ارشيف من :ترجمات ودراسات

التحول الكبير: من الدولة-الأمة إلى الدولة العابرة للأمم

 التحول الكبير: من الدولة-الأمة إلى الدولة العابرة للأمم


الكاتب:  Liliane HELD-KHAWAM
عن موقع   Le Grand soir
2 آب / أغسطس 2015

عولمة الأسواق يصاحبها تحول في المجتمع. التحول يأخذ الكثير من المعاني في القواميس. ومن مظاهره "قشرة الحيوان أو جلده أو بقية جسمه بعد التحول". ومن الأمثلة عليه، التحول الذي يعيشه الصرصار. فنحن نلاحظ عند نهاية عملية التحول أن الصرصار يخرج تاركاً خلفه قشرة تشبهه لكنها خالية تماماً من أية مادة في داخلها.


وهذا بالضبط ما يحدث في الوقت الحالي في مجال تنظيم المجتمع على المستوى العالمي. فالمجتمع كان منظماً حتى وقت قريب حول، وخصوصاً داخل، الدول-الأمم. من هنا، طورت الطبقات العاملة نظاماً متكاملاً من العلاقات مع الرأسماليين من خلال بنى عامة أو خاصة في مجالات التشريع والسياسة والمجتمع.
أما الآن، فإن هذه الطبقات التابعة للحكام تجد نفسها مرمية جانباً في المجال السياسي والمهني وعلى جميع مستويات القرار، سواء في الدولة أو المنطقة أو الناحية. إنها لا تفهم ما يجري وتواصل النظر الى هذا الغلاف الذي كان يشكل الدولة-الأمة التي تبدو بدورها ميتة شأن قشرة الصرصار.        

ما الذي جرى ؟

لقد انبثق تنظيم معولم جديد وخاص بشكل أساسي من جثة الدولة-الأمة التي أصبحت اختصاصاً للمؤرخين. وقد أدى إلى انبثاق هذا التنظيم عوامل ثلاثة متتابعة، ولكن النظر إليها كما ولو أن ظهور كل منها جاء مترافقاً مع ظهور العوامل الأخرى يسمح لنا بتكوين رؤية جيدة للنظام العالمي الجديد.
العامل الأول هو عولمة السوق التجارية. وهذه العولمة أطلق عليها الفضاء الاقتصادي الأوروبي اسم "الانتقال الحر للسلع والممتلكات"، وهي تشكل جزءًا من الحريات الأربع العزيزة جداً على قلب الاتحاد الأوروبي والتي تشكل مكونات العولمة.

 التحول الكبير: من الدولة-الأمة إلى الدولة العابرة للأمم


العامل الثاني هو عولمة الأسواق المالية المسماة أيضاً "حرية انتقال الرساميل". وهذا العامل هو عبارة عن حرية الاستثمارات المالية في التنقل عبر حدود الدول دون أية عراقيل لجهة حجم ونوعية وسرعة انتقال الاستثمارات. ومن هنا شهدنا ظهور منتجات مالية ناشئة عن المضاربة، وهذه المنتجات تحررت مع مرور الوقت من السلع التي كان من المفترض أنها تعطي تلك المنتجات قيمتها.


ومؤخراً، لمع "دوتش بنك" في مسألة تعريض نفسه للخطر. فقد خاطر عن طريق منتجاته المالية بمبلغ 54 تريليون دولار ولكي ندرك ضخامة المبلغ، علينا أن نعلم أن الناتج الداخلي الخام لألمانيا كلها هو 3،64 تريليون دولار، أي أقل بثمانية عشر ضعفاً من أحد مصارفها. إن هذه الأرقام التي تبدو لنا غير معقولة لم تكن لتوجد لو أن حكومات منتخبة ديمقراطياً لم تسلم السلطة العليا المتمثلة بـ "طباعة العملة" إلى مؤسسات خاصة.

    
العامل الأساس الثالث في عملية إعادة هيكلة العالم هي عولمة الإنتاج. وقد أصبح ذلك ممكناً بفضل حرية انتقال الأشخاص. وقد خدعت هذه التسمية أشخاصاً كثيرين. فهي توحي بأنها تعني حرية انتقال الأشخاص في عالم مفتوح. لكن الواقع هو أن هذا النوع من الحرية يخص بشكل أساس أشخاصاً معنويين : الشركات وعملاؤها. وبفضل هذا النوع من الحرية، بات من الممكن فتح أبواب الإنتاج في العالم بهدف الاستفادة من كل فرصة تسمح بتقليص التكلفة وبزيادة الأرباح وتوسعة الهوامش إلى أقصى حد ممكن.


فبفضل الانتقال الحر للأشخاص من عملاء الشركات، تم تجاوز القيود التي تخضع لها القدرات المحلية. لقد كان الانتقال الحر للأشخاص في مرحلة أولى شكلاً من أشكال حركية قدرات البلدان الصناعية باتجاه البلدان السائرة في طريق النمو وذلك قبل أن يتحول إلى حركية للأفراد ذوي الأجور المتدنية القادمين من البلدان الفقيرة، مع ما يعنيه ذلك من ضرورات إعادة النظر بالقدرة الشرائية وبأشكال الحماية الاجتماعية.    


وعلى كل ذلك، تكون العولمة عبارة عن تدامج العوامل الثلاثة. وعندما اكتملت هذه التحولات ظهرت شركات متعددة الجنسيات وأقوى من الدول-الأمم إلى حد أصبح معه الناتج الداخلي الخام لبلد ما مؤشراً أقل أهمية من حركة الأموال العابرة للقوميات التي يطلقها النشاط الاستثماري لتلك الشركات.  
هذا وتقوم لجنة الأمم المتحدة الخاصة بشؤون التجارة والتنمية بمراقبة حركة الأموال بشكل دقيق لأن هذه الحركة هي التي تظهر إلى أي مدى تستفيد البلدان السائرة في طريق النمو (أو لا تستفيد) من استثمارات الشركات المتعددة الجنسيات. ففي العام 2013، اتجه 54 بالمئة من حركة الاستثمارات نحو البلدان السائرة في طريق النمو. وكانت آسيا في طليعة المستفيدين من هذه الاستثمارات، لكن الولايات المتحدة استقبلت استثمارات بقيمة 188 مليار دولار وحلت في المرتبة الأولى عالمياً أمام الصين. ومع هذا، فإن البلدان المنظور إليها على أنها غنية هي أقل اجتذاباً لاستثمارات الشركات المتعددة الجنسيات. هناك فقط بلدان مثل لوكسمبورغ ما تزال قادرة على اجتذابها بسبب انخفاض الضرائب المفروضة فيها على حركة الأموال. والملاحظ أن سويسرا نفسها تشهد تراجعاً حاداً على مستوى الاستثمارات.


(...)   خلف كل هذه التحولات التي تلحق ضرراً كبيراً بالدول-الأمم، هنالك رجال ونساء اختاروا طريق العولمة. عدم رؤية هؤلاء والاستمرار في النظر إلى ممثلي الدول يعني أن الاهتمام مركز على القشرة التي تركتها خلفها عملية التحول الاجتماعي.
النظام العالمي الجديد ولد فعلاً. وهذا النظام له ممثلوه، وهؤلاء يطلق عليهم منذ التسعينات اسم "الطبقة الرأسمالية العابرة للجنسيات". إنها البورجوازية الجديدة التي تمثل الرأسمالية المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية الخاصة وتضطلع بمهمة قيادة النظام المالي العالمي. إنها طبقة لا تشعر بالارتباط بأرض معينة أو بجنسية معينة.    


في العام 2000، كتب W Robinson  و J Harris  أن طبقة القياديين هذه قد تسيست منذ السبعينات بهدف مأسسة عولمة الرأسمالية من خلال انبثاق دولة عابرة للقوميات مع برنامج سياسي يحمل اسم "الطريق الثالث". ولاحظ الكاتبان المذكوران إن خلافات كانت ما تزال قائمة في العام 2000 حول كيفية وضع قوانين تحكم العملية الاقتصادية على المستوى العالمي. ويمكن الافتراض بأن هذه "النخبة" قد حققت تقدماً في هذا المجال خلال الخمسة عشر عاماً المنصرمة...  
كما يمكننا الافتراض، بعد ظهور وتشكل نخبة معولمة، أن جماهير معولمة وتابعة لا بد لها أيضاً من الظهور والتشكل. فجعل الهجرة ظاهرة جماهيرية في هذا المجال لا علاقة له أبداً بالعمل الخيري والإنساني، لأن بإمكانه أن يسهم في جعل الثقافة ومستوى المعيشة وظروف العمل موحدة في شمال الكرة الأرضية وجنوبها وشرقها وغربها. ثم إن هشاشة الاستخدام (صعوبة العثور على عمل) قد تفاقمت إلى حد كبير بفعل الموقع الذي تحتله الروبوتات بأشكال متزايدة القوة.
لقد انتقل المجتمع من حالة إلى حالة ولم تنتقل معه الشعوب. ما الذي يمكن فعله في هذه الحالة؟ هل المطلوب هو أن ننتظر من الذين ننتخبهم أن يقدموا لنا ما لا قدرة لهم على تقديمه لأنهم باتوا لا يكادون يمتلكون أية سلطة سياسية؟ أم أن علينا أن نبحث عن الموقع الذي انتقلت إليه السلطة الجديدة؟ وعن الجهة التي تمسك بهذه السلطة الجديدة؟ وما الدور الذي ينوي القادة الجدد إعطاءه للشعوب؟


إن الرؤية المتجددة هي وحدها التي تمكننا من أن نتعامل بشكل أفضل مع الرهانات الوجودية ومع مستقبل مجتمعنا وما يشهده من تحولات. لم نربح المعركة، ولكننا لم نخسرها.

2015-08-10