ارشيف من :أخبار عالمية
خاص "الانتقاد.نت": بولونيا على المفترق بين المحورين الاميركي والروسي
صوفيا ـ جورج حداد
بموقعها الاستراتيجي بين روسيا والمانيا، وبانتمائها القومي ـ الديني المزدوج (السلافي ـ الكاثوليكي)، الذي يجمعها بروسيا السلافية، من جهة، وباوروبا "المسيحية الغربية" من جهة ثانية، تعتبر بولونيا جسر اتصال (او انفصال) رئيس بين روسيا واوروبا الغربية.
في بداية الثمانينات كانت بولونيا هي أول بلد في "المنظومة السوفياتية" السابقة، بدأ بشق "عصا الطاعة" للكرملين، عبر الاضرابات المشهورة لنقابة "التضامن" غير الرسمية، التي كان يتزعمها "ليخ فالينسا"، اول رئيس لبولونيا "بعد الشيوعية".
وبعد ان كانت فرصوفيا، عاصمة بولونيا، هي مقر "حلف فرصوفيا" السابق المناوئ للحلف الاطلسي، انضمت بولونيا نفسها الى الحلف الاطلسي (المعادي لروسيا) عام 1999، ثم انضمت الى "الاتحاد الاوروبي" عام 2004. ولهذه الاسباب الموضوعية، فإن الموقف البولوني من الاستراتيجيتين الاميركية ـ الغربية، من جهة، والروسية، من جهة ثانية، يعتبر مفصليا.
تتمحور الاستراتيجية الاوروبية لاميركا منذ سنوات حول نشر شبكة من القواعد الرادارية والصاروخية (الدرع الصاروخي) في اوروبا الشرقية، لتطويق روسيا، والاستعاضة عن القواعد العسكرية الاميركية في بلدان اوروبا الغربية، بعد ان بدأت تلك البلدان تتململ من وجود تلك القواعد في اراضيها.
وفي المقابل تتمحور الاستراتيجية الاوروبية لروسيا حول مد انابيب النفط والغاز القارية، التي تمتد من اسيا الوسطى وسيبيريا الى مختلف بلدان اوروبا الشرقية والغربية، تمهيدا لربط القارة الاوروبية بنظام الطاقة الروسي ـ الشرقي، لتحريرها من الاعتماد على مصادر الطاقة التي تهيمن عليها اميركا، ولزيادة اعتماد اوروبا بالطاقة على روسيا، كمقدمة اساسية للتقارب الروسي ـ الاوروبي، على حساب "علاقات" الهيمنة الاميركية على اوروبا.
وتشير الدلائل ان الانفتاح البولوني على الحلف الاطلسي والاتحاد الاوروبي، كالانفتاح الذي دشنه السادات على اميركا والغرب بعد اتفاقية "كامب دايفيد"، لم يعط الثمار المرجوة من قبل اوساط السلطة الجديدة في بولونيا، ولا سيما اوساط رجال الاعمال الجدد انفسهم. وقد وجد ذلك إنعكاسه في تلكؤ بولونيا في نشر القواعد الصاروخية الاميركية على اراضيها، ضمن البرنامج الاميركي لتطويق روسيا.
ولكن في الوقت نفسه فإن بولونيا تلكأت حتى الان في مد انبوب الغاز الروسي القاري في اراضيها، ونعني به الانبوب المسمى "السيل الشمالي"، الذي يربط مصادر الطاقة الروسية الشمالية باوروبا الغربية والشرقية معا. وفي الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين الى بلغاريا، في منتصف كانون الثاني/ يناير الماضي، عمد الى توقيع اتفاق مع بلغاريا، يتم بموجبه مد انبوب آخر للغاز وهو الانبوب المسمى "السيل الازرق" عبر البحر الاسود وبلغاريا، ومنها عبر صربيا، باتجاه ايطاليا وغيرها من بلدان اوروبا الغربية. وذلك كبديل وكعملية التفاف مجدية حول المدى الجغرافي البولوني.
ويبدو ان بولونيا اخذت تعيد النظر في موقفها السلبي من مد انبوب الغاز "السيل الشمالي" عبر اراضيها، وذلك من منظار مصالحها الاستراتيجية ذاتها، اقتصاديا وسياسيا.
وقد اوردت وكالة انترفاكس الروسية نقلا عن الجريدة البولونية "جيتش بوسبوليتا" ان الرئيس البولوني السابق الكسندر كفاشنيفسكي اعلن تأييده لمشروع بناء انبوب الغاز "السيل الشمالي". وتقول الجريدة إن كفاشنيفسكي هو اول مسؤول بولوني رفيع المستوى يعلن تأييده لمد انبوب الغاز الشمالي. وقد صرح قائلا: "من العبث ان نغمض اعيننا. اذا كنا لا نستطيع ان نعرقل بناء الانبوب، الذي يهدد الامن "الايكولوجي"، فإن بولونيا عليها ان تنضم الى المشروع". وحسب تعبير كفاشنيفسكي فإن "السيل الشمالي" يمكن ان يصبح جزءا من سياسة طاقية لاوروبا الكبرى، مما هو في مصلحة بولونيا.
وانبوب الغاز "السيل الشمالي" "NORD STREAM" انما يتم بمبادرة مشتركة بين عملاق الغاز الروسي شركة "غازبروم"، التي تمتلك الحصة التقريرية 51% من اسهم الانبوب، وشريكتيها الالمانيتين شركتي E.OH و BASF. وقد انضمت الى المشروع لاحقا الشركة الهولندية "غازوني". وتبلغ طاقة الانبوب السنوية 55 مليار متر مكعب من الغاز. والقاعدة المنبعية للمشروع هي حقل الغاز العملاق في "شتوكمان" في بحر تارنت (حوالى 3,7 تريليون متر مكعب غاز)، الذي يتم التنقيب والعمل فيه من قبل الشركة الروسية "غازبروم"، بالتعاون مع شريكتيها شركتي "توتال" و"ستايت اويل هيدرو".
ويعلق بعض الخبراء المخضرمين البلغار، المطلعين على اوضاع اوروبا الشرقية، ان توقيع بلغاريا لاتفاقية "السيل الازرق" مع روسيا، لعب دورا كبيرا في "تعديل" و"عقلنة" موقف بولونيا من مد انبوب "السيل الشمالي" في اراضيها. وسيكون لهذا الموقف تداعياته الكبرى لاحقا، اقتصاديا وسياسيا وستراتيجيا، على مجمل العلاقات الاوروبية ـ الاوروبية (ولا سيما الاوروبية ـ الروسية) والاوروبية ـ الاميركية.
ولكن هذا لا يعني البتة ان الاستراتيجية الاميركية "قد اسقط في يدها" في بولونيا. بل على العكس تماما: ان المساعي الاميركية لاحتواء بولونيا تزداد شدة. وقد تجلى ذلك بشكل خاص في ظروف تفجر الازمة الاخيرة في جورجيا. ولهذه الغاية تعتمد السياسة الاميركية بشكل خاص على تسعير التناقضات الروسية ـ البولونية القديمة، الموروثة من العهد الستاليني، لا سيما تقاسم بولونيا بين هتلر وستالين بموجب معاهدة "مولوتوف ـ روبنتروب". وفي ظل الصدام المسلح في جورجيا بدأت في فرصوفيا دورة جديدة من المحادثات الاميركية ـ البولونية لنشر قواعد عشرة صواريخ معترضة من نظام الصواريخ المضادة للصواريخ.
"يوجد تقارب في المواقف. لا استطيع التنبؤ بالنتائج، ولكننا الان اقرب الى متطلبات رئيس الوزراء دونالد توسك، مما كنا قبل شهر". هذا ما صرح به وزير الخارجية البولوني رادوسلاف شيكورسكي، الذي يقود المحادثات شخصيا مع جون ريد، مساعد وزيرة الخارجية الاميركية. وبحسب تعبير شيكورسكي، فإن النزاع بين روسيا وجورجيا كان احد عوامل تسريع هذه المحادثات. وأضاف "لدينا الان وضعية دولية جديدة، من شأنها تقوية حججنا. ان اشتداد التوتر الدولي يعطي اهمية اكبر لمسألة ضمانات الامن". واعلن وزير الدفاع البولوني بوغدان كليخ ان "الحد الادنى" للحكومة البولونية للقبول بالصواريخ المعترضة الاميركية على اراضيها هو ان تحصل فرصوفيا على الاقل على بطارية صواريخ واحدة من طراز "بتريوت".
ومن جهته فإن رئيس الجمهورية البولوني ليخ كاتشينسكي، وهو من المتحمسين لمشاركة بولونيا في الدرع الصاروخي الاميركي، ابدى تفاؤله بنجاح المحادثات وقال "ان المسألة هي شديدة الاهمية لبولونيا، ومن الارجح ان يتم حلها بنجاح".
ويعلق بعض المحللين المحايدين على الموقف المتردد والمتذبذب لبولونيا، ان بولونيا هي اضعف من ان تستطيع الامساك بالعصا من وسطها، وان تمتطي حصانين في وقت واحد. فإما ان تختار بولونيا جغرافيتها السياسية وتسير في "الخيار الاوروبي" (ومنه، بالنسبة لبولونيا بالاخص، الخيار الروسي)، واما ان تسير في خط "العولمة" (= الهيمنة) الاميركية.
واذا اختارت بولونيا السير في الخط الاميركي، وتحولت الى "مخلب قط" اميركي ضد روسيا، فإن روسيا ايضا لن "يسقط في يدها"، وهي ليس لديها الكثير مما تخشاه من الوجود الاميركي في بولونيا، بل لديها الكثير من الاوراق كي تلعبها في غير صالح بولونيا، منها على سبيل المثال لا الحصر رفع المظلة الروسية عن بولونيا في موضوع النزاع على الاراضي، وعدم الاعتراض على المانيا في المطالبة بالسيطرة على خليج ومدينة غدانسك (بالالمانية:دانتسنغ)، اللذين جرى ضمهما الى بولونيا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد يكون ذلك مدخلا واساسا صلبا لتقارب استراتيجي روسي ـ الماني، على حساب الاستراتيجية الاميركية برمتها، بما في ذلك مصالح بولونيا السائرة في ركاب اميركا.