ارشيف من :آراء وتحليلات

القاهرة ودمشق وبينهما الرياض..تقارب تحفزه المبادرة الروسية

القاهرة ودمشق وبينهما الرياض..تقارب تحفزه المبادرة الروسية

لا يغيب على المتابع أن ثمة تحريك للمياه الراكدة بين القاهرة ودمشق، خاصة على مستوى الإعلام والدبلوماسية، ورغم التناقض الظاهر في عدم عودة العلاقات بين البلدين منذ أن أقدم الرئيس السابق محمد مرسي على قطعها قبل الإطاحة به بقرابة أسبوعين، فإن الحديث الدائر حالياً في وسائل الإعلام والغرف المغلقة، يؤكد على بديهيات تربط مصير البلدين، أولها الأمن القومي لكليهما، وموقف القاهرة من الأزمة السورية المتباين عن موقف "الحليف" الرئيس لنظام الثلاثين من حزيران/يونيو، السعودية، التي لم تخف ردود أفعالها من هذا الحراك الحادث مؤخراً بين مصر وسوريا، فألغى الملك سلمان بن عبد العزيز زيارته إلى القاهرة، التي كانت مقررة هذا الشهر دون إيضاح أي أسباب غير التي تستنتج بين السطور، والمتعلقة بعدم التوافق التام والخلافات الثانوية بين الرياض والقاهرة فيما يخص قضايا المنطقة وعلى رأسها الأزمة السورية.

وعلى الرغم من ضبابية الحراك الحالي وعدم اتخاذه الطابع الرسمي وخروجه من كونه تصريحات إيجابية متبادلة، إلا أن هذه التصريحات من مسؤولين رسميين على رأسهم الرئيسان عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد، حددت ملامح وحدود هذه الخطوة وأهمها التأكيد على بديهيات العلاقات التاريخية المتميزة بين البلدين، ووحدة مصير أمنهم القومي المرتبط بالاستقرار فيهما، كذلك العدو المشترك حالياً وهو الجماعات الإرهابية. فكان التأكيد على أن قطع العلاقات رسمياً من جانب نظام مرسي كان خطأ يشكل عدم إصلاحه حتى الآن علامة استفهام كبيرة، خاصة مع التأكيد المتكرر حالياً من الجانبين على أن مؤسسات الدولة المصرية وعلى رأسها الجيش والأجهزة السيادية (الاستخبارات ورئاسة الجمهورية) بقيت على موقفها وعلى علاقاتها بالدولة السورية ولم تتأثر بالخطأ السابق، وذلك بحسب تصريحات الأسد في حديثه الأخير لقناة المنار.

القاهرة ودمشق وبينهما الرياض..تقارب تحفزه المبادرة الروسية

علامة الاستفهام السابقة تم التلميح لأسبابها أكثر من مرة في الإعلام المصري، كونها مرتبطة بمفاعيل خارجية لا داخلية متعلقة بالدولة المصرية ومؤسساتها وموقفها من الأزمة السورية، أهم هذه المفاعيل هو التحالف بين النظام المصري والسعودية، ودلالة العلاقات بينهم، المتذبذبة منذ بداية العام الحالي بتولية ملك جديد هناك وما تبع ذلك من تغير بوصّلة التحالف بين البلدين. إلا أن ذلك لم يكف للإجابة عن تساؤلات حول عودة العلاقات الدبلوماسية المُقلصة منذ2013 من جانب القاهرة، وهو معيار الحد الأدنى الذي يبدأ منه الحديث عن أي تقارب بين القاهرة ودمشق، ناهيك عن أسئلة متعلقة بكون الخطوة السابقة لم تعد قرار مصريًا خالصًا، وأصبحت خاضعة لنفوذ الحليف السعودي، أو لمحددات خاصة مثل المبادرة الروسية الخاصة بالأزمة السورية والتي من المتوقع أن تلعب فيها القاهرة دورًا رئيسًا، ليس فقط على مستوى ثلاثي بينها وبين روسيا وبينها وبين السعودية، ولكن أيضاً على مستوى ضلوع الأخيرة بمهمة توليف رؤية للحل السياسي – لا الحل العسكري كما أرادت الرياض - للأزمة السورية، يضمن وحدة أراضيها ووضع مسألة إسقاط الدولة كخط أحمر، وهما المبدأان المرتبطان أساساً بعقيدة الأمن القومي المصري.

هنا تتقاطع تصريحات مصادر عدّة تحدثت لـ"العهد" عن مسألة عودة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة ودمشق وتأثيرها على العلاقات بين القاهرة والرياض. مصدر دبلوماسي مُطَلع - تحفظ على ذكر أسمه - يقول "أن الوضع الحالي للدبلوماسية المصرية بخصوص مسألة عودة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها والأزمة السورية ككل يخضع لأمرين؛ أولهما سياسة اللعب في المنتصف التي هي السمة المميزة للدبلوماسية المصرية منذ تولي الرئيس السيسي والطامحة لدور فعال متوازن في المنطقة إزاء أخطار كبرى مثل الإرهاب والتقسيم، والتي برمجتها فيما يخص سوريا عدم الشطط عن رؤية عربية موحدة تتوافق عليها القاهرة تفصيلياً – مثل إستراتيجية عربية موحدة لا تقتصر على سوريا فقط - وخاصة مع حلفاء القاهرة الإقليميين وعلى رأسهم السعودية والإمارات، وتحظى بقبول وغطاء دولي لم يكن متوافرا قبل المبادرة الروسية التي لم تبرمج رسمياً حتى الآن ولا زالت أسيرة المشاورات التمهيدية واللقاءات السرية. والثاني وهو مرتبط بالأول وهو ألا تتعارض هذه الرؤية الموحدة مع بديهيات الأمن القومي المصري والعربي من وجهة نظر القاهرة".

اختلاف في الرؤى

بدوره، يقول مصدر دبلوماسي آخر "الحديث عن توتر العلاقات المصرية-السعودية لأسباب منها موقف مصر ورؤيتها المختلفة مع الرؤية السعودية إزاء الأزمة السورية ليس كله صحيحا، فأساساً العلاقات المصرية السورية لم يكن معيار ازدهارها أو تراجعها هو مدى حُسن أو سوء علاقة مصر بالسعودية، وحالياً الأمر يرجع لإعادة ترتيب العلاقات بين الرياض والقاهرة منذ بداية العام الحالي، وفي ظل متغيرات داخلية في البلدين في منطقة تعجّ بالتغيرات (..) هناك محاولة لبحث صيغة مصرية-سعودية مشتركة لمسألة عودة العلاقات، هذه الصيغة من المفترض أن تضمن مصالح البلدين تجاه سوريا، سواء موقف مصر تجاه التقسيم وانهيار الدولة، أو موقف السعودية الساعي إلى إسقاط نظام الأسد".

وعن هذه الصيغة شبه المستحيلة ظاهرياً، يرى أن "ذلك ليس أمرا مستحيلا، فمثلاً هناك توافق مصري سعودي تجاه دمشق بشكل سلبي منذ عام 2005، هنا كان الموقف مبنيًّا على أساس تعميق الأخيرة لعلاقاتها بإيران، وهو الأمر الذي أقلق الحليفين فيما كان يُعرف بمحور الاعتدال، فتبنوا موقفا شبه موحد..هذا تجلى بشدة في حرب تموز2006. ولكن مع تضاعف السبب الأساسي لموقف القاهرة والرياض، وفي ظل التغيرات الحادثة في المنطقة، لم يصل الحد إبان عهد مبارك إلى قطيعة بين القاهرة ودمشق، لم تصل الخلافات إلى سحب سفير؛ وهنا يمكن إيجاد آلية مشابهة لموقف سعودي-مصري واحد أو على الأقل متقارب تجاه الأزمة السورية سواء كان موقفا جيدا أم لا، حسب رؤية مختلف الأطراف، وفي الوقت نفسه يتجاوز النقاط الخلافية والتي منها بالنسبة لمصر وحدة أراضي سوريا وعدم إسقاط الدولة واستمرار العلاقات بين البلدين وعودة العلاقات الدبلوماسية".

وبخلاف مسألة عودة العلاقات الدبلوماسية إلى سابق عهدها التي تُعد من بديهيات الحديث عن عودة العلاقات بين دمشق والقاهرة، فإن التباين بين الأخيرة والرياض بشأن الأزمة السورية طبقاً للتصريحات السابقة يعد السبب الرئيس لتأخر عودة العلاقات الدبلوماسية، التي هي مكمل لهرم العلاقات بين مصر وسوريا على مستوى مؤسسات الدولة سيادية وأمنية وعسكرية، والتي لا يخفى للكثير أنها مستمرة، وتفسر أيضا التباين الحالي بين الرياض والقاهرة، الذي زاده التحول في الموقف السعودية بعد تولية الملك سلمان الذي بدا أن منظومته ترتب سياستها الخارجية وفق محددات تتعارض مع مصلحة الدولة المصرية بمؤسساتها، والتي منها التحالف مع قطر وتركيا من بوابة تقاطع المصالح والرؤى في سوريا والعراق وإعادة الاعتبار لجماعة الإخوان، والتوافق الودِّي بين هذه الأطراف في اليمن وليبيا، وفي الأخيرة جاء الموقف السعودي مضادًّا لمصلحة القاهرة، فدعمت الرياض الخصم السياسي للنظام المصري الذي بنى شعبيته ومشروعيته على الإطاحة بالجماعة، ما جعل الأزمة السورية على أولويات أجندة النظام الجديد، سواء لاعتبارات أصيلة كالأمن القومي المصري، أو فرعية مثل المناورة تجاه الموقف السعودي الجديد بطرح رؤية مختلفة عن رؤية الرياض والسير فيها، والذي تجلى في رعاية القاهرة لحوار بين أطياف من المعارضة السورية.

والمتغيرات الراهنة على الوضع السابق ذكره، والمتمثلة في المبادرة الروسية التي ملمحها الرئيس تحالف عربي-روسي لمحاربة داعش يتضمن مشاركة السوريين، قد ساهمت في حلحلة تعقيد المشهد بين مصر والسعودية فيما يخص سوريا، إذ أن السعودية لا تجد أمامها أفضل من القاهرة لدور الوسيط الإقليمي المقبول لدى سوريا وطرف غير متورط في الأزمة السورية، بالإضافة إلى اشتراط موسكو لإشراك القاهرة في أي مسعى مشترك مع السعودية في الأمر نفسه، وهو ما تلقفته القاهرة في الأسابيع الماضية وبدأت تمهيد الطريق لهذا الدور المتوازن.

الخلاصة أن مؤشر العلاقات المصرية السورية تتوافر له الآن في ظل هذه المعطيات السابقة كل عوامل الارتفاع، على عكس ما يبدو ظاهرياً من علامات استفهام خاصة بالعلاقات الدبلوماسية المتراجعة حتى كتابة هذه السطور، وعلى المستوى الثنائي بين البلدين هناك عملية تمهيد سياسية وإعلامية لإعادة العلاقات وبالحد الأدنى لمستواها الطبيعي، بخلاف تبلور ظرف إقليمي يجعل من مسألة عودة العلاقات ضرورة أكثر من كونها مسألة إرادة، فحتى بالنسبة للرياض وموقفها المعادي للدولة السورية فقد اتضح بعد ما يزيد عن 4 سنوات أن السياسة السعودية فشلت ونتج عن فشلها أخطار رُدت إليها، وهو ما يعني أن المبادرة الروسية في سياق مشاركة الدولة السورية أن على الرياض إدارة حوار مع دمشق، إحدى وسائطه هو القاهرة، التي لديها بالفعل دوافع خاصة لتفعيل هذه المبادرة التي تتوافق بشكل مبدئي مع مصلحتها.

2015-09-17