة" في الجمهورية الإسلامية، سواء من خلال عمليات التثقيف، الأدلجة، التعبئة، الشحن الروحي – الأخلاقي، خلق مساحات للتعبير والمشاركة الإيجابية، رعاية المواهب، والثقة بإمكاناتهم وإشراكهم بتحمل مسؤولية الثورة. حيوية الثورة الإسلامية لها علاقة بكيفية تعريف إيران لثقافتها الإستراتيجية، لدورها الإقليمي ورسالتها الإيديولوجية والأهم سياساتها الإقليمية. هذه الحيوية جذبت أغلبية الشباب الإيراني الى مسافة قريبة من الثورة، وبهم جددت حيويتها. هذه العملية ساهمت بخلق جيل شبابي كامل ثوري رغم أنه لم يشهد الأيام الأولى للثورة. القوة الناعمة لإيران تؤدي وظائفها في الداخل كما في الخارج، أي حفظ شرعية الثورة الإسلامية.
عوامل أخرى تسهم في امتصاص "الاختراق الناعم" الأميركي، نضج الهوية الحضارية للإيرانيين، الاعتزاز القومي، عراقة الثقافة الفارسية (الموسيقى مثلاً)، النموذج العصري للمشروع الإسلامي في إيران، نفوذ الحرس الثوري والباسيج الواسع في مفاصل المجتمع، مرونة المؤسسة الدينية وحيوية الحوزة الدينية وانفتاحها على المعارف الغربية، السلاسة النسبية للعملية السياسية، دور الدولة في العملية الاقتصادية، الرمزية الروحية -الدينية للعديد من المدن الإيرانية، دور الدولة في الضبط النسبي لتدفق المعلومات والتبادل الثقافي من ومع الخارج (تشريعات بخصوص الإنترنت والبث الفضائي)، رعاية الدولة للمجال الثقافي – الإعلامي وضعف المجتمع المدني. بالمحصلة، تعتمد الحكومة الإيرانية على وسائل ناعمة في أغلبها لمواجهة محاولات الاختراق الغربي، وتقتصر "التدابير الصلبة" على الحدود الدنيا، وهذا منشأ الفاعلية في هذه الحرب.
تعمل القوة الناعمة على المديين المتوسط والبعيد، ولذا من المبكر الحكم على نتائج هذه المواجهة وحدتها ومداها. مثلاً، يعترض الأميركيين تحدي تبدل الإستراتيجيات بين رئيس أميركي وآخر، إذ قد يطيح خليفة أوباما بكل هذه الجهود. يراهن بعض الأميركيين، كما كتب غراهام اليسون في مقالة للواشنطن بوست (2011)، على أن تكون الصفقة النووية مع إيران تكراراً لخطوة ريغان تجاه غورباتشوف بعد إعلان الأخير مرحلة جديدة من الانفتاح والتي تلقفها ريغان عبر دعوة غورباتشوف من برلين الى " تمزيق الجدار" وهو ما حصل بعد سنتين.
في المقابل، سيشكل هذا التحدي "الناعم" أبرز معوقات كسر العداء مع واشنطن من جهة القيادة الإيرانية، التي ترى في هذا العداء ركناً في شرعيتها الثورية والإسلامية. سيحاول الإيرانيون تغطية "الثقب" الذي يحاول الأميركيون النفاذ منه للداخل الإيراني، "بمصفاة" تضمن عبور الماء لكن من دون "أوساخه".
هذا "الثقب" يبدأ عبر تخفيض التصعيد والتراجع عن حافة الصدام بإجراءات واقعية (رفع العقوبات أبرزها) وأخرى رمزية (الإقرار بندية الخصم، إظهار الاحترام لرموزه الثقافية، تقديم سردية تتجاوز التحدي نحو الانفتاح). هذا الاختراق سيسمح ببدء تدفق الأفكار والقيم والمصالح الغربية الى داخل هذه المجتمعات (استثمارات – تبادل اجتماعي – منح وهبات - تعزيز أدوات وآليات مخاطبة المجتمع المستهدف بلغته )، وتبدأ "النخبة المحلية – رأس الجسر" بالتمدد والتوسع وخلق شبكات مصالح ونقاط ضغط وأدوات تأثير لا سيما في أوساط مراكز القوى المالية، أقطاب ثقافية، وشباب الطبقات الوسطى المدنية. وحينها يصبح النظام السياسي شديد الحساسية للضغط الخارجي من الولايات المتحدة وصولاً الى احتمالات الانهيار أو المساومة.
بطبيعة الحال إن هذا السيناريو لا يقدم نتائج سريعة كونه يعتمد على تحول اجتماعي. إلا أن الأميركيين في ظل غياب أي أفق لقهر الجمهورية الإسلامية عسكرياً، لم يبق أمامهم إلا السعي لتغيير سلوك النظام على المدى القريب، وثم محاولة تغيير النظام ذاته على المدى البعيد. كان الحصار الغربي على إيران يؤدي الى نتائج داخلية معاكسة، إذ زادت من وحدة المجتمع والدولة، وقلّصت المسافة بين الديني والقومي، وبين الإصلاحي والمحافظ، وبدل عزل النظام الإيراني جرى عزل الشعب الإيراني عن التأثير الخارجي.
صورة تذكارية بين رؤساء وزراء خارجية الدول الست وايران
الهدف الأميركي الأساسي داخل المجتمع الإيراني هو الشباب، حيث يمتاز المجتمع الإيراني كونه من أكثر المجتمعات شباباً في العالم (35% من السكان هو من الفئة العمرية بين 15 – 29 سنة). تشير الدراسات الى تفضيل غالبية شباب الطبقات الوسطى الانفتاح والتأثر بالقيم الغربية، ويؤدي هؤلاء دور "البؤرة الرخوة" التي يستهدفها الأميركي ابتداءً. يدرك الأميركيون غنى المجتمع الإيراني ثقافياً وتميزه بالانفتاح والميل للاطلاع وسعيه للاحتكاك بالعالم للتعلم. ولذا يجد الأميركي في مجمل هذه الخصائص فرصاً للتأثير أهملتها العقوبات المفروضة من الغرب، كما حصل مثلاً في الهبوط الكبير في أعداد الطلاب الإيرانيين المتجهين للدراسة في الخارج.
إذاً يراهن الأميركي على أن فتح المجال للاحتكاك والتبادل الثقافي – العلمي – الاقتصادي مع الإيرانيين سيعزز من حضور الثقافة الغربية داخل إيران، وهي ثقافة تقع على نقيض ثقافة الإسلام الثوري في إيران. إن حصل الاختراق ستتوتر العلاقات بين المحافظين والإصلاحيين، بين الشباب وجيل الثورة، بين المجتمع المدني والمؤسسة الدينية، بين الأرياف والمدن، وبين الدولة والثورة. هذه التوترات يطمح الأميركيون الى أن تدفع إيران بالنهاية الى اختيار أن تكون "أمة" بدل أن تكون "قضية"، كما يعبر كيسنجر. في محصلة الطموح الأميركي أن يفشل "النظام الديني" في مجاراة الأجيال الجديدة المنجذبة ثقافياً للغرب، وفي ضبط طبقة المنتفعين من الاندماج في السوق الدولية، وتنفجر الجمهورية الإسلامية من داخلها.
بطبيعة الحال تدرك المؤسسة الإيرانية هذه المخاطر وقد اختبرت بعض آثارها سنة 2009، التي كانت بمثابة صدمة ضرورية. تتعامل القيادة الإيرانية مع خطر الغزو الثقافي - القيمي الغربي بجدية توازي التهديدات العسكرية الأميركية. حتى أن صياغة مفردات هذا التحدي الثقافي – القيمي تنهل من القاموس العسكري، مثل "حرب ناعمة"، "جبهة مجازية"، "غزو ثقافي". وهذه الصياغة متعمدة للإشارة لجدية التهديد وجسامته، ولشحن همم الشباب الإيراني للانخراط في هذه المواجهة.
منذ إضرابات 2009 جرت عملية تكييف واسعة لأجهزة الدولة للتعامل مع ما أصبح يعرف بـ"الحرب الناعمة"، حيث جرى خلق الاف المؤسسات داخل الدولة وخارجها، مدنية وعسكرية، وتم وضع رؤى وإستراتيجيات، وتخصيص موارد مادية وبشرية مهولة للتعامل مع هذا التهديد. مثلاً يجري تخصيص معارض فنية، إنتاجات إعلانية، دعايات ترويجية، مهرجانات أفلام، مسابقات ثقافية، مخصصة للشباب تحت إطار مواجهة "الحرب الناعمة"، مع تركيز واضح على "العالم الافتراضي" أو ما يعرف "بالجبهة المجازية".
يقع الشباب في جوهر اهتمام "جبهة الحرب الناعمة" في الجمهورية الإسلامية، سواء من خلال عمليات التثقيف، الأدلجة، التعبئة، الشحن الروحي – الأخلاقي، خلق مساحات للتعبير والمشاركة الإيجابية، رعاية المواهب، والثقة بإمكاناتهم وإشراكهم بتحمل مسؤولية الثورة. حيوية الثورة الإسلامية لها علاقة بكيفية تعريف إيران لثقافتها الإستراتيجية، لدورها الإقليمي ورسالتها الإيديولوجية والأهم سياساتها الإقليمية. هذه الحيوية جذبت أغلبية الشباب الإيراني الى مسافة قريبة من الثورة، وبهم جددت حيويتها. هذه العملية ساهمت بخلق جيل شبابي كامل ثوري رغم أنه لم يشهد الأيام الأولى للثورة. القوة الناعمة لإيران تؤدي وظائفها في الداخل كما في الخارج، أي حفظ شرعية الثورة الإسلامية.
عوامل أخرى تسهم في امتصاص "الاختراق الناعم" الأميركي، نضج الهوية الحضارية للإيرانيين، الاعتزاز القومي، عراقة الثقافة الفارسية (الموسيقى مثلاً)، النموذج العصري للمشروع الإسلامي في إيران، نفوذ الحرس الثوري والباسيج الواسع في مفاصل المجتمع، مرونة المؤسسة الدينية وحيوية الحوزة الدينية وانفتاحها على المعارف الغربية، السلاسة النسبية للعملية السياسية، دور الدولة في العملية الاقتصادية، الرمزية الروحية -الدينية للعديد من المدن الإيرانية، دور الدولة في الضبط النسبي لتدفق المعلومات والتبادل الثقافي من ومع الخارج (تشريعات بخصوص الإنترنت والبث الفضائي)، رعاية الدولة للمجال الثقافي – الإعلامي وضعف المجتمع المدني. بالمحصلة، تعتمد الحكومة الإيرانية على وسائل ناعمة في أغلبها لمواجهة محاولات الاختراق الغربي، وتقتصر "التدابير الصلبة" على الحدود الدنيا، وهذا منشأ الفاعلية في هذه الحرب.
تعمل القوة الناعمة على المديين المتوسط والبعيد، ولذا من المبكر الحكم على نتائج هذه المواجهة وحدتها ومداها. مثلاً، يعترض الأميركيين تحدي تبدل الإستراتيجيات بين رئيس أميركي وآخر، إذ قد يطيح خليفة أوباما بكل هذه الجهود. يراهن بعض الأميركيين، كما كتب غراهام اليسون في مقالة للواشنطن بوست (2011)، على أن تكون الصفقة النووية مع إيران تكراراً لخطوة ريغان تجاه غورباتشوف بعد إعلان الأخير مرحلة جديدة من الانفتاح والتي تلقفها ريغان عبر دعوة غورباتشوف من برلين الى " تمزيق الجدار" وهو ما حصل بعد سنتين.
في المقابل، سيشكل هذا التحدي "الناعم" أبرز معوقات كسر العداء مع واشنطن من جهة القيادة الإيرانية، التي ترى في هذا العداء ركناً في شرعيتها الثورية والإسلامية. سيحاول الإيرانيون تغطية "الثقب" الذي يحاول الأميركيون النفاذ منه للداخل الإيراني، "بمصفاة" تضمن عبور الماء لكن من دون "أوساخه".