ارشيف من :آراء وتحليلات
العلاقة بين مصر وإيران..تقارب مشروط بتحالفات القاهرة الاضطرارية
إسلام أبو العز
تحيط مسألة تطوير العلاقات بين مصر وإيران علامات استفهام كثيرة، منها ما يخصُّ مبررات الحفاظ على مستوى العلاقات المتدهور إلى ما دون المستوى المطلوب بين بلدين بأهميتهما، ومنها أيضاً المتعلق بزوال الموانع التي كانت ولا تزال تساق للحيلولة دون وصول العلاقات إلى المستوى المطلوب. والأخيرة تطرح بقوة منذ 2011 وهي الإطاحة بنظام مبارك، الذي كان يرهن علاقة مصر بالجمهورية الإسلامية وفق الإرادة الأميركية ويسوق نظامه مبررات واهية تتعلق بجانب دعائي تأصل منذ بدايات الثورة الإيرانية، بالإضافة إلى محدد آخر وهو عدائية هذا النظام للمقاومة ضد الكيان الصهيوني وتحالفه معه، كذلك العوائق التي اتخذها هذا النظام ذريعة لموقفة السلبي والخاصة بالعقوبات الدولية التي فُرضت على طهران بسبب طموحها النووي المشروع.
إلا أن التساؤلات فيما يخص العلاقات المصرية الإيرانية لا تتعلق بتبدل الأنظمة وبالتالي إلى تبدُّل مواقفها، ولكن تتعلق أكثر بموانع إقامة الحد الطبيعي من العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية والسياسية بين البلدين. وهو الأمر الذي لا توفر المبررات التي ساقها نظام مبارك لتفسيره، حيث أن هذه المبررات قد تكون -على وهنها- منطقية إذا كان المطروح هو علاقة قوية ومميزة بين البلدين، مثل التي بين مصر والسعودية أو بين إيران وسوريا، لكنها لا تصمد أمام سؤال لماذا لا توجد علاقة طبيعية بين القاهرة وطهران خاصة وأن فوائد تحسن العلاقات فيما بينهم يأتي بثمار اقتصادية وثقافية وعلمية بالحد الأدنى.
هنا يمكن حصر محددات مسألة تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية في ثلاث محددات رئيسية: الأول هو توفر إرادة حقيقية في إقامة علاقة طبيعة ومستدامة تناسب حجم وتأثير الدولتين. الثاني هو ذاك العائد المتوقع من هذا التطبيع لمصر، سواء اقتصاديا أو سياسيا، وهذا الأخير تحديدا يشترط بالدرجة الأولى أن يترتب حسب الطبيعة المرحلية للعلاقة بين إيران ودول الخليج وتحديدا السعودية حاليا، أو إيران والولايات المتحدة فيما سبق. والثالث هو مستجدات الأوضاع على الساحة الإقليمية والتماس بين موقف القاهرة وطهران تجاه قضايا محددة، على سبيل المثال أزمة الوساطة والتفاوض بين المقاومة والكيان الصهيوني، وعلاقة ذلك بموقف المحور التركي القطري، أو اتفاق على ضرورة مواجهة عدو جديد يهدد الجميع، كـتنظيم "داعش".
ويعد 2011 عام فاصل في الخط الزمني الخاص بهذه المسألة، عندما أعلنت طهران عن ترحيبها بالثورة في مصر وتأييدها، وزوال العقبات التي وضعها نظام مبارك في سبيل تطوير العلاقات بين البلدين، وهو ما يفسر سعي الجمهورية الإسلامية الحثيث في مد أيادي التعاون بشتى مجالاته وخاصة الاقتصادية، وعرضها في 2012 بمد مصر باحتياجاتها من القمح والنفط، وتحريك سوق السياحة المصري الراكد وقتها إذا سمحت مصر بدخول السياح الإيرانيين، وكل ما سبق كان يتطلب من الجانب المصري رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي المتبادل، والذي يقف حتى اليوم عند مستوى مكتب رعاية مصالح. ولكن الوضع استمر على ما كان عليه قبل 2011، بل وساعدت عوامل أخرى - ذكرتها في المقال السابق - عن تحول موضوع التقارب المصري الإيراني إلى ورقة ضغط ومساومة وانعدام نية الجانب المصري في هذا التوقيت في أخذ أي خطوات فعلية من شأنها تطوير العلاقات بين البلدين.
ايران ومصر
وعقب الاتفاق النووي بين إيران والسداسية الدولية، وزوال العقوبات الأممية الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني بشقيها الاقتصادي والاعتباري، سارعت دول العالم وخاصة الأوربية منها مثل فرنسا وانكلترا وألمانيا إلى إعادة العلاقات وتطبيعها مع طهران، وهو ما يجدد التساؤل حول ما يمنع أن تحذو مصر حذو هذه الدول، خاصة مع فرضية تقلص الموانع الأساسية الخاصة بمصر مثل نظام مبارك وأيضاً المانع العام الخاص بالعقوبات النووية والتي بعد زوالها أصبحت إيران بالنسبة لمعظم دول العالم دولة "طبيعية" التعامل معها لا يجلب أي عواقب اقتصادية أو سياسية، بموجب العقوبات والمحاذير التي فرضتها الولايات المتحدة على دول ومؤسسات عالمية. وبالنسبة للقاهرة، فخلال العامين الماضيين كانت هناك دواع للتقارب مع إيران، تتعلق بغزة والتصدي لخطر التكفيريين؛ فبالنسبة لغزة كان العدوان الإسرائيلي العام الماضي كاشفاً لمدى احتدام الصراع بين النظام المصري الجديد وتركيا وقطر، وهو ما تجلى في مسألة الوساطة التي تلكأت فيها القاهرة لخلافاتها مع حركة حماس بعد يونيو 2013، وهو ما حدا بإيران أن تتدخل لحلحلة هذه الأزمة بشكل غير مباشر وتضغط للقبول بالوساطة المصرية لأنها كانت أفضل من نظيرتها التركية-القطرية التي كانت تمهد ليس فقط لتصفية المقاومة في غزة وتحويلها إلى سلطة فلسطينية جديدة، ولكن أيضاً تحويل قطاع غزة رسمياً إلى شوكة في خاصرة مصر بإيعاز تركي-قطري، وهو ما كان سينتج عنه تدهور وتعقد الموقف بين القاهرة والقطاع لتعود معادلة الحصار إلى ما هو أسوء من فترة نظام مبارك.
وبخلاف الموقف في غزة، من الواضح منذ العام الماضي أن هناك تفاهمات إقليمية تترتب حسب خطر أكبر من كافة الخلافات بين المحور المصري السعودي وبين محور المقاومة، هذا الخطر هو المجموعات الإرهابية المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم "داعش"، فمن العراق إلى لبنان تجرى تسويات إيرانية-سعودية عنوانها الرسمي التأهب ومحاصرة الخطر الـ"داعشي" ومنعه من التمدد، وهنا يطرح بطبيعة الحال مدى إمكانية التقارب المصري الإيراني مجددا، خاصة وأنه من الواضح أن الخلاف الثانوي بين الدول السابقة تنحى مؤقتا لحساب مواجهة الخطر الأكبر، وإن كان هذا لا يعني سوى تغليب المصالح، فأولا بالنسبة إلى مصر يضيق التباين بينها وبين محور المقاومة يوما بعد يوم، وبالتالي كان منطقيا أن ترحب إيران بثورة الثلاثين من يونيو وبانتخاب السيسي رئيسا لمصر، وحضور حسين أمير عبد اللهيان حفل التنصيب ممثلا عن الرئيس الإيراني حسن روحاني، وتعقيبه في وسائل الإعلام أن المحادثة مع السيسي، تفتح أفق لتطور في العلاقات المصرية الإيرانية غير مسبوق.
ومنذ بداية العام الحالي، أضيف عامل آخر طرح مسألة التقارب بين مصر وإيران من جديد، وهو الكيفية التي تعاملت بها منظومة الحكم السعودي الجديد مع مصر، التي بالنسبة لهم أصبحت عبئا اقتصاديا وسياسيا، أو بالحد الأدنى بطاقة ضغط أو ترغيب لهذا الطرف أو ذاك، سواء ضغط وفزاعة عسكرية في اليمن، أو ترغيب للتقارب مع تركيا وقطر، في حين أن تحرر القاهرة من الامتنان المبالغ فيه لمساعدات الرياض قد تأخر إلى الوقت الذي فقدت فيه الأولى زمام المبادأة السياسية على مستوى المنطقة، التي كانت حازتها في يونيو 2013، وتلقفتها وقتها السياسة السعودية ووظفتها حسب مصلحتها وإرادة ملكها في ذلك الوقت، وهنا تصبح اتجاهات السياسة الخارجية المصرية-بما فيها إمكانية التقارب مع إيران أو محور المقاومة- تتم وفق بوصلة سعودية، وهو ما حدث من أول العدوان على اليمن مروراً بالوضع في ليبيا وأخيراً بما يتعلق بالمبادرة الروسية تجاه الأزمة السورية.
لكن هنا ثمة متغير رئيس وهو الاتفاق النووي الإيراني، حيث في ظل مردوده على المستوى الإقليمي والدولي يساهم في توسيع هامش المناورة بالنسبة للقاهرة -أرادت استغلال الظرف الحالي لتحسين موقفها- ويغير شكل الخارطة السياسية للمنطقة بشكل عام. البديهي هنا أن تبدي القاهرة نوعاً من الانفتاح على محور المقاومة، وفي القلب منه إيران، بعد تجدد وازدياد محفزات التقارب بين البلدين، خاصة بعد زوال العقوبات، وبخلاف العائد الإيجابي من هذا الانفتاح اقتصاديا، فإن هناك ثمنا سياسيا تحتاج القاهرة الحد الأدنى منه، وهو توسيع هامش المناورة مع الرياض، التي لن تسمح بتطبيع العلاقات بين مصر وإيران، ففي حالة حدوث ذلك، تصبح كل الترتيبات السعودية الأخيرة لمواجهة تداعيات الاتفاق النووي بلا فائدة، وهو ما يفسر التقارير الإعلامية الأخيرة عن وجود ضغوط ومحاذير وجهت لمصر لمنع حدوث تقارب بينها وبين إيران حتى ولو كان رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي.
وفي الخلاصة، علامات الاستفهام الخاصة بالتباعد بين مصر وإيران لم تعد تتعلق بتفكيك المبررات الكلاسيكية التي كانت تسوق حتى 2010، بل ترتبط بترتيب الخارطة السياسية في المنطقة ووضع مصر وترتيبها فيها، والذي أحد مفاعيله إخضاع مسألة العلاقات مع إيران ضمن معادلة علاقات مع طرف ثالث، سواء كان هذا الطرف الولايات المتحدة والكيان الصهيوني أم دول الخليج وعلى رأسها السعودية، وعليه فإن الأفق المتوقع في المستقبل القريب بالنسبة للعلاقات المصرية-الإيرانية ينحصر في قضايا تماس بين البلدين وعن طريق غير مباشر ووفق بوصلة ترتهن لتحالفات مصر الاضطرارية التي تُجرم حتى حد أدنى وطبيعي مثل الذي بين القاهرة وأي بلد في العالم. بعبارة أخرى تختصر الوضع الحالي بهذه المسألة: العلاقات بين مصر وإيران تمر عبر دول الخليج وتحديداً السعودية.