ارشيف من :آراء وتحليلات
مؤتمر جماعات العنف التكفيري.. العلم والعقل في مواجهة القتل.
د. طارق عبود
تشغل الجماعات العنفية التكفيرية حيزًا وازنًا من الحضور السياسي والثقافي والميداني والإعلامي في عالمنا الإسلامي اليوم. ولأنّها تشكّل أولوية في سلّم اهتمامات المؤسسات الأمنية والسياسية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية؛ جهد الدارسون والباحثون في مقاربة هذه الحالة المتوحشة التي تعيش بين ظهرانينا، وتنمو بسرعة مخيفة.
لذلك عمل مؤتمر "جماعات العنف التكفيري، الجذور، البُنى والعوامل المؤثّرة" في بيروت خلال اليومين الماضيين، الذي نظّمه المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، ومركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بالتعاون مع المركز الأردني للدراسات والمعلومات، على دراسة هذه التجربة -الظاهرة، ووضعها تحت المجهر البحثي العلمي الموضوعي، بعيدًا من الموقف السياسي والفقهي والعقدي للباحثين والمنظمين والمشاركين.
يهدف المؤتمر الى تبيان هذه الحالة التي أصبحت بحاجة إلى الغوص فيها لمعرفة كنهها وحقيقتها وكيفية انتشارها. يضاف إليه التعرف إلى الشرايين التي تعمل على تغذيتها وتقوية شوكتها، حتى أصبحت تشكّل "فرانكشتاين" العصر، الذي صنعته دولٌ إقليمية بمباركة غربيّة، علّها تكسب المعركة مع المحور المقابل الذي شكّل خصمًا عنيدًا، ووقف بصلابة أمام المشروع الامبريالي الصهيوني، وعمل على إفشاله في لبنان والعراق ولاحقًا في سوريا واليمن وإيران.
إنّ هذه الجماعات بأفكارها ليست معزولة عن سياق تاريخي وفكري وسياسي، بل لها جذور ضاربة في عمق التاريخ الاسلامي والعربي، وبنيتها تختلف مع تلك الجذور من حيث التنظيم، وتتفق إلى حد كبير من حيث الأيديولوجيا.
وكما قال رئيس مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي، الشيخ الدكتور محمد تقي سبحاني، "إنّ ما نواجهه اليوم ليس مجرّد عنفٍ وإرهاب، بل نحن نواجه تنظيمًا لهما، يهدف إلى إضفاء القداسة على هذه الممارسات. فأنْ يمارس المستبدون أو المتدينون الإرهاب شيء، وأن ينظّر هؤلاء لممارساتهم، ويستندوا في تسويغها إلى المبادئ الفلسفية والكلامية والفقهية والأخلاقية شيءٌ آخر".
العلم والعقل في مواجهة القتل
طرح المؤتمر أسئلة كثيرة، قد تفوق حجم الإجابات التي حملها الباحثون في حقائبهم إلى بيروت من شتى أنحاء الوطن العربي والإسلامي، وهذا ما يفسّر تسارع انتشار هذه الآفة وتوسُّعها، وصعوبة حصرها بتعريفات محددة، كونها لا تزال تتغيّر وتنتقل من مرحلة إلى أخرى، وتعمل على إدارة توحشها عنفَا ودماءً وتهجيرًا بحسب "أبي بكر ناجي" أحد منظري هذا الفكر، في كتابه "إدارة التوحش".
أحد الأسئلة المطروحة: هل هذه الحالة هي استعادة لأنموذج الحشاشين؟ أم هي نسخة معدّلة عن الخوارج الذين افتتحوا ممارسة الإرهاب بوجه من لا يوافق رأيهم ، مرة بالجدالات الكلامية والفقهية وأخرى بالاغتيال السياسي؟
ما قاله رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق الدكتور عبد الحليم فضل الله في افتتاح المؤتمر يأتي في السياق نفسه. لقد اعتبر فضل الله أن "صعود هذه الحركات لا ينفصل عن دعوات دينية وعقائدية استوطنت الشرق قبل قرنين، وبنت عصبياتها على الانغلاق ونبذ حق الاختلاف، بل وإنكار حق الآخر المختلف بالوجود، مستندة في ذلك الى رفض لا هوادة فيه للاجتهاد والرأي. فأطاحت في طريقها العقل وقهرت روح النص".
آراءٌ أخرى احالت ذلك التوسّع إلى الأنظمة القائمة في بلداننا العربية التي مارست القهر والظلم بحق شعوبها، وأخفقت في بناء الدولة التي يشعر المواطن فيها بأنه إنسان له حقوق كنظرائه في بقية الدول المحترمة. هذا ما تطرّق إليه الباحث في الشؤون السياسية، الأستاذ التونسي "نوفل صدّيق" الذي أضاء على موضوعة انجذاب الشباب الى هذه الأفكار والممارسات البعيدة من عصرنا وديننا وتاريخنا، وأشار إلى أن الشباب التونسي لا يشعر بإنسانيته، وأنه مهمّش ومحتقَرٌ من الدولة والسلطة والمجتمع، لا يستطيع تأمين قوته ولا بناء منزل ولا أسرة، لذلك رمى بنفسه في أحضان هذا الوحش بهدف ما أطلق عليه" نوفل" مصطلح "الارتقاء".
هذا الارتقاء الدنيوي الذي يتشكّل بشعور الشاب بحيّز اهتمام دنيوي، أثناء مشاركته بالقتال، وتلمسّه الدعم المادي الهائل من الدول النفطية وغيرها، ما ينتج رفعةً معنوية، وبوصول أخروي الى الجنة الموعودة، كونه أصبح من "الفرقة الناجية".
وقارب الباحثون موضوع الإعلام. الاشكالية التي طرحت تتكلم عن استغلال الجماعات وسائط التواصل الاجتماعي وشبكة الانترنت، وهي وسيلة محدثة جدًا، على الرغم من رجعيتهم وسلوكهم المتخلّف. وقد اشار المحاضران "الدكتور الباحث والإعلامي محمد علوش والدكتور محمد محسن" الى ظاهرة انضمام مخرجين سينمائيين محترفين إلى صفوف هذه الجماعات، وتصويرهم بتقنية عالية مشاهد الإعدامات بطريقة هوليودية متقنة (إحراق الطيار الأردني، ورجال الحشد الشعبي) مثالًا. يحصل هذا النشاط الاعلامي بالتوازي مع غض نظر القيمين على الشبكة العنكبوتية، وعدم حذف أو حظر اي من موادهم.
من منظور آخر، تمت الإشارة إلى تقاطع المصالح الآنية بين الغرب وكثير من العرب مع أهداف التكفيريين في عرقلة المشروع المقاوم في العالم، وتسخير جهدهم في سبيل تطويع هذه الجبهة ولو بوسائل شيطانية، يدّعي الغرب دائمًا نفوره منها، والتصويب على عدم حضاريتها، وإدانة وحشيتها عبر إعلامه، والدعم العربي الخليجي المفتوح لهم من أجل سحق الدول التي تواجه خياراتهم الرجعية من خلال هذه الوحوش الضارية .
وقارب المشاركون جملةً من القضايا التي من الممكن ان تكون قد أسهمت في تبلور هذه الحركات وغذتها، بدءا بالجذور الفكرية البانية لها، والعوامل الاجتماعية والسياسية المسهمة في نشوئها، مرورًا بخطابها إلى الآخر المختلف ورؤيتها له، والعوامل الإقليمية، وصولًا إلى بنيتها التنظيمية، وقدرتها على القيام بالدور التعبوي والنفسي والعقدي والقتالي، في عملية الاستقطاب. وختامًا بالإضاءة على العلاقات الظرفية والتحالفات بين مكونات الجماعات التكفيرية، وتفرقها عند اي منعطف مادي ومصلحي، وتوحشها في قتال بعضها بعضًا، بالقدر الذي تمارسه في صراعها مع الآخرين.
مثّل المؤتمر فسحة زمنية عقلانية، تتوسّل الفكر والبحث العلمي، والحفر في أسباب نشوء حالة مدمّرة تشكّل خطرًا على الحاضر الإنساني والحضاري والقيمي، بهدف البناء العقلي الذي يدرس أسباب نشوئها وتطورها بهذه السرعة القياسية، وتعاطف مجموعات هائلة من العالم الإسلامي مع طروحاتها المتطرفة العنفية، والبدائل المطروحة لمواجهتها بوسائل متعددة الأبعاد، من السياسة إلى الاقتصاد والأمن والثقافة والفكر، والمسؤولية الملقاة على عواتق المثقفين والمشتغلين على الفكر الديني، لأنها المجموعة الأكثر تأثيرًا ونجاعة لضبط توجهات الأجيال الجديدة، ومنع انزلاقها إلى أماكن جهنمية.