ارشيف من :آراء وتحليلات

من جبل عامل إلى جبل العرب

من جبل عامل إلى جبل العرب

وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
                                                                          (آل عمران -140)

يعجبني قول لمحمد حسنين هيكل : "تاريخ كل أمة خط متصل، وقد يصعد الخط او يهبط، وقد يدور حول نفسه أو ينحني ولكنه لا ينقطع". ولعل هذه الانحناءات تصيب البعض بخداع بصري فيظن أن التاريخ يكرر نفسه، وهذا غير صحيح بالطبع. وإذا ما حصل تشابه ما في الأحداث فهذا لأنها محكومة بالسياق العام، وحتى الصدفة فيها لا تأتي عن عبث بل لمن يستحقها من المتوثبين لصناعة التاريخ. ترى كم تصادف من رؤوس سقط عليها الآلاف من حبات التفاح، وبقيت على حالها، فيما تفاحة واحدة وقعت بالصدفة على رأس نيوتن ألهمته أن يكتشف قوانين الجاذبية؟

وبهذا الفهم سنرى ان لجوء ادهم خنجر إلى سلطان الأطرش في جبل العرب ولا يعرف أحدهما الآخر لم يأت عن صدفة،  فالقاصد  كان من جنس المقصود رفضاً للاستعمار الفرنسي، فسلطان لم يبدأ تاريخ كفاحه ضد فرنسا مع جلجلة ثورة 1925 كما يتصورالبعض، فالرجل ومنذ اليوم الأول حدد خياراته يوم توجه لنجدة يوسف العظمة، لكنه اضطر للانكفاء عندما بلغته انباء الانهيار السريع في ميسلون. يقول في مذكراته بهذا الصدد: " ما كنا نتوقع ان تتعرض البلاد لكارثة ميسلون .. وان تنهار المقاومة الوطنية بهذه السرعة المذهلة ".  وعليه مخطىء من يتصور ان ثورة الأطرش الأولى عام 1922 ضد الفرنسين جاءت بسبب انتهاكهم لحرمة بيته معتقلين الخنجر. ربما كانت مرارة الموقف هي الشرارة التي فجرت اعتمالات تجيش في صدره.
    
ذاكرةٌ وعقـد موصـول

 لقد انبنى من هذا الخيط  الوثيق بين جبل عامل وحبل العرب تاريخ من وقفات العز ضد الغزوات ومن مواعيد صنعها القدر في الوقت ذاته. فقبل تسع سنوات كانت معركة وادي الحجير في حرب تموز/آب 2006 فوق جبل عامل. وقبل تسعبن عاما على ارض جبل العرب وفي ذات الموعد  جرت معركة "المزرعة" إبان الثورة السورية الكبرى 1925 ، معركةٌ ربما غابت بين ثنايا صفحات التاريخ، لكنها ما زالت حية في ضمير ووجدان أهلها، كذلك في السجل الحربي للعسكرية الفرنسية حيث تدرس هذه في أكاديمياتها الحربية. والمفارقة هنا ان ما بين الحدثين قواسم مشتركة حتى في الشكل حيث كانت بدايتهما في أواخر شهر تموز، ونهايتهما الحاسمة اوائل شهر آب . لكن وفيما يتعدى المفارقة الزمنية فإن القواسم المشتركة في العمق تتلخص في ثلاث نقاط :

من جبل عامل إلى جبل العرب

*النقطة الأول: أنهما جرتا في ظروف انعدم فيها التكافؤ العسكري مع العدو. والأعداد تنطق بهذا . في وادي الحجير كان قوام القوات الاسرائيلية فرقة مؤللة من اللواء المدرع الثاني 401 ، ولواء المشاة الخاص «ناحال»، ولواء المشاة الأول بالإضافة إلى كتيبة «غولاني»، وكتيبة المظليين، وكتيبة أخرى من «جفعاتي» وكتيبة هندسة، وتعرف هذه المجموعة بـ "الفرقة 162 الفولاذية". والنتيجة أن الفولاذ قد ذاب امام لهيب التصميم وإرادة المقاومين، فقد جرى تدمير اللواء المدرع المذكور لتتوالى على اثره الخسائر في باقي الوحدات مما اضطرها للهرب متقهقرةً. وكل هذا الإنجاز جرى كما نعرف على يد بضع مئات من المقاومين. ولعل وصف احد كبار الضباط الاسرائيلين لمعركة وادي الحجير يختصر الصورة بقوله : "إنها المعركة الكبرى في الحرب الكبرى ". أما معركة "المزرعة" فقد وصفها الجنرال اندريا قائد الجيش الفرنسي في سوريا  بـ:" المصيبة التي حلت بنا" . كانت الحملة الفرنسية  مؤلفة من 13000 جندي مزودين باحدث اسلحة زمانهم من دبابات ومدفعية وطيران، وبقيادة الجنرال ميشو أحد المع الضباط الفرنسين في الحرب العالمية الأولى. يقابلهم من الثوار 400 فارس وحوالي 2500 من المشاة على الأكثر معظمهم مزودٌ بأسلحة بدائية. والنتيجة كانت إبادة شبه كاملة للحملة المذكورة أذهلت الغرب. وقد وصفها الجنرال هونتيجر في مؤلفه «الكتاب الذهبي لجيوش الشرق من عام 1918 ـ 1936" بـ "محنة المصفحات في 2و3 اب" . اما المناضل الكبير عبد الرحمن الشهبندر  فيقول:" في المزرعة جرت ملحمة بالسلاح الابيض لم يجر مثلها في البلاد منذ ذكر الواقدي اخبار الفتوحات العربية". وأورد في مذكراته بعد تفقده لأرض المعركة :" حاولت ان احصي عدد الجثث الملقاة فيها فلم افلح لسعتها وحسبي ان اقول انني مشيث من عين المزرعة الى الطريق المعبد غرباً نحو ساعتين بين الجثث والعتاد الملقى على الارض فلم انته منها ورأيت العديد من السيارات المصفحة محروقة وقد أمالها الثوار على جوانبها أثناء الهجوم بأكتافهم وقتلوا من فيها..". أما الجنرال ميشو فقد قال خلال محاكمته في باريس: " لم يدر في خلدي ان يتمكن مقاتلون عزل من السلاح من الانتصار على فرقة عسكرية خاضت غمار الحرب العالمية .. لم أواجه في حياتي مقاتلا اعزل تكمن فيه الشجاعة الفائقة مثل مقاتل تلك المعركة".

*النقطة الثانية: أن الاشتباك لم يتم وفق أسلوب حرب العصابات الكلاسيكية بل إنها مواجهة عسكرية بكل ما للكلمة من معنى، وقد استمرت لأيام متواصلة. وكانت مباراة في البطولة وفي التكتيك القتالي معاً. حيث لجأت المقاومة في وادي الحجير إلى استدراج العدو بذكاء إلى افخاخها، فيما قام سلطان في "المزرعة" بدفع مجموعات من المشاة تحت جناح ليل 2-3اب تسللت إلى مواقع قريبة من مسار الدبابات  حتى إذا ما بزغ فجر 3 اب التحمت معها وجها إلى وجه، فيما  شرع بمجموعة من الفرسان  بمهاجمة  مجنبات العدو  ملتفاً على مؤخرتهم قاطعاً بذلك خطوط الأمداد. يقول الجنرال هونتيغر في كتابه السالف ذكره إن نار الثوار تناولت الدبابات "عن مسافة قريبة ومن زوايا لا يمكن أن تطالهم رشاشاتها ...كانوا يسددون رصاصهم إلى داخلها من فوهات الرماية والمنافذ الأخرى".

* النقطة الثالثة: أن هاتين المعركتين لم تكونا حدثين عابرين في الزمان والمكان. بل كانتا جزءا من حراك عسكري كبير على جغرافيا واسعة، ليترتب عليها نتائج سياسية. فمعركة المزرعة  كسرت شوكة فرنسا لتتوسع بعدها رقعة ثورة 1925 فتصل إلى عدة أماكن خارج جبل العرب، لتشكل هذه الثورة مسمارا في نعش مخطط تقسيم سوريا، وإضافة نوعية في مسار أفضى إلى جلاء المحتل بعد عقدين. وفي معركة وادي الحجير مرغ انف اسرائيل فكانت  الضربة القاصمه للغزو الأسرائيلي صيف 2006 . وهذا بدوره شكل بداية لسقوط مشروع " الشرق الأوسط الجديد "، وبداية عصر جديد للمقاومة كنهج لمقارعة المشروع الصهيوني من تجلياته الصمود الأسطوري لغزة في وجه الأعتداءات الأسرائيلية.

ذاكرة الأمكنة

يبدو وكأن للأمكنة الخاصة ذاكرتها. فقد شهد وادي الحجير في نيسان /ابريل 1920 مؤتمره الشهير الذي دعا إليه السيد عبد الحسين شرف الدين مؤذناً  بقتال الفرنسيين. ومن هناك خرج ادهم خنجر ورفاقه شاهرين السلاح. كذلك وعلى مقربة من المزرعة استلهمت قرية الثعلة من ذاكرة المكان عبق البطولات فخاض احفاد سلطان الأطرش قبل اسابيع ملحمة أخرى عند مطار الثعلة، هذه القرية التي باتت على كل لسان وقد انعقدت عليها وشائج ثلاثية: الشعب السوري والجيش السوري والمقاومة اللبنانية، فكان بعض أدهم خنجر يعضد احفاد  سلطان الأطرش  في معركة سيسجل التاريخ أنها هي التي حمت العاصمة دمشق،  قاصمة ظهر مخططات دول "الموك" التي راهنت على احتلال السويداء لحسم معركة الجنوب السوري.

وكما في صيف 2006 كذلك مع تلك الثورة قبل 90 سنة واجهها العديد من المتضررين. فقد وقف صبحي بركات (حاكم دولة سوريا آنذاك  طالباً من المندوب السامي الفرنسي ساراي متابعة القتال «مهما كلف الأمر من ضحايا وخسائر"، وعدم البحث عن تسوية مع  "العصاة"، والمقصود الثوار.. كذلك كان الحال مع انتصار صيف 2006 الذي يستوجب حجمه وتأثيره ما هو أبعد من «مشروع النقاط السبع» الذي قدمه الرئيس فؤاد السنيورة إلى مؤتمر روما، ليحد من نتائج الانتصار فيما تلقفه الأميركيون ليتأسس عليه القرار 1701. إنها السياسة التي تخذل السلاح. ظاهرة احتلت موقع الصدارة في تاريخنا العربي.. كان آخر طبعاتها طعن المقاومة بسبب تدخلها في سوريا في مكابرة بالباطل بالرغم من أن بعضهم  يدرك في داخله انه لولا المقاومة وتدخلها لبات حال لبنان كحال الرقة ونينوى، ولكانوا هم بين مشرد او قابع تحت التراب.

2015-08-15