ارشيف من :آراء وتحليلات

أوكرانيا فقدت أهميتها الاستراتيجية لدى الغرب

أوكرانيا فقدت أهميتها الاستراتيجية لدى الغرب

تسلط الصحافة ووسائل الاعلام الغربية الضوء بشكل خاص على الجوانب السياسية والأمنية والعسكرية للأزمة الأوكرانية، في محاولة منها لزجِّ هذه الازمة ضمن مربع محضّـر سلفا وهو ان هذه الازمة هي ازمة صراع بين روسيا وأوكرانيا التي تطمح الى "التحرر" من الهيمنة الروسية.

وبلغت الوقاحة السياسية والروحية الاجرامية لدى الحكومة الانقلابية الأوكرانية واسيادها الغربيين الى حد اسقاط الطائرة الماليزية المنكوبة وقتل جميع ركابها الـ 298 في 17 تموز 2014 فوق شرق أوكرانيا، فقط بقصد اتهام روسيا وحلفائها الاوكرانيين بارتكاب هذه الجريمة النكراء.

روسيا ستضرب ضربتها القاضية في الوقت المناسب

وعلى الرغم من ان روسيا لا تزال تمارس سياسة ضبط النفس وتمتنع حتى الان عن توجيه ضربتها القاضية الى أوكرانيا، بقطع الغاز الروسي المصدر اليها او المار عبرها "ترانزيت" الى أوروبا، وهو ما قد يحدث في الشتاء القادم، فإنه من الضروري إلقاء نظرة على الجانب الاجتماعي ـ المعيشي، وانعكاساته السياسية، في الازمة الأوكرانية. فمن دون ذلك يتعذر ان نفهم الاسباب الحقيقية لهذه الازمة والى اين تتجه.

أوكرانيا فقدت أهميتها الاستراتيجية لدى الغرب

وفي الاسبوع الماضي صادق البرلمان الاوكراني (الرادا العليا) على قرار الحكومة بزيادة استثنائية للأجور والرواتب التقاعدية وغيرها من المدفوعات الاجتماعية. وسيستفيد من هذه الزيادة 12 مليون مواطن اوكراني.
 
وتقول تلك الاستطلاعات ان 65% من المواطنين العاديين يعتبرون ان الأولوية يجب ان تكون لمكافحة الفساد المنظم، و58% يعطون الأولوية للإصلاح الجذري في النظام القضائي: الشرطة، المحاكم والادعاء العام. و40% يرون ضرورة اجراء تغييرات في أنظمة الضمان الاجتماعي و36% في أنظمة الضمان الصحي. ومن اللافت ان 17،8% فقط يعطون الأولوية لاقرار لامركزية السلطة، و11،5% للإصلاحات المتعلقة بالإدارة المحلية.

وقد قام بهذا الاستطلاع صندوق "المبادرات الديمقراطية" و"مركز رازومكوف".

وأوضح علماء الاجتماع انه بعد مرور سنة ونصف السنة على فرار يانوكوفيتش وقيام السلطة الجديدة فإن 48% من المواطنين لا يرون حدوث أي تغييرات إيجابية. وقد نشأت حالة استقطابية في الموقف من الرئيس الانقلابي بيوتر بوروشينكو، فهناك 37% يرون انه حرك عملية الإصلاح في الدولة، بينما يرى العكس تماما 39%. وهناك رقم قياسي ـ 96% ـ من المواطنين اعترفوا انه بهذا الشكل او ذاك فإن الأزمة المالية ـ الاقتصادية الأوكرانية قد انعكست عليهم بشكل سلبي  

تفاقم الفقر لدى ثلاثة ارباع السكان

واعتبر ثلاثة ارباع المواطنين ان التأثير السلبي على ميزانية العائلة حصل بسبب زيادة الرسوم على الشبكات العامة للخدمات السكنية. والنسبة ذاتها من المواطنين وجدوا انفسهم مضطرين أيضا للتوفير في شراء الملابس والاحذية. و67% صاروا مضطرين للتوفير في شراء المواد الغذائية، و55% مضطرين للتوفير أيضا في شراء الادوية واخذوا يتخلون عن الخدمات الطبية.

72% يتهمون السلطة بالفساد

ويعتبر 30% من المواطنين ان السبب الرئيس لهذا الوضع البائس هو العمليات العسكرية في الدونباس. فيما 12% فقط يتهمون روسيا بعرقلة الاصلاحات الأوكرانية. وترى غالبية المواطنين أن السبب الرئيس في جوانب أخرى: 72% يرون السبب في نظام السلطة الفاسد، و54% يرونه في الاقتصاد الاوليغارشي، و47% يرونه في عدم أهلية القيادة السياسية للبلاد.

وقبل سنة عبرت غالبية المواطنين عن الاستعداد لتحمل المشاق من اجل تحقيق الإصلاح، اما الان فإن 36% فقط اعلنوا موافقتهم على تحمل تخفيض مستوى المعيشة للقيام باصلاحات مستقبلية ناجحة في البلاد. واعلن 28% انهم قادرون على الصمود سنة أخرى فقط، اما نسبة الثلث فأعلنوا انهم لم يعودوا قادرين على العيش.

تفكك الائتلاف الحاكم

وهذا الوضع أدى خلال الصيف المنصرم الى نمو الرصيد السياسي للمعارضة الحالية المتمثلة بالدرجة الأولى في "حزب الاقاليم" الذي كان يتزعمه فيكتور يانوكوفيتش الرئيس السابق الذي تم الانقلاب ضده في 21 شباط 2014 والفار الى روسيا، ويليه حزب "باتكيفششيينا" (الوطن) الذي تتزعمه رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو، وهو حزب يندرج في اطار الائتلاف الحاكم المعادي لروسيا. ونمت بسرعة شعبية السياسيين الذين توجهوا بالانتقادات الى نشاطات الحكومة، وتكلموا عن افقار الشعب ووعدوا بالعمل لاجل تخفيض الرسوم وزيادة الأجور والمعاشات التقاعدية.

ويقول موظفون كبار انه من المشكوك فيه تنفيذ الزيادة المنصوص عنها في ميزانية الدولة، والمقرر البدء بتطبيقها في كانون الأول القادم.

وفي مقابلة تلفزيونية في 17 أيلول الجاري قال رئيس الوزراء ارسيني ياتسينيوك "ان زيادة الاجور والمعاشات التقاعدية والمدفوعات الاجتماعية الأخرى ستبلغ في المتوسط 13%". وهذا يعني ان المتقاعدين والعمال والطلاب سيحصلون على زيادة تتراوح بين 200 ـ 500 غريفنا اوكرانية، مما يعادل 9 ـ 25 دولارا بسعر الصرف الحالي. وبحسب رأي الخبراء فإن هذا لن يؤثر كثيرا على مستوى معيشة الاوكرانيين، "فعلى خلفية التضخم فإن الزيادة المقررة ليست اكثر من لفتة رمزية. ومن الواضح ان الهدف الرئيس لقرار الحكومة هو هدف سياسي، وهو بالتحديد التأثير على المزاج الشعبي عشية الانتخابات المحلية" كما صرح لجريدة "انباء الريف" فاسيلي يورتشيشين مدير البرامج الاقتصادية في مركز "رازومكوف".

السلطة الانقلابية تدور في حلقة مفرغة

والواقع ان الحكومة الانقلابية الأوكرانية تدور في حلقة مفرغة. وتُسمع اكثر فاكثر التصريحات التي تقول ان ما تسميه الحكومة إصلاحات في أساس زيادة الرسوم، ما هو إلا نتيجة للازمة، التي تبدو الحكومة عاجزة عن تسويتها. ومنابع الازمة، كما يستنتج من  استطلاعات الرأي، هي التي يحددها المواطنون. وتلاحظ ايرينا بيكيشكينا مديرة صندوق "المبادرات الدمقراطية" "ان الاوكرانيين يرون اسباب الازمة بالدرجة الأولى في العوامل الداخلية، ومن بينها يحددون نشاط القوى السياسية، المدعوة للقيام بالإصلاحات". اما السلطة فتلصق كل المشاكل بروسيا. وبالنتيجة تشكلت حالة مواجهة داخلية في اوكرانيا.

وحسبما صرح لـ"الجريدة المستقلة" الروسية سيرغيي تاران رئيس "المؤسسة الدولية للدمقراطية"، فإن استطلاعات الرأي تبين بالدرجة الأولى ان الاوكرانيين قد تعبوا، ولكنهم لم يفقدوا الامل. وقال "اثناء الحروب في أي بلد في العالم فإن مستوى المعيشة ينخفض. ويوجد عندنا الان ... الوضع الحربي في الدونباس، وخسارة السوق الروسية التي كانت سوقا تقليدية للسلع الأوكرانية. وبالطبع ان الاقتصاد انهار. ولكن التعبير عن الاستياء من الوضع لا يعني فقدان الثقة بالسلطة".

وصرح الخبير الاقتصادي الكسندر جولود انه في الفترة الأخيرة، وعلى خلفية المشكلات الاقتصادية اشتدت الميول الجذرية لدى الاوكرانيين. وفي رأيه: ان الاحتجاجات ممكنة، والناس يمكن ان يفرضوا اجراء تغيير في قيادة الحكومة. ولكننا لا نريد "ميدانا آخر" والتحول نحو الثورة ("الميدان" هو التسمية التي اطلقت على ساحة الاعتصامات التي تجمعت فيها المعارضة في اخر عهد يانوكوفيتش. ومنه انطلق الهجوم على البرلمان وتم الانقلاب في 21 شباط 2014).

وحسب رأي هذا الخبير فإن الصراع بين النظامين القديم والجديد (أي الانقلابي) في أوكرانيا لا يزال قائما. ونتائج استطلاعات الرأي لا تدل على عدم الثقة بالحكومة، بمقدار ما تدل على حاجة المجتمع الاوكراني الى الإصلاحات.

روسيا لن تتساهل بعد الان

وفي الوقت ذاته صرح رئيس الوزراء الانقلابي ارسيني ياتسينيوك انه يتوجب على روسيا ان تعيد جدولة الدين الاوكراني في حدود 3 مليارات دولار وان تشطب القسم الباقي. وقال محذرا: يجب ان تقبل روسيا بهذا العرض، والا فليس لدينا عرض آخر لروسيا...، كما نقلت عنه وكالة "ريا نوفوستي" الروسية.

وقبل ذلك كان وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف قد صرح في 7 أيلول الجاري ان الدين الروسي على أوكرانيا هو دين سيادي. وروسيا لا تشطب اي جزء من الديون السيادية. ونحن لن ندخل في مباحثات حول هذا الموضوع مع الجانب الاوكراني.

ويبلغ حجم الديون الخارجية لاوكرانيا 18 مليار دولار. وقد وافق الدائنون الاخرون على حسم 20% من قيمة ديونهم، وإعادة جدولة التسديد. ولكن روسيا رفضت الانضمام الى مباحثات إعادة الجدولة والتسديد والحسم. خاصة وان ديونها تمثل اثمان الغاز المصدر الى أوكرانيا بأسعار مخفضة جدا بالاصل.

أوكرانيا لن تستقر الا في اسفل الوادي

ويقول المحللون الموضوعيون ان الوضع الاقتصادي ـ المعيشي ـ الاجتماعي الاوكراني الحالي، كنتيجة وكسبب للنزاعات الداخلية والحرب الاهلية، يشبه صخرة تسقط من اعلى الجبل وتتحطم شيئا فشيئا على الصخور الأخرى، قبل ان تستقر بقاياها في اسفل الوادي.

وان اميركا ودول حلف الناتو والاتحاد الأوروبي (وباستثناء المبالغ التي تقدم لشراء ولاء القادة السياسيين والعسكريين والقوى السياسية الموالية للغرب) لن تقدم أية مساعدات مالية واقتصادية وعسكرية جدية الى أوكرانيا لانها فقدت اهميتها الاستراتيجية من وجهة نظر المصالح الغربية:

أولا ـ لانها فقدت مكانتها كجسر لتسريب السلع الغربية الى السوق الروسية، بفعل تطبيق روسيا للقطيعة الاقتصادية الكاملة مع أوكرانيا الانقلابية (باستثناء استمرار تصدير الغاز اليها وعبرها، مؤقتا).


وثانيا ـ لان أوكرانيا فقدت مكانتها الاستراتيجية العسكرية كدولة محاذية لروسيا، لانه بعد ان استرجعت شبه جزيرة القرم بطريقة سلمية وديمقراطية، فرضت روسيا سيطرتها العسكرية الكاملة ـ بحرا وجوا ـ على حوض البحر الأسود بمجمله. وبذلك فإن أوكرانيا أصبحت مطوقة من كل الجهات الشرقية والشمالية والجنوبية كالجوزة داخل كسارة الجوز. وحلف الناتو "يعرف حدوده" ولا يجرؤ ان يرفع اصبع بوجه روسيا لا في أوكرانيا ولا في البوسفور ولا في سوريا ولا في اليمن ولا في أي بقعة اخرى في العالم كله.
 

2015-09-28