ارشيف من :نقاط على الحروف

عن الثقافة المقاومة: غسان كنفاني نموذجاً -2-

عن الثقافة المقاومة: غسان كنفاني نموذجاً -2-

"لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟ لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟"
من رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني

كنا تناولنا في الجزء الأوّل من مقالة عن الثقافة المقاومة كيف أنَّ صراعاً كبيراً وحاداً بين طرفي "نقيض" لا يمكنهما الالتقاء البتة، أحدهما ينظر إلى فكرة المقاومة على أنها "دمار" و"أذى" وإيذاء، والآخر ينظر للمقاومة وينادي بها كأسلوب حياة. كان كنفاني عنواناً عريضاً للثقافة الثانية، تلك التي تنادي بالمقاومة على اعتبار أنه لا يمكن للحياة أن تستمر دون أن تمر عبر تجربةٍ مقاومة، فالمقاومة بالنسبة لهذه الجهة تبدأ من اختيارات بديهيةٍ بسيطة: طبيعة الثياب، الطعام، فضلاً عن الخيارات اليومية والحياتية. وفي حين ينادي الجانب الآخر بالحياة كحياة، يصر الجانب المقاوم على "الكرامة" كمفهومٍ أساس للوجود وهو يتعارض وبشدة مع فكرة: الحياة في حد ذاتها التي يقدّمها الاخر، فأن تحيا "كريماً" ليس من شأن أصحاب الحلول الاستسلامية، المهم أن تحيا، في حين يرى المقاومون وبكل وضوح: لا تكون الحياة بعيشة ذل.

جدار الخزّان:
في رواية "رجال في الشمس"(1963) قدّم كنفاني نموذجاَ يقترب تماماً من الفكرتين، والاتجاهين، هو يعرف بأن الشعب/الناس في المجتمعات الشرقية تخوض يومياً صراعاً عميقاً لانتهاج أحد الجانبين المتصارعين: الاستسلام أو المقاومة. أدرك كنفاني ببصيرته المتقدة أنه كي تقنع الناس بخياراتك المقاومة، عليك تماماً أن تضع الخيارات الأخرى بوضوحٍ أمامهم، وجعلهم يدركون أنه لا حلول أمامهم إلا بخيار المقاومة، لا غصباً، بل لأنه المصير الطبيعي، والصيرورة الحقة. تحكي الرواية عن مجموعة من الشباب الفلسطينين الذين يبحثون عن عمل، ليجدوه في إحدى دول الخليج، المشكلة في الأمر أنهم لن يستطيعوا أن يعبروا "حدوداً" مصطنعة أقامتها الأنظمة العربية حول أنفسها كي تمنع الفلسطيني من التحرّك خارجها أو داخلها. هنا تضعط الحياة بواقعيتها على ظروف القصة، يختار أبطالنا أن يسافروا عبر الصحراء مختبئين داخل "صهريج" للمحروقات. تمر الساعاتُ بطيئةً للغاية، وفي لحظةٍ ما يكتشف سائق الصهريج أنَّ حمولته من الركاب قد "نفقت"، لقد مات/سقط أبطال القصة ضحايا للشمس الحارقة، فأصبح الصهريج تابوتهم الكبير، وتحولوا في لحظةٍ ما إلى جثث هامدة. يتنهد سائق الصهريج صارخاً بغضب: لماذا لم يدقوا جدار الخزّان. هذه الجملة التي أصبحت من علامات المقاومة فيما بعد، كانت صرخةً غاضبةً من الرجل الذي هو أقرب في كثيرٍ من الأحيان إلى الاختيار الأول (أي الإستسلام وحب الحياة)، ورغم أنه كذلك، هو اختار "المقاومة" ورفض الموت في لحظةٍ حقيقية إلى حدٍ كبير بمواجهة الموت، أي أن غسان كنفاني كان يريد القول بأنه في لحظة حقيقة مباشرة فإنه أعتى عتاة الاستسلام سيختار المقاومة كأسلوب حياة، لأنه لا اختيارات أخرى ناجعة. من جهة أخرى، كان سائق الصهريج يطالب الجثث الهامدة ويسائلها لماذا لم يخبره أصحابها أنهم بحاجةٍ لاستنشاق الهواء، أو لماذا أصلاً سقطوا جثثاً دون أن يشركوه فيما حدث. كان الأمر صادماً إلى حدٍ كبير. كان غسان يريد حدثاً "مخيفاً"، كي لا ينساه قراء الرواية، فالأبطال الذين كانوا يمنون أنفسهم "بالمال" و"الهدايا" والرزق وجدوا أنفسهم أمام "موتٍ" مباشر وبأشنع الطرق، الموت اختناقاً داخل تابوتٍ معدني لا يرحم. لماذا لم يدقوا باب الخزان؟ يعود التساؤل للمرور مرةً أخرى: لقد دقوا باب الخزان، دقوه حتى أدميت أيديهم، هذا الأمر كان واضحاً للغاية، فأبطال الرواية لم يقفوا عند هذا الأمر لقد حاولوا الخروج، لكن الأمر كان مستحيلاً. إذاً كان غسان يورد وبوضوح لكل قراء الرواية رسالة مفادها: إذا ما اخترتم خيار الاستسلام فإنكم في لحظةٍ ما لن تستطيعوا الفكاك، لن ينفع اختياركم للمقاومة في لحظاتكم الأخيرة، حينذاك يفوت الأوان، لن ينفع الندم، كما لن تنفع صرخاتكم الأخيرة في نقلكم من مكانٍ إلى آخر.


ثنائية الأرض-الوقت:
في رواية عائد إلى حيفا (1970)، يتناول غسان لعبتي الوقت والأرض، وهما دون شك أصل المقاومة، فالمقاومة كفعلٍ وجودي ترتبط بهدفٍ وجودي، إنها الأرض العزيزة التي يحارب لأجلها المرء، أما لعبة الزمن فهي مرتبطة بما كانت الحياة عليه، قبل لحظةٍ تاريخية ما، وتحولها كي تصبح "قدراً" آخر في تبدلٍ سريع. يحكي غسان حكاية الطفل الذي يفقده أهله إبان مجازر الصهاينة، وعودتهم للبحث عنه بعد سنين طوال ليجدوه قد أضحى شاباً بعد أن تربى لدى عائلةٍ صهيونية. إنها حكايةٌ قادمةٌ من ألف ليلةٍ وليلة، هو يدرك ككاتب أن الناس تشدهم الحكايات ذات الأبعاد الملحمية والدرامية العالية. يفهم تماماً أنه كي تقرّب فكرة "الثقافة المقاومة" من الناس عليك أن تقنعهم ببساطتها ومباشرتها قبل أي شيءٍ آخر: عائلةٌ تريد ابنها في خطوةٍ أولى، هي لم تنسه، ولن تنساه حتى ولو مرت سنواتٌ طويلةٌ على ذلك: هل كان غسان يقصد أنَّ ذلك الطفل هو الأرض الفلسطينية التي خرج منها الفلسطينيون وتاهوا في لحظة ما، ولاريب سيعودون؟ بدا ذلك واضحاً للغاية، وحتى ولو تجاهله الناس بشكله المباشر، فإن إدراكه كان بسيطا للغاية. لا يهم الوقت، لا يهم الزمن، المهم هو البشر، الذين سيعودون إلى أرضهم، كي يفتشوا عن "ممتلكاتهم"/"أبنائهم"/أرضهم/"بيوتهم"/كل ما امتلكوه يوماً: هل هناك مقاومةٌ أكثر من هذا؟

عن الثقافة المقاومة: غسان كنفاني نموذجاً -2-

غسان كنفاني :" المثقف المقاوم الشهيد

رجالٌ رجال:
"كان ذلك زمن الاشتباك. أقول هذا لأنك لا تعرف: إن العالم وقتئذ يقف على رأسه، لا أحد يطالبه بالفضيلة.. سيبدو مضحكاً من يفعل.. أن تعيش كيفما كان وبأية وسيلة هو انتصار مرموق للفضيلة. حسناً. حين يموت المرء تموت الفضيلة أيضاً أليس كذلك؟ إذن دعنا نتفق بأنه في زمن الاشتباك يكون من مهمتك أن تحقق الفضيلة الأولى، أي أن تحتفظ بنفسك حيّاً. وفيما عدا ذلك يأتي ثانياً. ولأنك في اشتباك مستمر فإنه لا يوجد ثانياً: أنت دائماً لا تنتهي من أولاً"
يأتي هذا الإقتباس من المجموعة القصصية عن الرجال والبنادق (1968) ليصوّر تحليل كنفاني لفكرة "الأنا" قبل أي شيءٍ آخر، هو يدرك تماماً أن المجتمعات في النهاية "أنوية" ومن هنا، إذا لم نفهم أهمية الأنا، لا يمكننا أن نحوّل هذه الأنا صوب "النحن" في لحظةٍ ما، وإذا وصلنا إلى مرحلة "النحن" نصل إلى مرحلة اختيار "ثقافةً" مجتمعية كاملة. فالمقاومة وإن كانت فعلاً "نقطياً" إلا أنها في النهاية فعلٌ أنوي يتحول شيئاً فشيئاً تجاه النحنوية في لحظةٍ ما: أي بلغةٍ أخرى يذوب أنا في نحن، فيخلق مجتمع بأكمله ينادي بثقافةٍ مقاومةٍ متكاملة. أي أنه يكفي أن تبدأ البذرة بالتشكّل في عقلٍ أو روحٍ واحدة حتى تبدأ بالانتشار، نظراً لحقيقتها وقوتها ومنطقها. يخوض كنفاني النقاش في هذه المجموعة ضمن المباشر هذه المرة أكثر من القصص التي سلفت : فالعنوان الذي يظهر بوضوح
: إنه يتحدث عن "الرجال" وعلاقتهم "ببنادقهم"، هنا يرمز كنفاني للمقاومة وثقافتها: الرجال (وليس الذكور) و البنادق (وليس السلاح، أي سلاح) فمن يمتشق البندقية يختلف عمن يحمل "خنجراً" مثلاً،  هنا كان يحدد "معالم" الإطار: من يحملون البندقية يحملونها كي يقاوموا عدوهم المحتل، أولئك من ندعوهم نحن: رجال. كان كنفاني يحمي المقاومين من خلال وسمهم بهكذا طريقة: إنهم رجالٌ ممتشقين بنادقهم بمواجهة أعدائهم. هل هناك بدائلٌ عن ذلك؟ يعرف جميع قراء كنفاني أن غير ذلك لا يكون.

في اصل الثقافة:
في الختام حاول كنفاني عبر فتنته السردية/القصصية أن يقارب "ثقافةً" جديدة لم تكن مطروقةً قبل ذلك في عالمنا العربي، كان يعترف بأنه يكتب عن "المقاومة" كفعل حياة لا بديل أو رجعة عنه. هو كان متنبهاً أنَّ البدائل غير متاحة، وحتى ولو أنها كانت بمتناول اليد، إلا أنّها بعيدةٌ كل البعد عن روح شعوب هذه المنطقة، وكما قال في روايته "ما تبقى لكم"(1966): "الخونة سيختارون أسهل الحلول، أولئك القلة التالفة البعيدة عن الحقيقة، ستختار الأسهل، أما نحن، الباقون: سنختار أن نغرس أقدامنا في الأرض، وأيدينا في البنادق". كان تأثير الثقافة المقاومة التي خلّفها كنفاني في كتاباته كبيراً على أجيالٍ كثيرةٍ قرأت ما كتبه، فضلاً عن أنّها –وبشكلٍ كبير- كانت السبب الذي دفع بجولدا مائير رئيسة وزراء العدو الصهيوني (إبان حياة كنفاني) إلى الطلب من جهاز الموساد الصهيوني قتله "وبأسرع وقتٍ ممكن"، لأنه وبحسب كلامها حرفياً (كما ورد في وثائقي أعدته الجزيرة تحت مسمى: قائمة جولدا)، لو بقي حياً أسبوعاً بعد "لأتلف عقول مئاتٍ أكثر".

2015-07-28