ارشيف من :آراء وتحليلات
أفق العلاقات الروسية ـ الإيرانية (1/2)
يقول فريديك انجلز ان "الصدفة" هي نقطة التقاء (او: تقاطع) بين "ضرورتين". وبهذا المعنى لا يوجد "صدفة خالصة"، عديمة المعنى او التفسير، بل يوجد "ضرورة" ينظر إليها من زاوية "ضرورة" او "ضرورات" أخرى.
"الفوضى البناءة" الأميركية في العمل
وقبل نهاية توليها منصب وزيرة الخارجية الاميركية في 2009، اطلقت غونداليزا رايس شعار "الفوضى البناءة" كنهج سياسي تنتهجه الولايات المتحدة في سياستها الخارجية. وقبل ذلك كان الرئيس جورج بوش الابن قد اطلق شعار إعادة رسم خريطة ما أسماه "الشرق الأوسط الكبير"، أي بما فيه شمال افريقيا وايران وأفغانستان.
مع هذه "الضرورة" الدبلوماسية ـ الاستراتيجية الأميركية، وقعت "الصدف" التالية:
"الصدفة" التي أبكت السنيورة
ـ1ـ شنت إسرائيل حرب تموز 2006 على لبنان، بحجة الرد على قيام حزب الله بأسر جنديين إسرائيليين، وقامت ـ بمباركة أميركية طبعا ـ بعملية تدمير منهجي مدروس ومخطط له سابقا للبنى التحتية والقرى والمدن اللبنانية التي تعتبرها "حاضنة اجتماعية" للمقاومة، الى درجة أبكت حتى رئيس الوزراء اللبناني حينذاك فؤاد السنيورة، الذي كان يتوسل الى اميركا و"إسرائيل" من اجل "تخليصه" من حزب الله.
القلاع الروسية حلقت فوق رؤوس الاميركيين في تبيليسي
ـ2ـ حركت اميركا النزاع بين جورجيا وروسيا، اللتين وقفتا على شفير الحرب، بهدف ضم جورجيا الى حلف الناتو. ولكن الموقف الحازم لروسيا منع اندلاع الحريق.
أوكرانيا كانت تسرق الغاز الروسي بمباركة أميركية ـ اوروبية
ـ3ـ تسعير النزاع بين روسيا وأوكرانيا حول عبور الغاز الروسي ترانزيت الى اوروبا عبر الأراضي الأوكرانية، وتشجيع أوكرانيا على سرقة الغاز الروسي، مما اضطر روسيا لقطع الغاز بشكل تحذيري لعدة أيام عن أوروبا. وفي شباط 2014 نجحت المخابرات الأميركية في تنظيم الانقلاب الفاشستي في أوكرانيا، مما أدى الى اندلاع الحرب الاهلية الأوكرانية. ولكن المخطط الأميركي لجر روسيا الى الحرب مع أوكرانيا لم يحقق أهدافه. بل على العكس، استطاعت روسيا استعادة شبه جزيرة القرم بعد اجراء استفتاء ديمقراطي شفاف، وتضطلع روسيا اليوم بدور رئيسي في العمل على إيجاد حل سلمي للحرب الاهلية الأوكرانية، وهو ما أصبحت تعترف به الدول الأوروبية وأميركا بالذات. ولكن ذلك لم يمنع الإدارة الأميركية من اجبار حلفائها على تبني سياسة فرض العقوبات على روسيا، في محاولة يائسة لِليِّ ذراع روسيا في أوكرانيا وفي الشرق الأوسط معا. ولكن هذه السياسة أعطت نتائج معكوسة تماما، اذ دفعت روسيا الى التوقف عن دعم الروبل وتعويمه، والى التوجه المكثف نحو تمتين العلاقات الاقتصادية والعلمية والعسكرية مع "الدول الصديقة" ولا سيما الصين وايران.
تشغيل آلية "الحرب الباردة" من جديد
ـ4ـ عرقلة اتفاقات تخفيض الأسلحة النووية والصاروخية بين روسيا وأميركا، وتسعير "الحرب الباردة" من جديد، وشن حملة إعلامية ومخابراتية وارهابية "إسلامية!" ضد روسيا بشكل لا سابق له حتى في المرحلة "السوفياتية".
الازمة المالية المصطنعة في 2008 لنهب مدخرات النفط العربية
ـ5ـ نشوب الازمة المالية في اميركا سنة 2008، التي يجمع الخبراء المحايدون على كونها ازمة مفتعلة سببها المباشر "النفخ" المصطنع لقطاع العقارات الأميركي والمضاربات والتلاعب بالبورصة التي تسيطر عليها الاحتكارات اليهودية. وهدفت الازمة الى "ابتلاع" الودائع المالية الضخمة للدول العربية ـ الإسلامية الموالية لاميركا، والتي بلغت اكثر من 3 تريليونات دولار. ومن ثم رفع سقف الدين الأميركي العام، أي الموافقة على طباعة تريليونات الدولارات الورقية الجديدة، وتخفيض سعر الدولار بشكل دراماتيكي، لتقليص المداخيل الفعلية للدول المنتجة للنفط والغاز كروسيا وايران والسعودية. وتم تعزيز هذا الاتجاه بما سمي "ثورة" استخراج الغاز (والنفط) الصخري في اميركا، وتخفيض السعر الاسمي لبرميل النفط، من اجل زيادة الضغط على روسيا وايران والسعودية وتعزيز الهيمنة العالمية لاميركا من خلال تكريس الهيمنة على سوق الطاقة العالمي.
الحملة اليهودية ـ الصليبية على ايران
ـ6ـ شن حملة عدائية شرسة ضد ايران تحت غطاء شعارات كاذبة مثل "الهلال الشيعي" و"العمل على تشييع المنطقة" و"التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية لدول المنطقة وتهديد امنها"، وخصوصا شعار "سعي ايران لامتلاك القنبلة النووية"، والضغط على ايران بمختلف الاشكال لمنعها من استخدام حقها الطبيعي في تنفيذ برنامجها النووي السلمي.
العقوبات الغربية ضد ايران
ـ7ـ وبلغت الحملة المعادية لإيران أشدها في فرض المقاطعة والعقوبات عليها (دبلوماسيا وسياسيا وثقافيا وتجاريا وماليا وتسليحيا) لاجبارها على التخلي عن حقها المشروع في تطبيق برنامجها النووي السلمي، بحجة منعها من امتلاك السلاح النووي وتهديد السلام العالمي. وشملت العقوبات كل دولة تتجرأ على خرق هذه العقوبات، الى درجة ان روسيا ذاتها، في عهد رئاسة الرئيس السابق (رئيس الوزراء الحالي) ديمتري مدفيديف تخلفت عن تنفيذ اتفاقية تسليم ايران المنظومة الصاروخية الدفاعية S – 300، التي كانت مدرجة على "جدول الممنوعات الغربية" لإيران، مما عكر نسبيا العلاقات الروسية ـ الإيرانية، واجبر ايران على تقديم دعوى ضد روسيا تطالب فيها عن حق بدفع تعويضات بموجب البند الجزائي للعقد تبلغ حوالى 4 مليارات يورو. والجدير ذكره ان الرئيس بوتين اصدر منذ اشهر مرسوما رئاسيا يقضي بتنفيذ اتفاقية تسليم ايران منظومة صواريخ S – 300، على ان تسحب ايران دعواها امام محكمة العدل الدولية. وواجه هذا المرسوم احتجاجات شديدة من قبل الكتلة الغربية، الا انه سجل نقطة تحول في لَيِّ ذراع هذه الكتلة وكسر شوكة نظام العقوبات المفروض على ايران، وإعطاء تطور الاحداث في منطقة الشرق الأوسط والعالم وجهة جديدة.
"إسرائيل" تهدد بالحرب على ايران
ـ8ـ وخلال المرحلة الدقيقة السابقة، كانت "إسرائيل" ـ وبتحريض كلي من واشنطن والناتو ـ لما تزل تقرع طبول الحرب ضد ايران، بحجة انها تعمل لامتلاك القنبلة النووية، مما يشكل تهديدا ليس للكيان فقط بل وللدول "المعتدلة" الصديقة للغرب في المنطقة.
ثورات "الربيع العربي" الاميركية
ـ9ـ وفي الوقت ذاته تمكنت المخابرات الأميركية وكيان العدو والناتو وتركيا "الجديدة" (نصف العثمانية ـ نصف الاتاتوركية) من تحريك، او ركوب موجة، ما سمي ثورات "الربيع العربي" وقد تعاونت المخابرات الأميركية والموساد ودول الناتو والاوساط الحاكمة السعودية والخليجية والتركية على تشكيل وتمويل وتسليح "الجيش الإسلامي(!) التكفيري الإرهابي العالمي" وإقحامه في "الثورات" العربية المزعومة والسيطرة عليها وانتزاع "تمثيلها"، لاجل اسقاط الأنظمة العربية التي لم يعد مرغوبا فيها، ليس لاجل إقامة أنظمة "ديمقراطية" كما كانت تطبل وتزمر آلة البروباغندا الغربية وجوقة المعارضات العربية المزعومة الموالية للغرب. بل كانت الأهداف الحقيقية لهذه المؤامرة الكبرى على شعوب الامة العربية ما يلي:
تدمير البلدان العربية هدف بحد ذاته
أولا ـ تمزيق وتفتيت كل بلد وكل دولة وكل شعب عربي، وتدمير البنى التحتية ومؤسسات الخدمات الاجتماعية والمعالم الحضارية العريقة، وتدنيس وتدمير المقدسات والمراكز الدينية، والأسواق والمجمعات السكنية، وتشريد عشرات ملايين السكان الآمنين، وتحويل البلدان العربية والإسلامية المستهدفة الى غابات وحوش الداخل اليها مفقود والخارج منها مولود، والى مناطق منكوبة إنسانيا وعالة على المجتمع الدولي، تحتاج الى المساعدات الإنسانية بالغذاء والماء والدواء والبطانيات والخيم لايواء ملايين اللاجئين، والى دوريات الطائرات وزوارق الانقاذ البحرية التي تجوب سواحل البحر الأبيض المتوسط لإنقاذ مئات الالاف من الناس الذين يعرضون انفسهم للغرق هربا من الجحيم العربي ـ الإسلامي.
مشروع الفتنة السنية ـ الشيعية
ثانيا ـ استدراج الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وجماهير المقاومة الشعبية العراقية ضد نظام الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، و"المقاومة الإسلامية" بقيادة حزب الله في لبنان، والحركة الديمقراطية الشعبية في البحرين والكويت والخليج، والحركة الشعبية المعادية للتنظيمات الإرهابية كالقاعدة وامثالها في اليمن، الى فتنة مذهبية واسعة النطاق، سنية ـ شيعية، لحرف وجهة الصراع الرئيسية في المنطقة ضد كيان العدو.
محاولة استدراج روسيا الى "فخ أفغاني" ثان
ثالثا ـ استدراج الفيدرالية الروسية الى "فخ أفغاني" ثان في سوريا، أي جر الجيش الروسي للتدخل العسكري المباشر في سوريا، كما جرى في ثمانينات القرن الماضي في أفغانستان، وإدارة وتمويل وتسليح "الجيش الإسلامي(!) التكفيري العالمي" تحت شعارات "الجهاد المقدس" ضد الجيش الروسي "المسيحي الشرقي الكافر!"، وهي أطروحة تلتقي عندها مصلحة اميركا ودول الناتو واليهودية العالمية والكيان والفاتيكان والماسونية العالمية ودول الخليج النفطية وتركيا، واستخدام الصدام المفترض بين الجيش الروسي والجيش التكفيري "الإسلامي!" في سوريا كمنطلق لتعاون المخابرات والإعلام ورجال الدين والاوساط السياسية والمالية ذات المصلحة، لجميع الدول المعادية لروسيا، للقيام بأعمال إرهابية وحشية وافتعال "مشكلة إسلامية!" مصطنعة داخل الفيدرالية الروسية التي تضم 25 مليون مسلم يتمتعون بكامل حقوق المواطنية الروسية، واستخدام تلك "المشكلة!" للتدخل في الشؤون الداخلية الروسية، وربما اتخاذ قرارات "أممية" و"ناتوية" عسكرية ضدها، الامر الذي يعني ببساطة الانتقال الفوري من مرحلة "الحرب الباردة" الحالية الى مرحلة الحرب النووية الشاملة، لان روسيا لن تسمح بمس امنها القومي مع بقاء سنتيمتر مربع واحد سليم في أي دولة معتدية.
انقلاب سحر "داعش" على اصحابه
رابعا ـ إنشاء "دولة إسلامية!" مصطنعة، تدعي تطبيق "الشريعة الإسلامية!"، ووضع مسافة صورية بين هذه الدولة وبين الدول الغربية والعربية وتركيا، التي أوجدتها، وذلك من اجل ادعاء "استقلاليتها!" و"صدق اسلاميتها!"، بالاعمال الوحشية التي ارتكبتها وترتكبها، بهدف، من جهة، تبرير "حق" "إسرائيل" في الإعلان عن "يهوديتها" وتهويد القدس وطرد العرب من كل الأراضي الفلسطينية، ومن جهة ثانية: تبرير سياسة الغزو والاستعمار ضد الشعوب العربية والإسلامية قاطبة، بحجة ان الإسلام لا يمثل احد مكونات الحضارة العالمية، بل يمثل ردة وحشية على الحرية الفكرية والدينية والثقافة والتمدن والحضارة.