ارشيف من :نقاط على الحروف

خلف الصورة: حنظلة في الواجهة

خلف الصورة: حنظلة في الواجهة

"أربعة خطوط مرسومة بيدٍ خبيرة يمكنها أن تغيّر العالم".
بابلو بيكاسو (رسام إسباني شهير)

قبل أيامٍ قليلة مرت ذكرى استشهاد الرسام الفلسطيني المعروف ناجي العلي. العلي الذي ولد في فلسطين (تحديداً قرية الشجرة)، وترعرع وعاش في جنوب لبنان (مخيم عين الحلوة) يعتبر نتاجاً حقيقياً ومعبّراً عن تجربة الخروج الفلسطيني مرفقة بتيه أيديولوجي وصولاً حتى مرحلة الوطن الحلم. اشتهر المجتمع الثقافي اللبناني بتقديمه صورة معينة عن الجو العام للبيئة اللبنانية، فكان الفلسطيني خارجها بشكلٍ تام، ليس له مكانٌ فيها بشكله الحالي. يأتي الشكل الحالي للفلسطيني مرتكزاً أساساً على صورة "وليدة" اللحظة، فهو لم يعد صاحب أرضٍ يمكنه الحديث عنها، أو افتراض امكانية "اعتبارها" حدثاً، بل هي أقرب إلى "المتخيل" منها إلى الحقيقة. فمثلاً نجح الرحابنة بتصوير "نموذج" القرية المتخيلة التي يمكن اعتبارها جزءاً لا يتجزأ من "المحيط" الفكري/الثقافي الذي نسج حوله المجتمع اللبناني المتخيل، بينما لم يمتلك الفلسطينيون "قريةً" مشابهة، فالاحتلال وجرائمه الوحشية جعل "تلك الفكرة" بعيدةً عن العقل المنطقي الفلسطيني.

رمزية حنظلة:
جاء ناجي العلي بفكرة "حنظلة" الطفل الذي يدير ظهره للناس ليشاهد معهم، ولئن فسّر كثيرون بأنه يدير ظهره للمشاهدين على أساس أنه مشغول بالنظر إلى فلسطين، فإن الفكرة يمكن أن تكون مزجاً بين الفكرتين: إنه ينظر ناحية فلسطين ويدعو الجميع كي تكون بوصلتهم فلسطين ولا شيء غيرها. ولا ريب أن اختيار ناجي لحنظلة (التسمية التي تعني شجر الحنظل ذي المرارة الشديدة) في إيحاءٍ لأن أيام الخروج والتيه الفلسطيني هي أيامٌ مرةٌ كالعلقم. ولكن هل كان للاختيار هذا "بعدٌ" مختلف؟ هل كان ناجي يهدف من خلال رسمه لطفلٍ أن يقدّم شيئاً آخر بخلاف الإسم والشكل؟ يمكن مراجعة كثيرٍ من رسوم ناجي لإدراك ما خلف المباشر، وما خلف الصورة المعتادة. دأب ناجي على تقديم صورة الطفل حنظلة على اعتبار الاستمرارية هي لمن ولدوا ويولدون يوماً بعد يوم في هذا  "الرحيل"، فبدلاً من القرية المتخيلة كان هناك "الطفل" المتخيل الذي يرمز لشعب بأكمله، ينظر صوب فلسطين، بوصلته فلسطين، ولا يرى سواها ولا أبعد منها. من هنا كان الطفل قلما يشيح ببصره بعيداً، إلا حينما يقوم بفعلٍ "أكبر" من مجرد النظر (كأن يرمي حجراً) . أكثر من هذا رأى ناجي في "براءة" هذا الطفل الحزين نوعاً من "الوعي" العميق للقضية الفلسطينية، لابل إنه وشمه على أساس أنّه "ضمير" لهذا الشعب، فلم يسكت على حقهم، ولم يغب لحظةً واحدةً عن آلامهم، فغضب لغضبهم وفرح لفرحهم، وفوق كل هذا لم يستحِ في تعرية الظلم وكشف الظالمين: فكان ضميراً صارخاً في وقتٍ عز فيه رفع الصوت عالياً. غضب حنظلة على الزعامات الفلسطينية التقليدية والحديثة فعراهم وكشف أخطائهم .

خلف الصورة: حنظلة في الواجهة

حنظلة ابعد من رسم

أبعد من مجرد رسم:
كان ناجي يرغب تماماً في "تحرير" حنظلة من الزمن، الوقت، لكنه أبداً لم يرغب في نزعه من المكان، فالمكان هو أساس حياة الفلسطيني. فليعد الفلسطيني إلى فلسطين، هنا يتحرر حنظلة من المكان والزمان معاً، هو طفلٌ صغير لأنه لا يشيخ خارج "مكانه"/وطنه. فالزمن لا يتقدم خطوة للأمام طالما أن الفلسطيني ليس في بلاده ووطنه، من هنا شاخ الجميع وبقي حنظلة طفلاً صغيراً. هل بقي حنظلة غاضباً؟ لو كان ناجي حياً لكان من المستبعد ألا يغدو حنظلة أكثر غضباً على ما يحدث اليوم. لكن بالعودة للفكرة الأصلية، ظهر الطفل الصغير ذو الثياب المرقعة توصيفاً حقيقياً لشعبٍ بأكمله، فكان شاهداً على أحداثٍ عصفت بالشارع الفلسطيني، فوقف عندها وحللها، وتناولها بالكلام والصخب والسخرية وحتى الغضب. لكن غضبه لم يجعله "يخوّن" أحداً البتة، بل بقي يقف من الجميع "مسافةً" واحدة؛ وإن كان عتبه على "فئة" أكثر من "فئةٍ" أخرى. كان ناجي يكره ما يسميه هو "الثوار الكتبة"، وكان هؤلاء بالنسبة له عبارة عن "طبقة من المنتفعين" الذين يعيشون عالةً على "الثورة" ولا يقومون بأي عملٍ نضالي أو ثوري حقيقي بخلاف "سرقة" الثورة ونسبها لأنفسهم، من هنا هاجم حنظلة هذه الطبقة "السطحية" و"الضحلة" باعتبار أنّها السبب الرئيسي في وصول الحالة الفلسطينية إلى ما هي عليه. لم يكتف حنظلة بذلك بل بدأ بالتنبؤ بما سوف يحدث إذا ما استمر الحال على ما هو عليه: فهاجم خطوات منظمة التحرير في وقتٍ ما والتي قاربت عمليات "سلام" مع الصهاينة، كما هاجم الرئيس المصري أنور السادات بعد اتفاقية كامب ديفيد سيئة الصيت والسمعة، فضلاً عن الوقوف بشدة ضد كل المخططات الانعزالية التي كانت تحاك ضد القوى الوطنية اللبنانية (كاتفاق 17أيار مثلاً) وسواها.

في الصورة الكاملة:
جهد ناجي كثيراً كي يعطي روحاً لطفله حنظلة، جهد كثيراً كي لا يجعله مجرد "لوحةٍ" مرسومة بخطوطٍ بسيطة، ورغم أن حنظلة بقي بالأبيض والأسود، إلا أن تلك لم تكن "مشكلة" بمقدار ما كانت ميزة، فالبياض والسواد جعلا الشخصية واضحة الملامح والمعالم: لا تحيد أبداً، ولا تقبل الحلول النسبية، إنها مع الصواب ضد الخطأ بمباشرة ودون مواربة: مع المقاومة ضد العدو، مع فلسطين ضد الاحتلال، مع من يريد العودة لفلسطين ومن يريد الهجرة إلى الغرب، مع حملة البندقية وضد تجار الدم. بذل ناجي تقريباً جل وقته في "رصف" الشخصية كي تغدو أكثر "جمعاً" للشارع الفلسطيني، فجعلها تشبه أي طفلٍ/شاب/كهلٍ ينظر إلى فلسطين بعين "المنتظر/العائد". باختصار: كان حنظلة أول شخصيةٍ "رسومية" مخترعةٍ في القرن العشرين في وطننا العربي -بأكمله- تضحي رمزاً لشعبٍ بأسره؛ فأصبح مجرد مشاهدة الشخصية في أي مكان إيحاء بأن "فلسطين" تحوم في الأفق، وذلك في حد ذاته فخراً لناجي ولبنات أفكاره

2015-08-03