ارشيف من :آراء وتحليلات
النفايات.. مشكلة عالمية بأسباب حضارية
ليس دفاعاً عن المسؤولين في لبنان. فبين هؤلاء مذنبون كثيرون يستحقون المحاسبة على ما اقترفته أيديهم في مجال النفايات وغيره. لكن ذلك لا يجب أن ينسينا الواقع المتمثل بأن المشكلة عالمية وأن حلها في لبنان لن يكون، فيما لو توفرت الإرادة والإمكانيات، وفي أفضل الأحوال، إلا من نوع الحلول المعتمدة في البلدان المسماة "متقدمة". بمعنى أن هذه الحلول ترقيعية وعاجزة عن احتواء المشكلة لأن هذه الأخيرة هي مشكلة حضارة مأزومة لا مشكلة نفايات وحسب.
حضارة "المرميات"
في اللغة الفرنسية، وربما في غيرها من لغات الشعوب الغربية، هناك كلمة واحدة تستخدم للدلالة على الشيء أو الأشياء التي ترمى بعد الاستعمال. أي التي تتحول إلى نفايات. والواقع أن هذه الأشياء التي تعد بالمئات والآلاف والتي يخترع منها أصناف جديدة كل يوم، إنما تتكاثر بفعل تآزر عاملين: الحياة في المدن والارتفاع النسبي في معدلات الدخل.
أي أن مسؤولية سكان المدن والأغنياء عن تفاقم مشكلة النفايات هي أكبر من مسؤولية سكان القرى والفقراء الذين لا تسمح ظروفهم المادية بالتسوق الذي بات يشكل نشاطاً بشرياً منتجاً للنفايات بامتياز.
ولما كان أكثر من 80 بالمئة من سكان الكوكب يعيشون في المدن، والغالبية الساحقة من سكان القرى يعيشون وفق معايير مدينية، فإن بمقدورنا أن نتصور ما يعنيه الاسهام المتواصل لأكثر من سبعة مليارات بشري في إنتاج المزيد والمزيد من النفايات المتنوعة.
ولكي نكوِّن فكرة عن ضخامة المشكلة يكفي أن نشير إلى بعض المعطيات:
- كل مواطن فرنسي ينتج في المتوسط 14 طناً من النفايات سنوياً (تدخل فيها النفايات المرتبطة بمختلف الأنشطة الاقتصادية على الصعيد القومي)، وهذا ينطبق أيضاً على مواطني البلدان "المتقدمة" الأخرى.
- 40 ألف طن من النفايات "المنزلية" ترمى يومياً على أرصفة نيويورك (في /و/ حول حاويات خاصة بالطبع). يعمل في كنسها وجمعها أكثر من سبعة آلاف عامل. وتقوم بنقلها 2500 شاحنة. وتأمل السلطات في أن تتمكن من تدوير 30 بالمئة من هذه النفايات في غضون عامين. معنى الكلام أن 70 بالمئة من هذه النفايات يتحول إلى سلاسل جبال تمتد وترتفع غير بعيد عن المدينة. وما يقال عن نيويورك يقال ايضاً عن جميع مدن العالم المتقدم دون استثناء.
- حالة نيويورك تبين مدى صعوبة الرهان على التدوير، علماً بأن التدوير نفسه لا ينهي مشكلة النفايات، بل على عكس ذلك، يسهم، بما هو تقنية صناعية، في مفاقمة مشكلة تلوث الأجواء والانحباس الحراري، إضافة إلى تكلفته المالية المرتفعة. ولو حدث ووجدت ظروف تسمح بتدوير النفايات بنسبة مئة بالمئة، لبرزت عند ذلك، بدلاً من مشكلة النفايات، مشكلة أدهى هي مشكلة تدوير النفايات.
قد يتم التوصل إلى حل آني للخروج من المأزق الحالي المتمثل بالنفايات المنتشرة حيث لا ينبغي لها أن تنتشر. لكن أي حل مهما كان مبتكراً لن ينهي المشكلة. هناك بالطبع وسائل قد تخفف من تداعيات المشكلة، لكنها تظل بائسة كالامتناع عن التدخين في عالم تنبعث فيه من مداخن السيارات والطائرات والسفن والمصانع ومعامل الكهرباء وغيرها من المرافق العاملة على الإحراق والتي تؤدي إلى انبعاثات بمليارات الأطنان يومياً من الغازات السامة والمسؤولة عن التسبب بكوارث ليس أقلها الانحباس الحراري (تحول الأرض تدريجياً إلى جحيم).
شكل النضال الجديد
من غير المنطقي إذن مواصلة زرع الأوهام حول قدرة العلم والتكنولوجيا على حل مشكلة النفايات، في وقت تعيش فيه البشرية عجزاً متصاعداً عن مواجهة مشكلات بيئية ناشئة أيضاً عن أنشطة بشرية تلويثية بات من الضروري والملح أن يعاد النظر فيها قبل حلول موسم الكوارث الكبرى.
ومن غير المنطقي أيضاً أن تكون هناك رهانات على أشكال النضال التقليدية بهدف إجبار السلطات على تغيير هذا الواقع. فالسلطات والجهات التي تدير السلطات وتوجهها، شأنها شأن المعترضين، تتعيش على الوضع الحضاري السائد، وهذا الوضع هو من الترابط البنيوي بحيث لا يمكن تغيير عنصر من عناصره مع الاحتفاظ بعناصر أخرى.
شكل النضال الجديد والقادر على إحياء الأمل باستمرار بقاء الحياة والوجود البشري على سطح هذا الكوكب هو ببساطة تغيير نمط العيش بالشكل الذي يمكن معه التوقف عن إنتاج النفايات وعن تلويث البيئة.
أمر في منتهى الصعوبة. لكن صعوبته لا شيء بالقياس إلى الكوارث العظمى التي أوغلت البشرية في سياقاتها المرعبة، بشكل بات يخشى معه من استحالة العودة إلى الحياة الطبيعية.