ارشيف من :أخبار لبنانية
كلمة سماحة السيد حسن نصر الله في المؤتمر ’متحدون من أجل فلسطين إسرائيل إلى زوال’
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا خاتم النبيين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً في هذا المؤتمر وفي كل وقت وفي كل عمل ويمكنّنا من أن نعرف تكليفنا أولاً، وأن نعمل بهذا التكليف ثانياً، وأن نخلص في القول والعمل، خصوصاً عندما تكون القضية التي نعمل من حولها قضية بهذا الوضوح الشديد في حقها الذي ليس فيه أي التباس ولا شبهة، حق جلي بيّن واضح، أعني القضية الفلسطينية، قضية القدس ومعركة مواجهة المشروع الصهيوني.
عندما نتحدث عن قضية أو نقاتل من أجل قضية فيها من الوضوح الشرعي والإنساني والأخلاقي والقانوني بكل المعايير، لو فتشنا في قضايا العالم وفي حروب الأرض، لن نجد قضية أو معركة تتمتع بهذا المستوى من الصدقية والأحقيّة والأخلاقية والشرعية والإنسانية كقضية القدس وفلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني ولاغبار عليها.
اليوم، يوجد الكثير من المواجهات والصراعات والمشاريع المتضاربة، ونختلف أين الحق وأين الباطل، وقد يختلط الحق والباطل في بعض الأماكن، لكن هنا نحن أمام حق كامل.
أيها الإخوة والأخوات، أعتقد أن الموقف أيضاً من هذه القضية يجب أن يكون من أهم معايير التقييم. عندما نريد أن نقيّم دولاً، أي موقفها وأداءها وسلوكها ونحكم عليها أو أن نقيّم حكومات أو شعوباً أو أحزاباً أو تيارات أو أشخاصاً، واحد من المعايير، معايير التقييم، موقف هؤلاء من قضية فلسطين ومن الصراع مع العدو الصهيوني والإسرائيلي، موقفهم، سلوكهم، أداؤهم، مساهمتهم، هذا يجب أن يكون دخيلاً، إلى جانب اعتبارات أخرى، بل يجب أن يكون في رأس المعايير التي نعتمدها عندما نقيم الدول والحكومات والشعوب والأحزاب والتيارات والجهات والأطر والشخصيات.
منذ ما قبل قيام الكيان الإسرائيلي واحتلال فلسطين هذه الأمة تواجه مشروعاً صهيونياً يعمل على امتداد العالم، كان يعمل على امتداد العالم وما زال، وأصبح له فيما بعد ـ يعني عام 48 ـ قاعدة أساس وكيان اسمه إسرائيل، قائم على احتلال فلسطين. لا شك أن اسرائيل الدولة والكيان هي القاعدة والأساس ورأس الحربة في المشروع الصهيوني، ولكن المشروع الصهيوني هو عنوان أوسع وحضوره أعمق وامتداده أكبر في العالم.
ما أريد أن أؤكد عليه في البداية وبالتحديد، أن الواجب الملقى على عاتق الجميع هو مواجهة هذا المشروع الصهيوني بكل امتداداته وبكل وجوداته والذي يمثّل الكيان الغاصب لفلسطين والقدس أهمها وأقواها ومرتكزها الرئيس. من هنا سأركز في كلمتي المختصرة على مصطلح مقاومة المشروع الصهيوني أو مواجهة المشروع الصهيوني وهدف هذه المواجهة وهذه المقاومة هو إسقاط هذا المشروع وإنهاؤه وإبعاده نهائياً عن أمتنا وعن منطقتنا.
نحن أمام مشروعين: المشروع الصهيوني الغازي المعتدي المحتل الطامع والطامح والمفسد بل أم الفساد، وبين مشروع المقاومة والمواجهة لهذا المشروع والذي يستند إلى الحق والى المنطق والى القانون والى القيم الأخلاقية والإنسانية.
في هذه المواجهة، وفي هذا الحديث، سأتحدث في مقطعين: المقطع الأول بعض ما أدعو إلى بحثه ودراسته، والمؤتمر يمكن أن يشكل بداية، ونحن بحاجة إلى هذا التقييم، والثاني بعض ما نحتاج إلى فعله. أقول بعض، لأنني لا أقدر أن أقدم كل ما نحتاج إلى فعله.
في المقطع الأول: لقد راكم مشروع المقاومة إنجازات كبيرة وعظيمة على مدى عقود من الزمن، ومنذ الطلقات الأولى في فلسطين، أيام الاحتلال البريطاني لها إلى اليوم، لكن العقود الأربعة الأخيرة شهدت تطورات وإنجازات وانتصارات أكبر وأهم، باختصار شديد، يأتي في مقدمتها إسقاط المشروع الصهيوني على مستوى لبنان. يعني إذا قلنا إن هناك مشروعاً صهيونياً مركزياً له فروع، ففرع لبنان مشي الحال (انتهى)، يأتي في مقدمتها إسقاط المشروع الصهيوني على مستوى لبنان، بتجلياته المختلفة من احتلال مباشر وقوى عميلة لبنانية ومشروع إسرائيلي سياسي للهيمنة على البلد ومشاريع تطبيع ونفوذ بما نختصره بكلمة واحدة: تحرير لبنان باستثناء هذا الجزء الجغرافي، مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر.
أيضا في فلسطين، في حساب الانجازات، ما أنجزته حركات المقاومة الفلسطينية المتتابعة والمتتالية والانتفاضات الشعبية المتتالية واضح على أكثر من صعيد، وكان في مقدمة الانجازات وأوضحها تحرير قطاع غزة من الاحتلال الاسرائيلي بلا قيد وبلا شرط.
من الإنجازات المتراكمة ما قدمته المقاومة في لبنان وغزة من صمود أسطوري في مواجهة الحروب الإسرائيلية الوحشية التي شنها أحد اقوى جيوش العالم من حرب تموز عام 2006 في مثل هذه الأيام إلى الحروب المتتالية على غزة وكان آخرها حرب ال51 يوماً في شهر رمضان من العام الماضي، وتمكنت حركات المقاومة ومَن معها ومَن دعمها ومن ساندها من إفشال أهداف العدوان الصهيوني في كل هذه الحروب وتكريس معادلات ردع ومعادلات أخرى.
ومن الانجازات المتراكمة إعادة القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل إلى مقدمة الاهتمام الدولي والإقليمي وفرضه على الأجندات السياسية لدول العالم.
من جملة الانجازات إحياء ثقافة المقاومة لدى الشعوب وتعزيز الثقة بخياراتها من خلال الانجازات والتضحيات وتقوية العلاقة الوجدانية والعاطفية مع القدس وفلسطين على المستوى الجماهيري في الأمة.
يكفي أن قادة المشروع الصهيوني داخل الكيان وخارجه بدأوا الحديث ولأول مرة منذ سنوات عن معركة وجود إسرائيل وبقاء إسرائيل.
هذا الحديث وجدناه بشكل واضح في انتفاضة الأقصى، وأيضاً مع التطور الكبير الذي تشهده الجمهورية الاسلامية على المستوى التكنولوجي وغيره، ولذلك اليوم اسرائيل تتكلم عن تهديد وجود. هذا طبعا يسجل في إنجازات مشروع المقاومة.
لكن في السنوات الأخيرة، وبسبب التطورات الحاصلة في منطقتنا، وفي أكثر من بلد عربي وإسلامي ـ لنكن واقعيين ـ لحقت أضرار واقعية بمشروع المقاومة ودولها وشعوبها وحركاتها وداعميها، وأيضاً عاد المشروع الصهيوني ليحقق إنجازات بعد مرحلة إنكفاء وتراجع وهزائم، لا أقول ليحقق انتصارات بل ليحقق إنجازات، بعد أن كان قد وصل إلى مرحلة الإحساس بالخطر الوجودي.
ما نحتاجه كدراسة على مستوى الدراسة، أولاً، كما يفعل أي عاقل اثناء المعركة أو عند انتهاء جولة من جولات هذه المعركة، أن يجلس أهل هذه القضية، أهل هذه المعركة ويجروا إحصاءً بالخسائر، إحصاء بالأضرار، هذا يجب أن نفعله نحن، يعني أن أهل المقاومة يجب أن يجلسوا ليقولوا نحن في السنوات الأخيرة، نتيجة التطورات بكل المنطقة، مشروع المقاومة المواجه للمشروع الصهيوني، حسنا، ما هي الإنجازات التي تحققت، وبعد، أنا تكلمت في الأمثلة، نحن لا نقوم بإحصاء، ولكن نحن معنيون أن نحصي الخسائر، وما هي الأضرار.
ثانياً: أن نقوم بدراسة لنرى ماذا حقق الإسرائيلي في السنوات الأخيرة من انجازات، أو تحققت له من انجازات، لأن هناك اشياء تحققت للإسرائيلي بدون أي جهد أو عناء أو تعب. يعني لم يدفع أي فلس ولم يطلق أي طلقة ولم يفعل أي شيء ولكن في سلته نزل ثمار معينة ونتائج معينة. هذا أيضاً يحتاج إلى دراسة وإلى تقييم.
عندما نتحدث عن إحصاء ودراسة الأضرار والخسائر ليس لنقف على الأطلال، وإنما لنعمل على ترميمها، على معالجتها، على تعويضها، أو في الحد الادنى على الحد منها، يعني أن نوقف الخسائر أو نوقف التدهور. وأيضاً عندما نبحث عن النتائج التي كانت لمصلحة العدو فكي نقوم بقطع الطريق عليها أو محاصرتها أو تعطيلها، أو في الحد الأدنى منع ازديادها وتناميها.
إذا اقتربنا قليلاً على سبيل المثال، وإلا أنا أرى أن هذا موضوع جدير بالدراسة والتوقف. على سبيل المثال فقط للإضاءة ومن دون تحميل مسؤوليات، أنا سوف أتكلم عن الخسائر ولا أريد أن أحدد المسؤول ولماذا حصل ذلك، ولكن هذه نتائج الآن موجودة:
واحد: أهمها وأخطرها هو خروج فلسطين والصراع مع العدو الاسرائيلي من دائرة الاهتمام الدولي والإقليمي والعربي والإسلامي. هذا ليس بحاجة إلى نقاش، ليس بحاجة إلى لجنة لمناقشته، واضح. أصلاً العالم مشغول في مكان آخر، وفلسطين في مكان مختلف. لكن المحزن والمؤسف في هذا الامر هو خروج فلسطين ليس من اهتمام الدول الحكومات والانظمة بل خروجها من اهتمامات الشعوب، لأنه الآن كل شعب في المنطقة لديه مشاكله ومعاركه وصراعاته ومصائبه وكوارثه. هذا بالتأكيد أدى إلى عزلة الشعب الفلسطيني أو شبه عزلة من جهة وأعطى فرصة تاريخية لحكومة العدو كي تواصل برامجها في غفلة من العالم على كل صعيد: تهويد، قضم، مسوطنات، تهجير المقدسيين، تهجير الفلسطينيين، الإيغال في محاصرتهم اقتصاديا وترهيبهم وتجويعهم، وصولاً إلى ما يتعرض له الأقصى والمقدسات في مثل هذه الأيام. ومثل ما أشار الإخوة قبلي في بداية الافتتاح، ما يجري هذه الأيام في الاقصى مخيف، اليوم أحد الحاخمات ظهر ببدعة جديدة حيث يقول إن المسيح لن يأتي من السماء، هذا اليوم، المسيح يخرج من الأرض، فيقولون له مَن هو هذا المسيح الذي يخرج من الأرض، يقول إن من يهدم المسجد الاقصى هو المسيح، وإذا فعل نتنياهو ذلك فهو المسيح، يعني الامور واصلة إلى هذا الحد. هذا طبعا يعني أن أي شيء ممكن يتعرض له الأقصى لا أحد يدري بأي صف وفي أي درجة سيقع في اهتمامات العالم الاسلامي والدول الاسلامية والشعوب الاسلامية، الله أعلم، هذه من الخسائر.
ما حصل في سورية وما زال مستمراً أيضاً من خسائر مشروع المقاومة، لما مثّلته وتمثّله سورية من موقع رئيسي ومركزي في هذا المشروع، في هذا المحور.
العراق بعد التحرير وخروج القوات الاميركية وكذلك اليمن، فرصتان واعدتان وعظيمتان في مشروع المقاومة، ولا زالتا ولا تزالان فرصتين واعدتين، لكنهما تتعرضان للحرب القائمة والمدمرة.
المزيد من التفكك في الواقع العربي والاسلامي الرسمي وغير الرسمي، وتسعير العداء للجمهورية الاسلامية في ايران، مع انها باتت تمثل بوضوح الداعم الأكبر والمركزي والأساس للأمة كلها في مواجهة المشروع الصهيوني.
لا شك أن ما يجري في مصر وليبيا وتونس والبحرين وبلدان أخرى، كله يؤثر بشكل أو بآخر.
لكن يبقى ما هو أخطر من هذا كله من وجه نظري هو الآثار النفسية والوجدانية التي يعمل على إيجادها وتعميقها في منطقتنا ولدى شعوب منطقتنا ضد كل ما هو فلسطيني وفلسطين في بعض المجتماعات. لست بحاجة إلى أمثلة، في كثير من المناسبات تكلمت في هذا الموضوع. في المقابل، وهو الاخطر، الإحساس بالراحة النفسية وسهولة التعامل والتواصل مع الإسرائيلي وسقوط الجدران النفسية معه. يعني الآن في المنطقة أصبح أمراً عادياً أن نتكلم مع الإسرائيلي ونأخذ منه الدعم ونأخذ منه السلاح ونأخذ منه الأموال ونطبب جرحانا عنده ونرسل مرضانا إليه. قديماً كان يحسب لهذا الموضوع ألف حساب، الآن هذه الجدران تتهاوى، وهذا يفتح الباب، وهذا من الانجازات للعدو، وهنا يأتي العنوان الثاني: من إنجازات الاسرائيلي أنه يستفيد من صراعات المنطقة ليعبر، ليس إلى الحكومات بل إلى الشعوب في تطوير حركة التطبيع التي لم تتوقف، الذي توقف هو مقاومة التطبيع، أما مشاريع التطبيع في العالمين العربي والإسلامي مع العدو الإسرائيلي، التطبيع السياسي، التطبيع الثقافي، الاقتصادي، التجاري، المشاركة بالمؤتمرات، هذا لم يقف. الآن نحن لا نتابعه لأننا كلنا مشغولين بمحل آخر. الذي توقف هو مقاومة التطبيع.
أيضاً يجب أن نعيد دراسة وتقييم عناصر القوة الحاضرة في مشروع المقاومة، كل الذي اتكلم عنه من خسائر لا يعني أن مشروع المقاومة ضعيف، لا، نحن في مشروع المقاومة وأنا استخدم عبارة مشروع المقاومة لتكون أوسع من محور المقاومة،لأن محور المقاومة بات محسوباً على الدولة الفلانية والفلانية والجهة الفلانية والفلانية.
نتحدث أوسع، نحن لدينا عناصر قوة كبيرة جداً، الإسرائيلي يحسب ألف حساب لعناصر القوة هذه، ما زالت كل هذه التحضيرات والتجهيزات والتدريبات والمناورات حتى التي يجريها هذه الأيام الأخيرة، ومنها الاستدعاءات العاجلة بكيان العدو. الإسرائيلي يعلم أنه يواجه قوى حقيقية موجودة في المنطقة بالرغم من كل الخسائر والأحداث المؤلمة التي نتحدث عنها.
يجب أن نبحث أيضا عن عناصر قوة جديدة في كل العالم. أنا أعتقد أن حركات المقاومة، محور المقاومة، أهل المقاومة، بهذا الموضوع نحن لم نعمل بشكل كامل، بأمريكا اللاتينية هناك فرص واعدة، بإفريقيا، بآسيا، حتى في أوروبا، على المستوى السياسي، على المستوى الإعلامي والمستويات المختلفة، وهذه معركة يجب أن تخاض في كل مستوياتها.
أيضاً في إعادة التقييم والدراسة وعلى ضوء عبر الماضي، وكل هذه التجارب، يجب أن ندرس ونقيم بدقة بعد الله سبحانه وتعالى على من نعتمد، على من نعوّل، على من نستند. من يدعمنا، يدعم مشروع المقاومة حقا ويواصل هذا الدعم، ومن يبيعنا في أسواق النخاسة وعند أول مفترق طريق. هذا جزء من التقييم لأن الذاهب إلى معركة بحجم معركة مواجهة إسرائيل والمشروع الصهيوني يجب أن يستند إلى ظهر متين وقوي ومحكم، لا أن تقطع به السبل في منتصف الطريق، حتى لا نعيد تجارب فاشلة أو نبقى نركض خلف السراب.
المقطع الثاني: بعض ما يجب أن نفعله.
أولاً: العمل ـ وهنا أعتقد أن اتحاد علماء المقاومة، عموماً العلماء، عندهم مسؤولية كبيرة في هذا الموضوع ـ على تأكيد عقائدية هذه القضية وهذه المعركة وهذا الصراع. يعني هذه قضية ما فوق السياسي، ما فوق الوطني، ما فوق المصالح، ما فوق الطوائف والمذاهب والعرقيات، ما فوق الأحزاب والحركات والفصائل والمناطق، هذه قضية فوق مستواها. عندما أقول عقائدي طبعاً لا أقصد المعنى المصطلح إسلامياً، وإنما يعني أن هذه من الثوابت الأساسية الكبرى عند الأمة، عند أحزابها وحركاتها ونخبها وعوامها وا وا وا ألخ.
التأكيد على عقائدية هذه المعركة ما هي نتيجته؟
يمكن أن تكون من أهم نتائجه أنه عندما نختلف في السياسة في داخل البلد أو في خارج البلد أو على مستوى الأمة كما هو الحال الآن، عندما نختلف في تقييم الأحداث في منطقتنا كما هو الحال الآن، نحن مختلفون في تقييم الأحداث وفي فهمها وفي مقاربتها موضوعياً، نحن مختلفون لكن عندما تكون لدينا قضية ومعركة فوق السياسة وفوق المصالح وفوق كل هذه الاعتبارات تبقى هذه القضية هي المركز، مركز الجمع المتين والمكين الذي يجمعنا ويوحد طاقاتنا بهذا الاتجاه المحدد وإن تشتتت طاقاتنا في الاتجاهات الأخرى.
هذه أهمية أن نكرس عقائدية الصراع مع العدو الإسرائيلي وعقائدية قضية القدس وفلسطين وتحرير فلسطين. إن الجهد الفكري والثقافي والتعبوي، خصوصاً من السادة العلماء، مؤثر جداً في هذا المجال.
أيضاً عقائدية هذه القضية يساعدنا في التحصين النفسي.
أنا تحدثت قبل قليل أن أخطر الخسائر هو الموضوع النفسي، ولم أشرحه لأنه واضح وسأعود إليه لاحقاً، هو نحن جميعاً ما هي علاقاتنا بفلسطين، ماذا تعني لنا فلسطين، الآن نحن يعنينا بلدنا ومشاكلنا ومصائبنا وكوارثنا وأزماتنا، الفلسطيني فلينظر ماذا يفعل بنفسه.
بالحقيقة هذه الأمة نزلت (بمستواها). في البداية كانت فلسطين معركة الأمة، مسؤولية الأمة، واجب الأمة، الأمة كلها يجب أن تقاتل وتحمل بندقية وتدخل إلى أرض فلسطين ولا تعترف بحدود، ولم يكن أي فرد من هذه الأمة عندما يريد أن يقاتل في فلسطين بحاجة إلى تبرير وبحاجة إلى أعذار وإلى حجج وإلى أن يدافع عن نفسه وإلى وإلى وإلى.
نزلنا، لأنه باتت هناك كيانات وطنية ومصالح وطنية، بتنا نقول إن فلسطين هي مسؤولية الشعب الفلسطيني كما كلنا نقول، نحن أيضاً من هؤلاء، فلسطين هي مسؤولية الشعب الفلسطيني، ونحن جميعاً مسؤولياتنا أن ندعم الشعب الفلسطيني، أن نساند الشعب الفلسطيني.
هذا تنازل، لكن للأسف الشديد، الآن على مستوى الأمة وصلنا إلى مكان باتت فيه فلسطين مسؤولية الشعب الفلسطيني ونحن لا علاقة لنا، لسنا قادرين على المساعدة ولا نستطيع أن ندعم. "كل واحد يقبّع شوكه بيده". هذه كارثة في هذه المعركة وفي هذه المواجهة، هذا موضوع نفسي وموضوع ثقافي.
عندما نؤكد عقائدية المعركة وأنها فوق السياسة والوطنية والمصالح والمناطق وا وا وا سوف تكون مسؤوليتنا تجاه فلسطين والقدس ومواجهة المشروع الصهيوني مسؤولية فكرية ونفسية وروحية وعاطفية، وبالتالي انعكاسها العملي مسألة مختلفة تماما.
وهنا في هذا السياق أدعو السادة العلماء وكل المعنيين بهذا المشروع وبهذه القضية إلى تبني ـ بحق وبجد وبعيدا عن أي اعتبارات وحساسيات ـ دعوة الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه بأعتبار آخر يوم جمعة من شهر رمضان يوماً للقدس العالمي. هذا يؤكد عقائدية الصراع وعقائدية مسألة فلسطين والقدس.
ولذلك رأينا نحن، حتى هذا العام، بالرغم من كل المصائب، المظاهرات التي خرجت في الكثير من دول العالم في يوم القدس العالمي. لو أرادت هذه الناس التي نزلت إلى الشارع أن تتصرف من داخل المزاج السياسي والنفسي والعاطفي السائد حاليا في منطقتنا ما كان أحد لينزل ويتحدث بالقدس، ولكنها نزلت إلى الشارع من موقع الارتباط العقائدي بالقدس وليس من موقع الأرتباط السياسي أو المصلحي.
إذا أولاً التأكيد على عقائدية هذه القضية. طبعا العلماء دورهم كبير في هذا الموضوع، الأطر العلمائية والاتحادات العلمائية.
ثانياً: وجوب بذل كل جهد ممكن لإخماد الحروب ووأد الفتن وإصلاح ذات البين وإيجاد الحلول السياسية للصراعات القائمة حالياً في أكثر من بلد ودولة.
ثالثاً: إحياء وتفعيل كل أشكال مقاومة التطبيع مع العدو الإسرائيلي. هذا قلت بالحقيقة إنه انتهى اليوم. ربما نكون غير قادرين على فتح جبهات عسكرية نتيجة أن معطيات المعركة اختلفت عن السنوات الماضية، معطيات المعركة بغزة، معطيات المعركة بلبنان، أكيد اختلفت عن سنوات سابقة بعد الحروب.
لكن مقاومة التطبيع اليوم بالعالم العربي والإسلامي وأينما كان، إما انتهت أو في حالة خمود وفي حدّها الأدنى، في الوقت الذي نجد فيه أن التطبيع مستمر. يجب أن نبحث كيف نطلق عملية مقاومة التطبيع من جديد، لأنه نحن لسنا بحاجة الآن في هذا الخطاب أن نشرح لبعضنا مخاطر التطبيع مع العدو الإسرائيلي على نتائج هذا الصراع وعلى فلسطين وعلى القدس.
رابعاً: في هذه المرحلة بالتحديد، في هذا الزمن، نحن نحتاج إلى حملة إعلامية وسياسية وتعبوية واسعة. هذا يحتاج لخطة وجهود كبيرة جداً للتذكير على ثلاثة خطوط:
الخط الأول: لتذكير شعوب المنطقة مسلمين ومسيحيين وأمتنا بحقيقة هذا العدو الإسرائيلي، بماهيّته، بهمجيته، بوحشيته، بإرهابه، بمجازره. لأنه يبدو أن هناك ناس نسيت بسرعة، وهناك ناس أمام المشاهد الجديدة التي تراها في المنطقة تحاول إجراء مقارنات غير صحيحة.
ما يضرب منطقتنا الآن من إرهاب تكفيري هو خطير جداً ولكن ما زال الإرهاب الإسرائيلي فوق كل ما يفكر به إنسان. المجازر التي ارتكبها، بقر البطون، الذبح، القتل، الإبادات الجماعية، أو في الحد الأدنى هي متشابهة. لكن أن يتم تجهيل وإغفال حقيقة هذا العدو، حتى يقدَّم لاحقاً حتى كصديق أو ضمانة لبعض الفئات الشعبية في منطقتنا، فهذا أمر يحتاج إلى جهد معاكس.
إذاً، أولاً للتذكير بحقيقة هذا العدو ووحشيته وهمجيته ومجازره وإرهابه.
ثانياً: لتذكير حكومات وشعوب المنطقة، وإذا كانت الحكومات لا تسمع وهي أغلبها لا تسمع من زمن، فشعوب المنطقة، أن هذا الكيان هو وحش رابض على أرض فلسطين يتهدد كل المنطقة، يتهدد أمنها وسلامها واستقرارها ومصالحها وخيراتها ومستقبلها، وأن أطماعه لم تسقط ولم تنتهِ وأن تهديده ما زال قائماً. لأنه ـ للأسف الشديد ـ البعض أسقط إسرائيل من دائرة التهديد. الآن هناك بعض الدول العربية إذا قررت أن تجري ـ إذا أجروا طبعاً ـ عادة هناك دول تجلس وتعيد النظر كل مدة ومدة باستراتيجيتها وعقيدتها القتالية وموضوع أمنها القومي والتهديدات والفرص، على كلّ إذا عملوا، هناك ناس أسقطوا أصلاً من لائحتهم أن إسرائيل تشكل تهديداً. هذا ليس غريباً على بعض الحكومات، لكن ما أعرفه أنه بالنسبة أيضاً لبعض الاتجهات الشعبية هي أخرجت إسرائيل من دائرة العداء أو التهديد، وهذا خطر جداً في مسار هذه المواجهة.
ثالثا: تذكير العالم وتذكير الأمة وشعوب الأمة بمعاناة الشعب الفلسطيني والمجازر التي ارتكبت بحقه وما زال يعانيه حتى الآن في كل ساعة وفي كل يوم. هذا يجب أن يكون حاضراً في كل وسائل إعلامنا وفي خطابنا وفي مناشداتنا لناسنا، ما ارتكبه الإسرائيلي أيضاً في لبنان، وسورية، والأردن، ومصر والمنطقة، ما ارتكبه في حرب تموز من مجازر وما ارتكبه قبلاً، هذا لا يجوز أن يُنسى، يجب ان يسلط الضوء عليه بشكل دائم لإعادة التأكيد على موقع العدو الطامع والمهدد الذي يمثله هذا الإسرائيلي.
خامسا: إيجاد أطر للتواصل ولتنظيم الاستفادة من كل إمكانية وطاقة في العالم لمساندة مشروع المقاومة، بعيداً عن أي اعتبارات دينية أو عرقية أو سياسية.
سادسا: هذه المواجهة ـ أيها السادة العلماء والإخوة والأخوات ـ بحاجة إلى إخلاص شديد. سأتحدث هنا بالبعد النفسي والروحي والمعنوي، وبحاجة إلى ترفع استثنائي عن المصالح، عن الحساسيات وعن الاعتبارات، سواء كانت حزبية أو فصائلية أو مذهبية أو طائفية أو قطرية أو عرقية، فضلاً عن الشخصية.
نحن في معركة قدمت فيها شعوبنا وجيوشنا وحركات المقاومة فيها تضحيات جسام، قادة كباراً، قدمت أغلى ما عندها من زهرة شبابها، من فلذات أكبادها، تحملت شعوب هذه المنطقة بجدّ وبصدق وبإخلاص. ما كانت تفتقده ليس روح التضحية، ما كانت تفتقده هو القيادة الواحدة المركزية المخلصة الصادقة المخططة التي تجمع طاقات الأمة وتحرر فلسطين منذ زمن طويل بما يليق بتضحيات جيوش وحركات المقاومة وشعوب هذه المنطقة.
هذا يجب أن يقابله أخلاص, من ترجمات هذا الاخلاص أن من يحمل راية المقاومة ويتقدم يجب أن نمشي جميعاً معه بمعزل "شو اسمه، عربي، عجمي، ما طائفته حتى شو دينه، شو بلده، مين ما كان يكون"، من يحمل الراية ويتقدم الصفوف الأمامية لاستعادة فلسطين ولاستعادة القدس ولدفع المشروع الصهيوني عن هذه الأمة يجب أن نسانده وأن نلتف حوله وأن نقف معه ونمشي سوياً، ونسقط كل الحسابات والحساسيات والاعتبارات الأخرى.
هذا من مفاعيل الإخلاص، إذا كنا مخلصين للقدس ولفلسطين ولشعب فلسطين ومواجهة هذا المشروع.
إذا تقدمت مصر يجب أن نكون معها وإذا تقدمت إيران يجب أن نكون معها، وإذا تقدمت سورية يجب أن نكون معها، وإذا تقدمت أي دولة عربية أو إسلامية، إذا جاءت أندونسيا من آخر الدنيا وقالت أنا أندونيسيا بسياسة ودبلوماسية وبإمكاناتي ومالي ومقدراتي، وإذا احتاج الأمر شعبي وسلاحي أنا أريد أن أتحمل هذه المسؤولية/ كلنا يجب أن نصبح أندونسيين، هذا معنى الاخلاص.
ولا نقف عند مسألة أن هؤلاء اندونسيون ونحن عرب، ونحن لا أعرف ماذا، شيعة وسنة ومسلمين ومسيحيين. لكن في هذه النقطة، المشكلة التي نعاني منها ما هي؟
أن البعض لا يدعم ويمنع من يدعم. عندما يتحول الداعم إلى مدان ومتهم وعندما يتحول المدعوم أيضا إلى مدان ومتهم. بعض حركات المقاومة عندما تتلقى دعماً حقيقياً من دولة معينة، نتيجة الحساسية مع هذه الدولة، تصبح حركة المقاومة هذه متهمة، ليس فقط متهمة في موقفها السياسي، وإنما تصبح متهمة حتى في دينها وحتى متهمة في مذهبها.
"هيك براسمالها"، إذا حركة مقاومة سنية تتلقى دعماً من الجمهورية الاسلامية في إيران، لا تُتهم في موقفها السياسي بل تتهم بالتشيع.
"طيب يا أخي"، لدينا مثل عامي يقول: "لا بترحمونا ولا تسمحوا لرحمة الله تنزل علينا؟". تفضلوا احملوا الراية، هذا خطاب لكل الدول العربية، للملوك والرؤساء والزعماء في العالم العربي والعالم الاسلامي. فلتتقدم أي دولة عربية واسلامية ولتتحمل المسؤولية، وأنا واحد من الناس وكثير من الموجودين الآن في القاعة نضمن لكم أن إيران ترجع إلى الخطوط الخلفية شاكرة غانمة سعيدة لأنها هي في هذه المعركة تتحمل أعباء كبيرة وخطيرة جدا وتواجه بسبب هذه المعركة تهديدات كبرى وتضيع عليها بالمعنى القومي مصالح كبرى. إذا أتت أي دولة عربية إسلامية لتقول أنا أتقدم، نحن كلنا مع هذه الدولة العربية الإٍسلامية ونتجاوز كل شيء، لا نقف عند أي اعتبار وعند أي حسساسيات وعند أي حسابات. هذا طبعا نحن نحتاجه، هذا الاخلاص.
هذا الاخلاص نحن نحتاجه.
القضية الأخيرة التي أود أن أشير إليها وأختم بها، وهي أيضاً تحتاج في الحقيقة إلى توقف في أعمال المؤتمر وبعد المؤتمر وفي كل مكان.
من المشاكل الكبرى التي تمس جوهرياً هذا الصراع هو ما بدأ يترسخ في أذهان وقناعات مجموعات كبيرة من سكان هذه المنطقة، من دون مقدمات: اليوم، نتيجة الجرائم التي ترتكب باسم الإسلام، وترتكبها جماعات تكفيرية بحق كل سكان المنطقة، سنة، شيعة، مسلمين، مسيحيين، مختلف أتباع الديانات، مختلف أتباع المذاهب الإسلامية، هم يعترضون الآن، لكن هناك خصوصية ترتبط بالأقليات الدينية، أتباع الأديان، غير المسلمين، وهناك خصوصية ترتبط ـ لأكون واضحاً ـ أيضاً باتباع المذاهب الإسلامية من غير المذاهب الأربعة، من غير إخواننا أهل السنة.
من جملتهم ـ عندما نعد أتباع بقية المذاهب الإسلامية نعد من جملتهم ـ الشيعة. هذه المجموعات البشرية الموجودة بالمنطقة، حتى لا أعود وأتحدث عن أسمائها او صفاتها، المقصود من غير المسلمين ومن المسلمين من غير إخواننا أهل السنة.
المعركة التي تخاض تحت الشعار التكفيري، الجرائم التي تنفذ، الخطاب الديني والسياسي لهذه الجماعات ماذا يقول لنا؟ يقول إن خلافه معنا ليس سياسياً. أنا أقتلكم لأنكم أتباع هذا الدين، إذا كانوا غير مسلمين، وأقتلكم لأنكم أتباع هذا المذهب إذا كانوا من غير أهل السنة، وإذا كانوا من أهل السنة أقتلكم لأنكم من أتباع مثل هذا الفكر أو هذا المنهج أو هذه الطريقة أو ما شاكل.
لكن أنا أود أن أستثني موضوع السنة قليلاً لأركز على هذه الجماعات. هذا إلى أين يوصل؟ بالفعل هذا الذي يجري الآن، القتل الذي يجري الآن، بالنسبة لهذه الجماعات واضح، هذا ليس افتراء، لا، هذه حقيقة، القتل على أساس الانتماء الديني أو الانتماء المذهبي وليس على أساس سياسي أو معركة سياسية أو اتهام سياسي أو مشروع سياسي.
هذا إلى أين يوصل؟ يوصل هذه الجماعات إلى قناعة أنه نحن نتعرض لمعركة وجود، وهذا طبعا ليس له سابقة بتاريخ المنطقة، وهذه المنطقة التي تعيش في ظل الاسلام من 1400 سنة، هذا يؤكد أن ما يجري الآن ليس له أي صلة لا بالاسلام ولا بالخلفاء الراشدين ولا بالسلف الصالح ولا بكل هذا التاريخ الاسلامي الطويل العريض.
عندما تشعر أي جماعة بأن وجودها مهدد، وجودها الخارجي، رجال ونساء وأطفال، ليس فقط مقدساتها ومساجدها وكنائسها ومدارسها الخ. لا، وجودها، وجودها البشري مهدد، من حقّها الطبيعي الفطري وأيضاً من حقها الشرعي أن تدافع عن وجودها. هذا لا يوجد فيه نقاش.
عندما تنكفئ هذه الجماعات لتدافع عن وجودها، أول شيء خرج من المعركة هو إسرائيل، لأنه سوف تبنى أولوية مطلقة اسمها الدفاع عن الوجود. تأتي تقول له إسرائيل، يقول لك إسرائيل خطر آتٍ، خطر مؤجل، خطر بالقوة وليس بالفعل. الآن عليّ أن أواجه الخطر الفعلي. تصبح أولوية مطلقة، قد تتطور الأمور نفسياً وفكرياً وثقافياً كما ذكرت قبل قليل، أن تخرج إسرائيل من لائحة العدو، وتخرج فلسطين من لائحة الاهتمام، وليس من لائحة الأولويات بل من لائحة الاهتمام ومن لائحة المسؤولية. قد يتطور الموقف إلى حد ـ وهذا أتمنى أن نأخذه كخطر جدي وحقيقي والإسرائيلي يعمل عليه ـ أن بعض الجماعات الدينية أو التي تنتمي إلى مذاهب اسلامية معينة قد تصل إلى مرحلة تتطلع إلى إسرائيل، إلى العدو، على أنه حامٍ ومدافع وضامن.
هذا أخطر شيء يواجهه مشروع المقاومة في المنطقة.
هذا الأمر ينطبق على أتباع الديانات وعلى أتباع المذاهب.
الإسرائيلي الخبيث هو بدأ يقدم نفسه هكذا، أنه هو الذي يشكل الحامي وهو مستعد أن يتدخل ليحمي هذه الطائفة وتلك الطائفة وأتباع هذا المذهب وأتباع ذلك المذهب بل وصل به الأمر إلى أكثر من ذلك. أنا عندما قرأت ما سأذكره لكم تذكرت أن هناك رواية، بمعزل عن سندها، تقول إن رحمة الله سبحانه وتعالى تتسع يوم القيامة إلى حد أن عنق ابليس تمتد إليها. تصوروا أن عنق إبليس الإسرائيلي امتد إلى حد ـ وهذا أنا قرأته عند بعض الخبراء الإسرائيليين ـ يقول نحن نتوقع أو نأمل أن يأتي يوم، حتى أشد أعدائنا في لبنان يمد إلينا يد الصداقة، ويسمي حزب الله بالتحديد.
نحن بالحد الأدنى نتحدث كحزب الله، وإلا فالمقاومة اللبنانية أقدم منا بكثير، من 33 سنة هناك صراع عقائدي وجهادي ودامٍ بيننا وبين الإسرائيلي، ونعتبر الإسرائيلي من أعدى الأعداء في هذا العالم وفي هذا الوجود ومستعدون في ثقافتنا وفي تعبئتنا الداخلية أن نموت بلا طعام وبلا دواء وبلا استشفاء وأن تُسحق عظامنا دون أن نمد يدنا لنطلب عونا من إسرائيل، مع ذلك إسرائيل تتطلع إلى يوم تتوقع فيه أن هؤلاء الأعداء يمدون إليها يد الصداقة. ما الذي دفعها لتمد عنقها؟ هو هذا الذي يجري في المنطقة.
أنا لا أتحدث بهذا للسرد، بل أتحدث بهذا لأحمّل مسؤوليات هنا.
هناك مسؤوليات على علماء ونخب هذه المذاهب وهذه الأديان، رجال الدين المسيحيين، رجال الدين المسلمين، علماء الشيعة، علماء الدروز، علماء العلويين، علماء الإسماعيليين، علماء الزيدية، علماء الإباضية ـ لأنهم فتحوا هذه المشكلة أيضا بالجزائر ـ العلماء والنخب الذين يخاطبون هذه الجماعات معنيون أن يقولوا لهم: لا، عليكم الانتباه، صحيح نحن نواجه تهديدات بهذا المستوى، لكن هذا النوع من المعالجة، هذه الطريقة في التفكير، هذا الصنف من المشاعر، هذا خطأ لا ينسجم لا مع ديننا ولا مع عقيدتنا ولا مع ثقافتنا.
في يوم القدس قبل عامين، أنا عادة لا أخطب شيعي سني، لكن أنا قلت في خطاب يوم القدس عبارة ليس بخلفية طائفية، عندما تحدثت عن شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لأنه اصدقكم القول، وقتها لم أشرحها، الآن أذكرها.
هناك جهد غربي وعالمي وإعلامي، من الخارج ومن الداخل، لإبعاد هذه الشريحة من المسلمين، أي الطائفة الشيعية عن المعركة مع إسرائيل. هذا هدف، هذا لا يجري بالصدفة وما يجري على هؤلاء كما يجري على آخرين، لكن عند كل ناس يتم توظيفه بالاتجاه المطلوب.
ما يجري منذ سنوات في أكثر من بلد في أكثر من دولة هو مخطط ومتعمد، والهدف إبعاد الشيعة عن فلسطين وعن الشعب الفلسطيني وعن القدس وعن الصراع مع العدو الإسرائيلي، بل إقناعهم في مرحلة من المراحل أن الذي يشكل تهديداً وجودياً لكم هم أهل السنة، "مش التكفيريين بل أهل السنة"، وأن القواسم المشتركة ـ في معركة الوجود ـ مع إسرائيل أكبر.
هناك مستوى من الخيانة الكفرية الآن يطرح في العالم ولا اختبئ خلف اصبعي، وأقول إنه لن تجد اذانا صاغية في الوضع الشيعي، كما لن تجد أذان صاغية في الوضع المسيحي أو في الوضع الدرزي أو في الوضع السني، أو في أي وضع.
لذلك في يوم القدس أنا قلت، واليوم في مؤتمركم أعود وأقول، ليس فقط عن لبنان، لا، أنا أعرف، أنا على اتصال بكل العلماء، وأعرف مراجعنا كيف يفكرون، سماحة الإمام القائد والمسؤولين بإيران، وفي كل أنحاء العالم، نعم أنا اليوم أيضاً أقول لكم: لو جرى ما جرى، ولم يتوقف ـ والمطلوب أن يتوقف ـ أيّاً تكن الأحداث والمصائب والآلام التي تحصل هنا، كشيعة يجب أن نفكر، وكغير شيعة يجب أن نفكر، أنا قلت عبارة نحن شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) لن نتخلى عن فلسطين ولا عن شعب فلسطين لا عن مقدسات الأمة في فلسطين.
وهذا ليس موقفاً عابراً. هذا موقف عقائدي، هذا موقف فكري، هذا موقف شرعي، هذا موقف فقهي، هذا موقف وجداني.
في يوم القدس، من المشاهد التي أثرت بي كثيراً، وهذه تشكل شاهداً على الموضوع العقائدي الذي ذكرته في البداية. أنا أفهم أنه بكثير من دول العالم تنزل الناس مظاهرات وتقيم احتفالات إحياء يوم القدس، لكن في نبّل والزهراء، في سورية، في منطقة حلب، نبّل والزهراء، البلدتان المحاصرتان منذ سنوات، اللتان تتعرضان للقصف بشكل يومي والهجمات، ويوجد من نسائهم سبايا حتى الآن، هناك بعض نسائهم سبايا، يخرجون بيوم القدس يتظاهرون ويحملون أعلام فلسطين ويحملون شعار القدس ويحتفلون بيوم القدس، وهم المحاصرون بنبل والزهراء، ويتحدثون عن الوصول إلى القدس وإلى المسجد والصلاة في المسجد الأقصى.
هذا مَن يفعله؟ هذا تصنعه العقيدة. أما بكل الحسابات غير العقيدة لا يمكن أن يفعلوا هذا، ولا يتحدثون بهذا، لأنه يجب أن تكون أولويتهم مختلفة وظروفهم مختلفة، نتيجة الوضع الذي يعيشونه.
إذاً نحن أمام مسؤولية كبيرة، أن لا نسمح بهذا التداعي الفكري والنفسي والروحي وحتى الأخلاقي نتيجة الأحداث التي تجري في منطقتنا.
إخواننا علماء السنة الكرام والأعزاء يتحملون أيضاً على عاتقهم مسؤوليات كبيرة. حتى الآن الكثير من المواقف الشجاعة التي اتخذت في هذه السنوات، في هذا المؤتمر، في الأطر العلمائية المختلفة، المواقف الشجاعة التي ميّزت وعزلت وأدانت هؤلاء التكفيريين وجرائمهم، هذا في ميزان الأعمال، هذا ليس عملاً فردياً، ليس خدمة فردية، هذا خدمة على مستوى الأمة ومعركة الأمة ومشروع الأمة، وهذا الأمر يجب أن يتواصل لأن هؤلاء يجب أن يعزلوا.
أهل السنة، لأنهم هم الأغلبية القصوى في هذه الأمة، هم المعنيون أن يتحملوا أكثر، هم المعنيون أن يطمئنوا أتباع الديانات الإلهية السماوية وأن يطمئنوا أتباع المذاهب الإسلامية أكثر من ما يطالب أتباع المذاهب الإسلامية بالطمأنة. حقيقة القوى وتركيبة المنطقة وتركيبة الأمة تعني أن هناك مسؤولية من هذا النوع. هذا الأمر كيف نترجمه؟ طبعاً يحتاج إلى تأكيد.
أنا أعتقد أن الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة، هذا الاتحاد المبارك وبرئاسة العالم الجليل والمجاهد والشجاع سماحة الأخ الشيخ ماهر حمود وإخوانه العلماء الأفاضل، وكإطار علمائي واسع وممتد ومتنوع، يستطيع أن يكون مبادراً حقيقياً وشريكاً أساسياً مع جميع أطر وحركات المقاومة لتصويب وتصحيح وترميم وتفعيل كل ما يجب أن يصوّب ويصحّح ويرمّم ويفعّل ليتقدم مشروع المقاومة قدماً نحو الانتصار النهائي الآتي إن شاء الله.
نحن نعتقد بشكل جازم أن إسرائيل الغدة السرطانية إلى زوال، وأن فلسطين والقدس ستعودان إلى أهلهما. المسألة هي مسألة وقت فقط وترتبط بإرادة وفعل وجهاد وتضحيات هذه الأمة على قاعدة "إن تنصروا الله ينصركم". وأنا أعتقد أيضاً بالرغم من كل المآسي الحاضرة، أن أمتنا ـ لأن الخير فيها إلى يوم القيامة، لأن شعوب منطقتنا بفعل الامان والوعي والاخلاص والصبر والتحمل ـ ستتمكن من تجاوز هذه المحنة وستخرج منها بفعل كل هذه التجارب القاسية أصلب عوداً وأمضى عزماً، وحينها سيكون الحساب مع أم الفساد إسرائيل عسيراً وعسيراً جداً.
إن اليوم الذي نصلي فيه جميعاً في القدس، إن شاء الله، آت لا محالة، وكل هذه المحن والمؤامرات والمصائب إنما هي ابتلاءات تبلور وتجوهر وتصلب كل المؤمنين بهذا المشروع وبهذا الطريق لتمكّنهم وليكونوا جديرين بالنصر الآتي، لأن هناك أناساً يمكن أن ينتصروا ويضيعوا النصر. الله سبحانه وتعالى يريد لأمتنا في انتصارها النهائي في مواجهة المشروع الصهيوني وفي استعادة فلسطين والقدس أن تكون جديرة لائقة بهذا النصر التاريخي الهائل وأن تكون جديرة بحفظ هذا النصر، وعدم تضييعه كما ضاعت الكثير من الانتصارات.
أعتذر على الإطالة، بارك الله فيكم وبارككم جميعاً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.