ارشيف من :آراء وتحليلات
رياح الحرب الاهلية تتجه نحو غرب أوكرانيا (1/2)
تتجه الأوضاع في أوكرانيا نحو التأزم اكثر فأكثر. ففي المرحلة السابقة جرت إعادة تسليح الجيش الانقلابي الاوكراني بكثافة بالأسلحة الأميركية التي استبدلت بها الأسلحة السابقة ذات الطراز السوفياتي والروسي، وحط رحاله في أوكرانيا مئات المدربين والمستشارين العسكريين الاميركيين، من اجل الاشراف على استخدام وتجربة فعالية الأسلحة الميدانية الأميركية الجديدة، بمواجهة الأسلحة التي تقاتل بها قوات "الدفاع الشعبي الذاتي" في شرق أوكرانيا، والتي هي من مخلفات الجيش الاوكراني ذاته.
وأمام دهشة الخبراء العسكريين الاميركيين، فإن أسلحتهم الجديدة ذاتها سقطت في الامتحان حتى أمام الأسلحة الروسية من طراز تسعينات القرن الماضي، ولم يستطع الجيش الانقلابي الاوكراني المدعوم من العصابات الفاشستية لما يسمى "المتطوعين" و"الحرس الوطني"، لم يستطيعوا احراز أي اختراق او تقدم على خط الجبهة، بل ان خط الجبهة تراجع باتجاه الغرب.
الانتقام من المدنيين
ولكن الجيش الانقلابي الاوكراني وعصابات حلفائه، وللتعويض عن الفشل العسكري وليبرروا قبض مخصصاتهم، قاموا بقصف المدن الآمنة بالصواريخ والمدفعية الثقيلة موقعين المزيد من الضحايا في صفوف المدنيين، بشكل انتقامي همجي ليس له عسكريًّا أي مبرر واي نتيجة. فنتيجته الوحيدة هو كشف إضافي لمدى الانحطاط الأخلاقي والسياسي والعسكري لاستراتيجية اميركا والناتو وحلفائهما أينما كانوا، من سوريا والعراق واليمن الى أوكرانيا.
وطوال الأشهر الماضية كانت حكومة بوروشينكو الانقلابية العميلة تماطل في تنفيذ "اتفاق مينسك" الذي وقع عليه بوروشينكو شخصيًّا، لحل الازمة سلميا وسياسيا، بحجة عدم وقف اطلاق النار على الجبهة. علما ان الذي كان يمتنع عن وقف اطلاق النار، كما اثبت المراقبون الأوروبيون بالذات، هو جيش بوروشينكو نفسه. ذلك ان الاميركيين كانوا يصرون على تجربة أسلحتهم، والا فإن بوروشينكو وعصاباته الفاشستية "لن يقبضوا" بدل "اتعابهم" في خدمة المخطط الأميركي ـ الناتوي لاستفزاز روسيا والضغط عليها بواسطة اشعال الحريق الاوكراني على حدودها، بهدف "تليين" موقفها في الشرق الاوسط.
ومن أجل المزيد من المماطلة وتأخير تنفيذ "اتفاق مينسك"، عمدت الكتلة الغربية بزعامة اميركا الى اخراج مسرحية إلهاء جديدة هي التقدم الى مجلس الامن الدولي بمشروع قرار لانشاء محكمة دولية لاجراء محاكمة خاصة بإسقاط الطائرة الماليزية فوق خطوط الجبهة القتالية في 17 تموز 2014.
ولكن المندوب الروسي فيتالي تشوركين أسقط فورا مشروع القرار هذا بالفيتو. وفضح المقاصد الحقيقية الالهائية له، واولها التشهير بروسيا وحلفائها وإعادة توتير الأجواء لعرقلة تنفيذ "اتفاق مينسك".
ومعلوم انه حينذاك، وقبل ان يصل حطام الطائرة المنكوبة الى الأرض، انبرت فورا جميع ابواق البروباغندا الغربية بمن فيها غالبية الرؤساء الغربيين و"إسرائيل" وتركيا وعلى رأسهم كراكوز البيت الأبيض، لاتهام الثوار الاوكرانيين وروسيا وحتى الرئيس بوتين شخصيا، باسقاط الطائرة الماليزية.
ولكن البروباغندا شيء، والوقائع شيء آخر تماما. وقد قدم الجانب الروسي وحلفاؤه للأطراف الأمنية والحقوقية الدولية المعنية الوقائع التالية:
ـ1ـ فور اسقاط الطائرة المنكوبة، شنت قوات الجيش الاوكراني هجوما مفاجئا (كأنما كان محضرا سلفا) باتجاه البقعة التي تناثر فيها الحطام، في محاولة للعثور على الصندوقين الاسودين للطائرة. ولكن تلك القوات ردت على اعقابها، وعثر الثوار على الصندوقين الاسودين، ورفضوا طلب سلطات كييف بتسليمهما لها، وسلماهما للمراقبين الأوروبيين، الذين سلموهما بدورهم الى المختبر المختص التابع لحلف الناتو في بروكسل. وحتى اليوم يمتنع الناتو عن الإعلان عن محتوى الصندوقين.
ـ2ـ حتى الان ترفض سلطات كييف الإعلان عن محتوى تسجيلات اللحظات الأخيرة للاتصالات بين برج مراقبة الطيران الاوكراني وربان الطائرة المنكوبة.
ـ3ـ اكدت الجهات الروسية، التكنولوجية ـ العسكرية ـ الأمنية المختصة، انه في لحظة اسقاط الطائرة الماليزية، كانت توجد أقمار اصطناعية أميركية في المدار الفضائي للمنطقة. واضطرت وكالة المخابرات المركزية الأميركية ذاتها للاعتراف بذلك، وانها لم ترصد دخول او خروج منصات صواريخ عبر الحدود الروسية، قبل وبعد اسقاط الطائرة. ومع ذلك فإن الجانب الأميركي يصر على اتهام روسيا وحلفائها باسقاط الطائرة بصاروخ ارض ـ جو، وفي الوقت ذاته يرفض الى الآن تقديم أي بيانات عن الصور والمعلومات التي وفرتها الأقمار الاصطناعية الأميركية عن الكارثة.
ـ4ـ تؤكد أجهزة الرقابة التجسسية ـ العسكرية الروسية ان الطائرة الماليزية اسقطت بصاروخ جو ـ جو اطلقته طائرة حربية اوكرانية. وبدون اجراء تحقيق دولي شامل لا يمكن التأكيد هل ان الطيار الاوكراني الجاني ارتكب جريمته بأمر من قيادته المباشرة، ام بالتواطؤ مع طرف اجنبي مجهول.
ـ5ـ ان قيادات الناتو والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة ودول الكتلة الغربية بأسرها، وعلى رأسها اميركا، ترفض الى الان رفضا قاطعا الاقتراح الروسي باجراء تحقيق دولي شامل، تشارك فيه الدول المحايدة، في هذه الجريمة النكراء.
ـ6ـ يتساءل الجانب الروسي: كيف يمكن للمؤسسات الدولية، وخصوصا مجلس الامن، ان تقفز الى تشكيل محكمة دولية، في الوقت ذاته الذي ترفض فيه اجراء تحقيق دولي في الجريمة المعنية.
جمهوريتا دونيتسك ولوغانسك تتجهان نحو الاستقرار
وخلال مرحلة الهدوء النسبي اثناء المفاوضات لصياغة "اتفاق مينسك" وقبل المصادقة النهائية عليه من قبل الأطراف المعنية، بدأت ترتسم في أوكرانيا اللوحة شبه السوريالية التالية:
أ ـ في شرق أوكرانيا بدأت الجمهوريتان المستقلتان المعلنتان ذاتيا "دونيتسك" و"غدانسك" تستغلان الهدوء النسبي، من اجل ترميم او تجديد بناء البنى التحتية والمؤسسات الاجتماعية والخدماتية والصحية والتعليمية، التي دمرتها سلطات وعصابات كييف الفاشستية. وتطمح "الجمهوريتان"، بمساعدة ودعم روسيا، لتقديم نموذج ناجح لفكرة "الحل الفيديرالي" لاوكرانيا، أي تحويل أوكرانيا الى اتحاد حر لجمهوريات فيديرالية (تتشكل من المقاطعات الحالية) على ما يشبه الكانتونات السويسرية، تتعاون فيما بينها، ولا ينهب بعضها بعضا.
ب ـ خلال هذه الفترة ذاتها كان الانقلاب الفاشستي الذي حدث في كييف في 21 شباط 2014 قد رسخ اقدامه، واتخذ طابعا "شرعيا" بعد اجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية في الأراضي الأوكرانية (باستثناء المقاطعات الشرقية) بشكل "ديمقراطي" تماما، اي تحت فوهات المدافع والرشاشات والبنادق وهراوات البيسبول الموجهة الى رأس كل "ناخب"، خارج وداخل أقلام الاقتراع، وكل من يجرؤ على الاعتراض مصيره لا الاعتقال او الطرد او الضرب، بل ببساطة: قتل ونهب واحراق منزله وتشريد عائلته.
التنافس على نهب الصناديق الوطنية
ولا بد من لفت نظر المحللين هنا انه، بالإضافة الى الأسباب السياسية او كأحد اهم العوامل المكونة لهذه الأسباب، فإن النظام المالي المركزي الذي كان سائدا في أوكرانيا كان له تأثير كبير في التحفيز على الانقلاب الفاشستي في 21 شباط 2014. فهذا النظام كان يقضي، او يفضي الى، تجميع مختلف ارصدة الصناديق الوطنية والمقاطعية وصناديق المعاشات التقاعدية والصحة والتعليم وحتى رياض الأطفال، وصناديق المعامل والمناجم والسكك الحديدية و...الخ. في كييف.
وكان هذا ينطبق بالطبع على منطقة الدونباس في شرق أوكرانيا، اكثر مناطق أوكرانيا انتاجا. وفي ظل حالة الفساد التي كانت سائدة في أوكرانيا منذ عهد يانوكوفيتش وقبله. وبسبب الطابع السياسي والمافياوي في آن واحد لاحزاب ومنظمات المعارضة السابقة ضد نظام يانوكوفيتش، وخصوصا بعد اعتقال رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو، اتحدت أحزاب ومنظمات المعارضة في جبهة واحدة للانقلاب على يانوكوفيتش، وعيونهم على الأرصدة المالية الهائلة في كييف، التي يمكن وضع اليد عليها ونهبها وتقاسمها. وتم الانقلاب طبعا تحت شعارات معاداة روسيا والروس والناطقين باللغة الروسية من الأوكرانيين، بتهمة انهم " اوكرانيون غير وطنيين".
وتحت قرع طبول الحرب ضد شرق أوكرانيا، تمت سرقة وتقاسم صناديق الامومة والشيخوخة ورياض الأطفال وحتى أجور العمال التي لم تدفع لعدة اشهر، بمن فيهم عمال مناجم الفحم والمعادن في الدونباس الذين، هم وآباؤهم واجدادهم، اطعموا أوكرانيا قرنا كاملا منذ نشوئها، والذين قاتلوا ببسالة وقدموا مئات الاف الشهداء ضد الغزاة الهتلريين في الحرب العالمية الثانية، نهبت اجورهم المستحقة، وألقوا في وهاد الجوع هم واطفالهم، لا لشيء الا لانهم روس وأرثوذكس لا يوالون الغرب، ولا يحظون ببركة الفاتيكان الأسود والسينهدرين اليهودي . وهذا كله يسمى "ديمقراطية" و"دفاع عن حقوق الانسان" و"حقوق القوميات والاتنيات والأديان" في قاموس السياسة العالمية لاميركا.