ارشيف من :نقاط على الحروف
عن الإنتصار...
"هناك أحرفٌ كثيرةٌ يمكنها أن تشكّل كلمة مفيدة، أو كلماتٍ تشكل جملةٍ مفيدة، لكن أبلغ من وقع كلمة "النصر" لن تجد أحلى وأبلغ وأعظم".
هيردوتس (مؤرخ يوناني شهير)
لا نحتاج أن نراجع كثيراً معاجم اللغة لتفسير معنى كلمة نصر، فالمعنى الواضح للكلمة المكونة من ثلاثة أحرف: هي "التغلب" و"المنعة" والقوة والشكيمة، وهي السورة المدنية رقم 110 في القرآن الكريم (وعدد آياتها ثلاثة)؛ إذاً باختصار: تبدو الكلمة الشديدة التأثير في اللغة، كما في المبنى والمعنى واضحة، يحتاجها لتوكيد فكرة واحدةٍ أكثر من غيرها: إننا هنا، وقد انتصرنا.
في العام 2006 كان الجميع يعتقد بأن النهاية قد حانت: في أروقة بعض الدول الخليجية، في أروقة كثيرٍ من الدول الكبرى، في أروقة المنظمات الدولية، وحتى في أغلب "حاويات" التفكير العالمية، ومقاهي المثقفين في العالم: إن نهاية "حزب الله" ومرحلته قد آن أوانها. بشرت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس –آنذاك- بلونٍ عالمي جديد، زمنٍ آخر، وبخارطة طريقٍ تبدأ من العاصمة العبرية، وصولاً حتى العاصمة السعودية الرياض. بلغةٍ أخرى أكثر مباشرة: كانت الدبابة الصهيونية علامة تلك المرحلة، ومن لايقبل بتلك الحلول، ستمر الميركافا (الدبابة الصهيونية الشهيرة) فوق أجساد أطفاله. كانت ضحكات الشماتة، وابتسامات الهزء على وجوه العديد من الدبلوماسيين الغربيين في بلاد الشرق الأوسط وهم يطالعون ما سوف يحدث لهذا البلد الصغير "لبنان" وكيف سيتم "سحق" تجربة حزب الله تحت حوافر جنود ما يسمى بـ "واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط".
تجربة حزب الله
يخطئ من يعتقد بأن تجربة حزب الله لم تقرأ غربياً وبشكلٍ مكثّف منذ اللحظات الأولى لظهوره، كان الخوف من تعميم التجربة هو الأساس في كل محاولات "كسر العظم" مع التجربة الخاصة في حد ذاتها، ولا تزال تلك المحاولات حتى اللحظة عماد كل "عداوات" المنطقة وحركتها السياسية. بكل بساطة درست تجربة حزب الله عبر الآلاف من الكتب والأبحاب التي تناولت ليس فقط تأثير الحزب خلال السنوات الأولى لولادته بل إذا ما استمر لخمسين عامٍ أكثر. احدى هذه الدراسات هي للباحث اللغوي الأميركي نورمان فلنكستاين وقد أشار إليها ذات مرة في أحد مقالاته مؤكداً في الإطار عينه، بأن بعض الدراسات التي تدور حول المنطقة لا ترى في "أناس" هذه المناطق إلا "بيادق" شطرنج لا أكثر ولا أقل. باختصار فهم الغرب بأن الحزب الذي ولد من رحم تجارب "مقاومةٍ" أخرى، يختلف تماماً عما قبله، فلقد تعلّم من أخطاء من سبقوه، وتجنبها. أدرك الحزب تماماً أنه لكي يستمر عليه أن ينهج أساليباً تجعله "خاصاً" ومتخصصاً في العدو الصهيوني أكثر من غيره، لذلك كانت مجمل تدريباته تدور حول ذلك الجيش وتسليحه وأساليب قتاله. من هنا فإنَّه تحديداً "مبرمجٌ" برأس حربة حادة لتأدية هدفٍ واحد: القضاء على الكيان العبري. فهم جميع الدارسين والباحثين ذلك وأشاروا إليه مراراً وتكراراً، وبأن العمل لابد وأن يكون حثيثاً كي يتم التخلص من هكذا "تهديدٍ" مخيف بكل الطرق الممكنة. يلعب الصهاينة في المعتاد كل أوراقهم حال احتياجهم لها: ففي العام 1956 قام العدوان الثلاثي على مصر، كان الرئيس المصري جمال عبدالناصر هو الخطر المبين على الدولة العبرية، فاستعمل محنكو النظام الصهاينة كل قوتهم لإقناع ثلاث دولٍ كبرى للإشتراك بواحدةٍ من أكبر الحماقات تاريخياً. يومها صمد عبدالناصر لوقوف الشعب إلى جواره، فضلاً عن مساندة الإتحاد السوفياتي ورئيسه نيكيتا خروتشوف له في تلك المرحلة التي كانت في أدق مراحل الحرب الباردة بين العملاقين (الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي). أما في العام 2006 فقد كان الوضع مختلفاً، ليس هناك من اتحادٍ سوفياتي، العملاق الروسي في مرحلة البناء وطوره، الصين مشغولةٌ باقتصادها، الهند بمشاكلها الداخلية، فضلاً عن قطبٍ عالمي وحيد تسيطر عليه الولايات المتحدة، وأوروبا وإن بدرجةٍ أقل.
النصر الذي هز الدنيا
النصر:
يعرف الجميع تقريباً حكاية النصر: 33 يوماً من الصمود المدهش، من القدرة الهائلة على تحمل الألم والصبر والجلد. كان الشاعر الفلسطيني محمود درويش قد وصف تلك المرحلة في السابق إبان حديثه عن صمود الثوار في العاصمة اللبنانية بيروت أثناء الإجتياح الصهيوني لها في العام 1982 فقال: "كم كنت وحدك يا ابن أمي". لقد كان لبنان وحده، كان المقاومون وحدهم "ثقالة" الميزان وزنته الصحيحة، وكانوا الرهان : نحن تكملةٌ لكل حركات المقاومة التي مرت ههنا ومنذ أبد التاريخ، نحن نكمل ما بدأ السيد عبدالحسين شرف الدين، وأدهم خنجر، نحن نكمل ما قام به سلطان باشا الأطرش، نحن صرخة عز الدين القسام، ويوسف العظمة. وبعيداً عن "المشاعر"، كان ما يحدث عن الأرض مدهشاً، رميت آلاف الأبحاث والدراسات في "حاويات القمامة" بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، طرد كثيرٌ من الباحثين من "حاويات" التفكير، تم التعاقد مع "مفكرين" وباحثين جدد لهذه المراكز، لأن فشل المطرودين هو ما أوصل إلى هكذا نتيجة. كان انتصار حزب الله مدوياً إلى هذا الحد. أكثر من ذلك : كسرت خارطة الطريق التي رسمها الأميركي للمنطقة، لم يعد هناك "دبابة" ستمر فوق أحد، لم تستطع تلك الدبابة عبور "ثلةٍ من المقاومين" تحصنوا في أرضهم. أضف إلى كل ذلك أنَّه بدلاً من أن يظهر جيش العدو بأنه "وحشٌ" لا يقهر، ثبت بالدقة أنه أضعف بكثيرٍ مما كان الجميع يتمنى: فخبراء تدريب الجيوش فشلوا بشكلٍ ذريع، رغم كل "الأساطير" التي تنسج حولهم(يفتخر جيش العدو وتحديداً فيلق المظليين لديه بأنه يدرب أكثر من عشرين جيشاً عالمياً، وتفتخر تلك الجيوش بأنها خريجة أقوى فيلق مظليين في العالم). لم يتمكن جيش العدو من "فرض" إيقاعه في المعارك مع المقاومين على أيٍ من الأراضي اللبنانية، لم يستطع تحقيق أي انتصار ولو اعلامي، لم يستطع خطف أي "قائدٍ" ميداني حتى، والأكثر من ذلك أن الأهداف التي حددها للمعركة لم يحقق منها أي "هدف" ولو حتى لذر الرماد في العيون.
انتصرت المقاومة يومها، لكن الأعداء كانوا يحضرون لمعركة أكبر وأشد عمقاً وعنفاً، كان استجرار الألم هو المرحلة القادمة، فاشغال حزب الله والمقاومة بأمورٍ "مصيرية" هو الأمر الأساسي والملح، فضلاً عن تجنب الصهاينة أي معركةٍ أو مواجهةٍ مباشرةٍ مع الحزب تحت أي مسمى، يجب خلق "درع" يفصل بينهما دائماً: من هنا كان الاهتمام الصهيوني "الكلبي" ببعض التنظيمات الإرهابية كجبهة النصرة وسواها(تعبير "الكلبي" مأخوذ من فلسفة توماس هوبز التي تستعمل التعبير حرفياً لوصف العلاقة الطردية بين الرافد والآخذ).
اليوم نحن أمام ذكرى جديدة لذلك النصر، ذكرى يجب أن نعيدها في عقلنا مراراً وتكراراً، ليس للتذكر فحسب، بل وللتعلم أيضاً، ذلك أن كتائب العدو لاتزال "شوكتهم" حاضرة، وهم جاهزون كي يعيدوا الكرة مرة بعد مرة.