ارشيف من :نقاط على الحروف

عن الإتفاق النووي الإيراني: تحليلٌ إعلامي

عن الإتفاق النووي الإيراني: تحليلٌ إعلامي

"في روما، كان المنتصر يرفع إكليل الغار قبل أن يضعه على رأسه، وكانت الحشود تترقب هذه اللحظات أكثر من لحظات النصر نفسها، كانت لحظة تكليل المنتصر ورفعه للإكليل عالياً عرضاً لا يمكن تفويته"
ويل ديورنت من كتاب "قصة الحضارة"

تحدث كثيرون خلال الأيام الفائتة عن الإنجاز الإيراني المتمثّل بالنصر في مفاوضات الإتفاق النووي، حتى إن أغلب "العالم" وقف مشدوهاً كيف رفع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف "الاتفاق" عالياً على شرفة بمواجهة الصحافيين المنتظرين . هل كان الأمر عفوياً؟ قد يسأل متابعٌ لا يعرف خبايا اللعبة السياسية، أو لعله سيعتقد أن الأمر لم يكن أكثر من "إنفعال" قام به وزير اجتهد كثيراً كي يحقق هذا النصر لبلاده، لكن طالما أننا في عصرٍ بات الإعلام جزءاً من الحرب المفروضة والقائمة كان لزاماً أن نتناول بقليلٍ من التحليل ماهية ما حدث في تلك اللحظات الحاسمة، وبالتأكيد في الإتفاق النووي عموماً.

أرضُ صراع:
أطل المنتصر رافعاً راياته خفاقةً، هكذا كان النصر يعرّف في بلادنا عموماً، في الشرق. أن يخرج المنتصر محتفلاً أمام الجمهور/جنوده/عامة الشعب. أما في عصرنا الحالي، فليس هناك من حاجةٍ لأن يكون الشعب متواجداً بقده وقديده في تلك الساحة كي يشاهد "احتفال النصر"، يكفي أن يجلس واحدنا في بيته كي تنقل له قنوات التلفزة كل ما يحدث لحظةً بلحظة. إذن باختصار، كان يكفي الوزير ظريف أن يخرج رافعاً الاتفاق بيده كي تصل الصورة إلى العالم. هنا يمكننا الوقوف دقيقة كي نفهم لماذا كانت هذه اللحظة من أهم لحظات السياسة الخارجية الإيرانية : في البداية، لا يعرف كثيرون في الغرب عن إيران الكثير: دولةٌ "دينية" ذات طابعٍ خاص، تاريخٌ عريق يعود إلى آلاف السنين، فضلاً عن أنها دولةٌ نفطية مهمة. لكن كل ذلك ليس شيئاً أمام المعلومة الأهم: أنها معارضةٌ شرسة وقوية للغرب (وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية والكيان العبري). إذن باختصار أن تذهب إلى المفاوضات كي تتفاوض مع شخصٍ يعتبرك عدوه منذ اللحظة الأولى، هو في حد ذاته "ذهابٌ إلى حرب"، حتى ولو لم تكن السيوف والرماح والبنادق جزءاً منها. هذا كان قبل الدخول إلى غرفة المفاوضات. في المرحلة الثانية، وهي مرحلة الجلوس، كان من الطبيعي أن يعرف الوفد المرافق أن هذه الدولة الغربية التي ستفاوضهم على الإتفاق النووي تستعمل "خبراء" في المفاوضات خبروا هذا النوع من الألعاب السياسية سنواتٍ طويلة، فضلاً عن أنّهم درسوها في معاهدهم ومراكزهم البحثية، وهو أمرٌ نفتقده نحن –كشرقيين- في مؤسساتنا التعليمية،  فليس هناك مادةٌ مثلاً تدرّس في أي جامعةٍ شرقية تدعى: مادة النقاش، أو مادة المحاججة، وهي مادةٌ دراسية معروفة في أغلب جامعات أوروبا والغرب وتدعى (Debate)، حيث يأخذها التلميذ منذ الأيام المدرسية الثانوية، وتخصص لها فرق لتعلم الدفاع عن الأفكار، وفي نفس الوقت الهجوم على نقاط ضعف الخصم : إذاً هنا أيضاً كان أمام الوفد الإيراني معضلةٌ صعبة، كان عليه التوجه لمحاربة خصومٍ ذوي باعٍ طويل في التفاوض . ومن نافلة القول الإشارة إلى أنَّ الوفد الإيراني كان وحيداً في هذه المفاوضات أمام خصومٍ متحدين، ولديهم أكثر من رأي، أي أنه كان من الممكن أن يوافق طرف على أمر بينما يرفضه الطرف الآخر، وهذا يؤدي الى  إنهاك الخصم عبر إشغاله بأكثر من جهة (وضربة) وهنا يصبح ضعيفاً ولقمةً سائغة، هذا التكتيك يستخدم وبشكلٍ كبير في المفاوضات الإقتصادية التي تنتهجها معظم الشركات الكبيرة (كالشركات النفطية مثل شيل البريطانية وغيرها في الاتفاقات التي تجريها مع دول الخليج مثلاً في أوقاتٍ ما).

عن الإتفاق النووي الإيراني: تحليلٌ إعلامي

المفاوضات ...حرب بطريقة اخرى

لحظةٌ تستحق احتفالاً:
كانت تلك اللحظات أرض نزال، بكل ما تحويه الكلمة من معنى، لذلك كان لابد لردة الفعل أن تكون هكذا: رفعٌ لشعار النصر، ابتسامةٌ أكثر من عريضة، إنها إبتسامةٌ تعوض عن ألف كلمة يمكن أن تقال. يكفي أن ترى صور الوزير ظريف والوزراء الغربيين المشاركين معه في الصورة الختامية التذكارية كي تدرك حجم ما حدث. كان الكل وجوماً ما عداه، لقد حقق انتصاراً يستحقه شعبه، لقد عاد منتصراً كأي "قائدٍ" عسكري عظيم، ألم يكن الأمر واضحاً للغاية؟ لكن لماذا لا نغوص في الأمر أكثر، هل كان الأمر عفوياً إلى هذا الحد؟ لا لم يكن أبداً. كان الأمر معروفاً و يدركه الوزير المحنك والعارف بخبايا السياسة كما الإعلام، إن مجرد خروجه بهذا الشكل، أمام الصحافيين المنتظرين أي خبرٍ من غيمة سيشعل الدنيا، ولن يكون أمام الوفود الأخرى إلا تحمل تبعات هكذا "احتفالٍ بالنصر"، بالتأكيد كانت بقية الوفود المشاركة متضايقة لا بل وغاضبة بعض الشيء من طريقة إحتفال الوزير الذكية، لكنه في النهاية "استطاع قطفها" في اللحظة المناسبة. هو كان يدرك تمام الإدراك أنه يستطيع تبرير ما حدث بأنه إنفعالٌ بشريٌ عادي، يحدث مع أيٍ كان لحظة تحقيقه إنتصاراً في عمله، وهو أمرٌ لا يمكن لأحدٍ أن يلومه عليه . لقد قرر ظريف أن يبعث برسالة "إنتصاره" الخاصة هذه وعبر طريقته المبتكرة لشعبه، ولجميع الشعوب المستضعفة. هنا يتأتى سؤالٌ آخر: هل كان ظريف محقاً بأن يخالف السلوك الدبلوماسي المعتاد، الشهير بأنه منضبط وبروتوكولي بهذه الطريقة؟ نعم كان الأمر يستحق، لقد كان الوزير المحنك يقول للجميع: نعم إن انتصارنا يستحق أن نخرج عن السلوك الدبلوماسي ونعبّر عن فرحنا بكل الطرق وهذه حرفةٌ ما بعدها حرفة.

 

2015-07-23