ارشيف من :آراء وتحليلات
اثر حرب العام 2006، على الفكر الاستراتيجي الاسرائيلي
لم تقتصر نتائج حرب العام 2006، على فشل اسرائيل في سحق حزب الله وشطبه من المعادلة اللبنانية والاقليمية، بل توالت تداعياتها على المستويات الامنية والاستراتيجية.. منها ما ادى الى اعادة صياغة وبلورة الاستراتيجية العسكرية على اساس الاقرار بمحدودية القوة الاسرائيلية، ضمن سقف اقل بكثير مما كانت تتحرك على اساسه الدولة العبرية طوال تاريخها.
منذ خمسينات القرن الماضي، حدَّد مؤسس الدولة العبرية وأول رئيس وزراء لها، ديفيد بن غوريون ثلاثة عناوين، على أنها مبادئ تفعيل القوة العسكرية الاسرائيلية: "الردع، الانذار، الحسم". ويتفرع عن هذه العناوين مبادئ اخرى تتناول نقل المعركة الى ارض العدو، والحسم السريع... وهي مبادئ شكلت محور الاداء الاسرائيلي العملاني طوال عقود. وبالتقييم الاجمالي لنتائج هذه الاستراتيجية ان اسرائيل كرست وجودها، وتطورت وتوسعت وصولا الى اجتياح العام 1982.
في المقابل، شكلت تجربة المقاومة في مرحلة ما بعد الاجتياح وصولا الى تحرير العام 2000 نقطة تحول في تاريخ حركة الصراع، كونها المرة الاولى التي تتمكن فيها دولة عربية من تحرير ارضها عبر المقاومة من دون أثمان سياسية أو امنية. واسقطت هذه التجربة رهان العدو على امكان تحقيق المزيد من التوسع الجغرافي، وأسست لاستراتيجية ومعادلات أثبتت نجاعتها في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي.
الجبهة الداخلية الاسرائيلية في مرمى صواريخ المقاومة
بعد ذلك، أتت مرحلة المواجهة العسكرية المباشرة مع العدو، خلال حرب العام 2006، لتؤسس لمعادلات جديدة في حركة الصراع. ومن أبرز المفاعيل الاستراتيجية لنتائج تلك الحرب، أنها اجبرت العدو على اعادة دراسة مبادئ تفعيل القوة، ومدى نجاعتها في ضوء نتائج الحرب.
الى جانب عشرات لجان التحقيق التي شكلها الجيش، ولجنة فينوغراد، والتحقيق الذي أجرته لجنة الخارجية والامن التابعة للكنيست، تصدرت لجنة تطوير النظرية الامنية، التي كان يترأسها في حينه "دان مريدور" لمهمة دراسة نجاعة مبادئ تفعيل القوة، وخلصت في حينه الى ضرورة اضافة مبدأ الدفاع وحماية الجبهة الداخلية، الى جانب العناصر الثلاثة الاخرى "الردع، والانذار والحسم".
لم تأت الخلاصة التي انتهت اليها لجنة مريدور، والتي تبنتها وثيقة الجيش الاسرائيلي بشكل رسمي، الا بعد فشل العدو في اقتصار المعركة على ارض لبنان.لقد تحولت جبهته الداخلية الى ساحة تلقت فيها صواريخ حزب الله حتى اليوم الاخير من المعركة. وبلغت مرحلة كادت فيها أن تتلقى تل ابيب نفسها صليات صاروخية ثقيلة، لو لم ترتدع اسرائيل عن استهداف بيروت. واتى الارتداع الاسرائيلي عن توسيع دائرة الاستهداف ليشمل العاصمة اللبنانية، ليكشف عن اقراره بامتلاك حزب الله القدرة والارادة على تنفيذ تعهده. ولو لم يكن العدو مُسلماً بهذه الحقيقة لشكلت المعادلة التي ارساها سماحة الامين العام لحزب الله، فرصة لتغيير صورة الحرب عبر شن اعتداءات واسعة على بيروت، لكن ادراك قيادة العدو بأن ذلك سيُقابل باستهداف تل ابيب دفعها الى الامتناع عن المبادرة الى استهداف بيروت.
الجديد في هذا السياق، أن ما تبنته واقترحته لجنة مريدور في العام 2006، اعلن الجيش الاسرائيلي في وثيقته عن تبنيه بشكل رسمي وفق المعادلة التالية "الردع، الانذار، حماية (الجبهة الداخلية) والحسم". مع ذلك، وقبل الكشف عن الوثيقة، شكل هذا المبدأ عاملا اساسياً في بلورة توجهات الحكومة الاسرائيلية والخطط العسكرية والاستراتيجيات التي ترسمها في مواجهة التهديدات والاخطار. وترجمة لذلك وضعت اسرائيل خططاً حول بناء وتطوير منظومات دفاع سلبي (التحصينات والملاجئ والغرف الامنة) وايجابي (منظومة الاعتراض الصاروخي). واستندت هذه الخطط الى حقيقة باتت مسلَّمة لدى الجيش والقيادة السياسية بأن اسرائيل لم تعد قادرة، في ظل التكتيكات التي تتبعها المقاومة في لبنان ــــ وانتقلت لاحقا الى فلسطين ــــ على الحسم ولا على اسكات الصواريخ التي تدك جبهتها الداخلية.
الى ذلك، بدا أن هاجس دك الجبهة الداخلية بات أكثر حضورا في حسابات القيادتين السياسية والعسكرية وكان له الدور الاكبر في ردعهم عن الكثير من الخيارات العسكرية في مواجهة لبنان وعلى مستوى المنطقة. وهو ما أجملته في الايام الاخيرة تقديرات الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية، امان، ونقلتها صحيفة يديعوت احرونوت بالقول "من يعتقد أن قتال حزب الله في سوريا سيردعه عن ردود يمكن أن تؤدي الى حرب شاملة، عليه أن يعيد حساباته".