ارشيف من :آراء وتحليلات
الاتفاق النووي (3): المنظور الإقليمي
السؤال الذي يشغل بال المتابعين هو عن تداعيات الاتفاق النووي إقليمياً؟ هل سيؤدي الى تسوية إقليمية؟ جزئية أم كاملة؟ أم أنه سيؤزِّم الصراع في المنطقة؟ تأثير الاتفاق إقليمياً يكمن في كونه سينتج صعود القوة الإقتصادية الإيرانية، انفتاح المجال الإيراني أمام فرص هائلة للاستثمارات الأجنبية، توفر موارد ضرورية لتنشيط السياسات الإيرانية الإقليمية، خلق فوائض إيرانية للاستثمار الاقتصادي في الإقليم، انخراط إيراني في عمليات تشابك وتبادل اقتصادي – تنموي واسعة مع قوى دولية وإقليمية. أي بالمحصلة، سيخلق الاتفاق مجموعة مصالح واسعة بيد الإيرانيين تجعلهم في موقع تفاوضي أفضل من خلال رفع كلفة معاداتهم وزيادة مزايا التوافق معهم.
هذه المعطيات لن تلقى بالطبع تفسيراً واحداً لدى القوى الإقليمية، فبقدر ما يهم ما تمتلك ايران، يهم أيضا كيف يفسر الآخرون ما تمتلك، هذه التحولات سيجد فيها البعض فرصاً والبعض الآخر تهديدات. ستتعدد التفسيرات بلحاظ علاقات القوى الإقليمية مع إيران، وهي علاقات تنقسم الى دوائر عدة، الحلفاء، المترددين، والمنافسين.
حلفاء إيران هم قوى شعبية تتقاطع معها إيديولوجياً – استراتيجياً، ودول منخرطة بدرجات متفاوتة في شراكة استراتيجية مع إيران (العراق وسوريا). المترددون هم على علاقة مضطربة مع طهران ولكن دون عداء إيديولوجي أو تنافس استراتيجي مباشر بل يقدرون أن التقارب معها مكلف بلحاظ ما (مثل مصر ودول المغرب العربي). المنافسون، وإن حضر التنافر الإيديولوجي في العلاقة مع طهران بشكل ما، إلا أن المحدد الرئيس في العلاقة هو التنافس الاستراتيجي على الدور والنفوذ في الإقليم، وهم منقسمون بين منافس مرن براغماتي (تركيا) ومنافس متصلب بسبب قوة العامل الإيديولوجي وبنية النظام (السعودية).
سيجد الحلفاء فرصاً إضافية لتعميق الشراكة مع إيران ولتحسين مواقعهم في التوازنات، فيما سيبحث "المترددون" عن قنوات لاستجلاب منافع إيرانية من دون عملية إعادة تموضع سياسية بارزة على المدى القصير، أي أن الواقفين على "خط التماس" سيراجعون حساباتهم بشأن القطيعة مع إيران. بينما يبقى السؤال المعقد هو بخصوص المنافسين، هل سيسعون لموازنة إيران أم الإقتراب منها؟ ولكي يكون السؤال أكثر دقةً، كيف يمكن أن يؤثر الاتفاق في التحالف التركي – السعودي بوجه إيران؟
الاتفاق النووي
من ناحية الأتراك، لا مناص لهم من استمرار التحالف مع السعودية، وسيبقى الحال كذلك الى أن يحققوا إنجازاً يتصورون من خلاله أنهم حققوا نوعا من التوازن الإقليمي بعد خيبتهم الكبرى في مصر. إلا أن الفرص الاقتصادية الكبرى والتشبيك المتواصل مع "إيران – ما بعد العقوبات" سيقلص من قدرة العدوانية التركية ويجعلها أكثر حذراً. على صعيد السعودية، ستجد نفسها بحاجة للتخفيف من الدوافع الإيديولوجية وتثقيل الاعتبارات الجيو-استراتيجية في علاقتها مع إيران. عملية الحوار غير المباشر بين البلدين بقنوات أميركية – روسية لا بد من أن تصل إلى حوار مباشر قاس وصعب ومعقد، إلا أنه مدخل ضروري لإيجاد صيغة للمساكنة الإقليمية.
سيكون الأتراك أكثر قدرة على ابتزاز السعوديين في القضايا الثنائية موضع الخلاف أو التنافس، بالتحديد سوريا ومصر وغزة. أي قد يضطر السعوديون الى تقديم حوافز متزايدة للأتراك لضمان التزامهم بعيداً عن "الإغواء" الإيراني، أي بكل الأحوال سيكون السعودي مضطراً لتنازلات إما لخصمه أو لحليف الضرورة. قد تتجسد هذه التنازلات السعودية في ترك مجال ودور متزايد للأتراك في المجال السوري، في مقابل دور سعودي رئيس في العراق واليمن. ولا زال للتركي مطالب في مصر تتيح عودة الإخوان المسلمين للعملية السياسية، وهنا يقف السعودي محرجاً، فالضغط على السيسي بشكل مكثف سيشجعه على خطوات انفتاح تجاه إيران.
بالمحصلة، ستجد السعودية نفسها أمام تحديات وتعقيدات متزايدة لإدارة تحالفاتها التي ستصبح مرهقة بمرور الوقت، وهذا من شأنه "عقلنة" السعودية في علاقتها مع إيران، ويصبح الحوار الثنائي مطلوباً وربما ضرورياً. سرعة هذه التحولات واتجاهها مرتبط أيضاً بالاستراتيجية الإيرانية، التي على الأرجح ستسعى لخلق ثغرات لاختراق التوتر وجذب المنافسين في مقابل التشدد في ساحات أخرى حيوية. الإشكال الحيوي، هو في عامل الوقت، أي أن هناك أشهر عديدة قبل دخول الاتفاق حيز التنفيذ وبدء ظهور تجلياته، ولحينها يكون أوباما على وشك مغادرة الرئاسة الأميركية. الانعكاسات الإقليمية للاتفاق ستبقى مرهونة نسبياً بخليفة أوباما ومقاربته الإقليمية، وهو ما يراهن عليه بعض "الصقور" الخليجيين والصهاينة لتفجير مسار التبريد الأميركي – الإيراني.
المنطقة لا تتجه لنظام أحادي بزعامة إيرانية، بل الى نظام متعدد القوى الإقليمية ذات علاقات دولية متداخلة ومركبة. عملية تكييف الإقليم مع الاتفاق النووي ستكون طويلة وبطيئة ومتوازية مع استقرار التوازنات. مجمل القوى الإقليمية في مرحلة استكشاف لحدود القوة، لإمكانات التفاهم، لمخاطر الانفجار، ربما هي مرحلة ضرورية لعقلنة التصورات والأهداف لدى هذه القوى. تشبيك المصالح الاقتصادية الإيرانية في المنطقة قد يشكل فرصة لكثيرين للخروج من أوهام الدعاية المذهبية، ويخلق أرضية لبنية أقليمية فيها الخير لشعوب المنطقة. إيران خرجت من النفق، ماذا عن الآخرين؟