ارشيف من :نقاط على الحروف
فلسطين والقاعدة واخواتها (الجزء الأوّل)
"كي تخلق وحشاً اسطورياً عليك دائماً أن تجند مُقنعين جيدين، وجمهوراً أحمق".
صن تزو (مفكر عسكري صيني قديم)
لم تحظ حركةٌ عسكرية/سياسية بمقدار ما حظيت به الحركات السلفية "التكفيرية" من تحليلات لمواقفها وبنيانها. تأتي تلك الحركات التكفيرية ذات شعاراتٍ أقرب إلى "الخلبية" منها إلى البنيان الحقيقي للشعار. وإذ أن القضية الفلسطينية تعتبر أساساً وشغلاً شاغلاً لسكان المنطقة، كان من الطبيعي أن يطرح التساؤل الهام: هل تشغل "فلسطين" بال تلك الحركات التي تدعي الجهاد؟ هل فعلياً تعتبر هذه الحركات تحرير فلسطين والقضاء على العدو الصهيوني –حكماً- أمراً أساسياً وبحتاً؟ أكثر من هذا، هل فعلياً يمكن الاعتماد على هذه الحركات كوسيلة لتحرير الأرض المقدسة ذات يوم؟
تأتي الدراسة التي خرجت عن مؤسسة أبحاث الدفاع النرويجية (إسنا) للباحثين توماس هيجهامر ويوآس وايجمايكرز للإجابة على هذا التساؤل العميق. يتناول الباحثان تلك العلاقة المشوبة بالغموض التي تربط بين "العابرين للحدود" وبين القضية المركزية للأمة . وإذ كانت أسس العلاقة مرتبطة أساسا برجلٍ يعتبر واحداً من أوائل القادة الأيديولوجيين لهذه التنظيمات ونعني به "عبدالله عزّام" فإن الأمور باتت أكثر تعقيداً هذه الأيام.
كان عزّام رابطاً ارتكازياً في علاقة تلك التنظيمات ببعض الحركات الجهادية في فلسطين كحماس وغيرها كونه فلسطيني الجنسية، نشط وعمل في الأراضي الفلسطينية حتى نفيه منها، أضف إلى ذلك كونه شخصيةً "محترمة" و "مقدّرة" لدى غالبية تلك الحركات. تظهر الدراسة أنه في البدايات تأثر تنظيم القاعدة –مثلاً- بحركة حماس، واستعمل أسلوبها في تسجيل أشرطة الفيديو لعملياتها، كما بدا أن هناك مشاعر للتعاطف تربطهم ببعض تلك الحركات (وكان هذا الأمر إلى حدٍ ما متبادلاً إذ أن كثيراً من أنصار حماس يتعاملون مع بن لادن باحترامٍ شديد ولا يلقبونه إلا بالشيخ المجاهد).
تبرز كلمة "فلسطين" من خلال الدراسة التي أجراها الباحثان هيجهامر وايجمايكرز بما لايقل على 158 مشاهدة في عملية تجميع لنصوص تنظيم القاعدة (ما بين عامي 1990 و2002)، باختصار إذاً إن فلسطين حاضرة وبقوة في "بروباغندا" التنظيم، وكانت كذلك لأكثر من عقدٍ من الزمن. ذكر أسامة بن لادن منذ العام 1990 بالقضية الفلسطينية، وغالباً ما أضاف إشاراتٍ إلى المسجد الأقصى والقدس وأدغمها في خطاباته، وهي أمورٌ من الطبيعي أن تضرب على الوتر الحساس لجموعٍ عربية تشعر بالانتماء لهذه القضية، والرغبة بتحرير تلك الأرض من الاحتلال الصهيوني.
أكثر من ذلك اعتبرت "فلسطين" السبب الثالث الذي يبرر لتنظيم القاعدة الجهاد (بعد قتال الأميركيين في السعودية والعراق)، في أهم بيان أيديولوجي لتنظيم القاعدة ونعني به "إعلان الجبهة الإسلامية العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين"(الصادر في شباط 1998). ويبدو أن حضور فلسطين ارتبط كثيراً –ولربما شخصياً- ببن لادن، إذ أن المنظرين العالميين –اللاحقين- للتنظيمات العابرة للقارات هذه لم يولوا الموضوع اهتماماً بحتاً إذ أنَّهم وإن "استحضروا" محنة الفلسطينين كانوا في بعض الأحيان يهدفون للتعليق مثلاً على السياسات الداخلية الفلسطينية أو لمهاجمة "حماس" مثلاً (يذكر أن "منبر التوحيد والجهاد" وهو أكبر مكتبة للنصوص الجهادية على الانترنت فيه نصوص مكرسة لانتقاد حماس وتكفيرها أكثر بكثير من تلك المتحدثة عن الصراع العربي الصهيوني).
اين تقع فلسطين في سلم اولويات القاعدة ؟
الجذور الأولى: تنظيم القاعدة:
يطرح ههنا سؤالٌ . بالتأكيد، قام تنظيم القاعدة بتبني العديد من الهجمات التي طاولت شخصياتٍ وأهدافٍ صهيونية حول العالم (مقتل الحاخام مائير كاهانا على يد الإسلامي المصري السيد نصير 1990، وتفجير المدرسة اليهودية في ليون فرنسا من قبل الجماعة الإسلامية الجزائرية المسلحة في 1995 مثالاً)، فهل يعد هذا مثالاً على أنَّ التنظيم "تبنى" بشكلٍ فعلي "القضية" الفلسطينية والانتقام من "محتليها ومساعديهم"؟
الحقيقة أن البحث يكشف كيف أن هذه العمليات (وغيرها) لم تحدث أساساً بالتنسيق مع قادة التنظيم، بل كانت بغالبيتها تحركاتٍ "فردية" أو "مجموعاتية" في غياب أي تواصل مع التنظيم الرئيس، أكثر من هذا فإنَّ هذه الأهداف بمجملها هي أهداف "سهلة" نسبياً، فليست ذات طابع عسكري، أو يتوفر لها حماية "أمنية" من نوعٍ ما (بالتالي حكماً لا يحتاج التنظيم إلى إجراء أبحاث مطولة ومعقدة للوصول إليها). إذاً منطقياً لماذا كانت هذه التنظيمات تنادي بالقضية الفلسطينية في خطاباتها؟
ببساطة شديدة، إن استعمال القضية الفلسطينية هو سلاح "بروباجندا" ناجعٌ وسريعٌ للغاية في تحقيق النتائج فتشير الدراسة إلى أن القضية الفلسطينية تعتبر "دافعاً معلناً" للانضمام إلى التنظيم (القاعدة)، ووفقاً لتقرير 11 أيلول (إثر تدمير برجي مركز التجارة العالمي) الأمني الأميركي، كانت القضية الفلسطينية مستحوذة على العديد من الذين عملوا ونشطوا وشاركوا في تلك الهجمات. يؤكد هذا الكلام أبرز مسؤولي وكالة الاستخبارات الأميركية والقادة العسكريين الذين عملوا وتابعوا تنظيم القادة ومجموعة من التنظيمات الإرهابية/التكفيرية في السابق مثل مايكل شوير (الرئيس السابق لوحدة بن لادن في CIA)، بروس ريدل (المحلل المخضرم في الوكالة ونائب وزير الدفاع السابق)، بول بيلار (الرئيس السابق لمركز الاستخبارات المركزية لمكافحة الإرهاب)، الجنرال دايفيد بترايوس (القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية والمدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية)؛ يؤكد هؤلاء كثيراً على أهمية الدور "الجاذب" الذي تشكله القضية الفلسطينية لمصلحة هذه التنظيمات. يضاف إلى كل هذا الوثائق الداخلية والتي تم الحصول عليها بعد المداهمات التي تمت للمجمعات والمنازل الآمنة التي كان يقيم فيها بن لادن (كما في منزله في أبوت آباد في الغارة في 1 أيار 2011): تصر تلك الوثائق على قادة التنظيم التحدث عن القضية الفلسطينية والإهتمام بها، ذلك أنها ستزيد الدعم الشعبي لتنظيم القاعدة.
وفي هذه الفكرة نقاشان بالتأكيد: أولهما أن ابن لادن –شخصياً- كان معنياً بالقضية الفلسطينية وبرز ذلك في استعداده (البائن في الوثائق) لتكريس المواد اللازمة لذلك. ثانيهما أن هذا التركيز هو ببساطة لأن الرجل كان يعتقد بأن المجندين المحتملين مهتمون كثيراً بفلسطين، بحيث يتم إقناعهم بأنَّ هذه القضية هي من القضايا الأساسية بالنسبة للتنظيم الذين سينتمون إليه.
في ختام الجزء الأوّل من هذه القراءة، يبدو أن تنظيم القاعدة –وحتى اللحظة- استعمل القضية الفلسطينية كمطية لعمله وأهدافه الشخصية؛ وإذ أن المنضوين تحت لواء التنظيم (بشكله المباشر أو عبر أذرعه المتعددة) لم يفهموا سر "التداخل" و"التباعد" بين القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا (التي اعتبرتها القاعدة أساسية و"مقدسة" فدخلت الأمور في سياقٍ من المجهول لا يمكن أبداً فهمه إلا بالتحليل الكثير والمتابعة الدقيقة.