ارشيف من :نقاط على الحروف
عن الهبة الحالية : فلسطين تنتصر
"الأرق، الأرق، الأرق،
سيقتلك الأرق،
ولن ترتاح أبداً
إذا ما دخلت هذه البلاد"
قصيدة هايكو يابانية قديمة
ستعتقل قوات الاحتلال الكثيرين، ولا ريب أنَّ "حل" إعادة فتح سجونٍ جديدة، كالتي حكي عنها الكثير قبل أعوامٍ في الإعلام العبري، ستعود لتطفو على سطح الجو العام. كل ذلك لن يحل مشكلة "الهبة" الفلسطينية. سيلجأ الإعلام العبري إلى "الكذب" وهي عادةٌ سهلةٌ عليه –وللغاية- ابتدعها رئيس الوزراء الصهيوني الأوّل بن غوريون، حينما طلب إلى جميع رؤساء الصحف وكبار الصحافيين في البلاد إبان فترة حكمه "تعديل" الأخبار بما يناسب مصلحة الدولة العليا، لكن ما فعله أولئك "الإعلاميون" كان مدهشاً للغاية، أقاموا وللمرة الأولى "رقابةً" ذاتية على أنفسهم، وعلى ما ينشر لديهم، ليصبح الكيان العبري الدولة الوحيدة في العالم التي لم تكن بحاجة الى جهاز "رقابة" على الإعلام يدار من قبل الدولة.
لن يكفي الكذب وحده كي تبقى "وحدة الدولة" في مكانها، هذا أمرٌ مؤكد، لا بل وإن المؤكد أكثر، أن أخبار عمليات "الضرب بالسكين" و"الدهس بالسيارة" و"الطعن بالمفك" ستصل إلى المشاهد/المستمع المنتظر القابع في بيته، ولن تنفع كل "محاولات الطمأنة" التي سيجري تمريرها مراراً وتكراراً على كل وسائل الإعلام من تأكيد أن "الأمن مستتب" وأن "الوضع آمن" كي تعيش حياتك بهدوء. يعرف الصهيوني الأمر تماماً، ومتأكد منه. لا يعرف كثيرون كيفية تقسيم المجتمع العبري، حيث إنه خلال السنوات الفائتة (قرابة العشرين عاماً) سيطر الحريديم (المتدينون) على السلطة تماماً، تنبهوا لما يحدث حولهم فسيطروا بكل الوسائل على مفارق الدولة ومصادر قوّتها، أما البقية الباقية من "الشعب"(بافتراض أنه شعب أصلاً) فلم تعد أكثر من الشاة التي يتم تسمينها كي يتم "حلبها" ضرائباً وما شابه. باختصار، إن ما قام به الحريديم خلال هذه المدة الزمنية مدهشٌ للغاية: لقد حولوا الجيش كما الكنيست كما كل قوى الأمن والشرطة إلى أداةٍ دقيقةٍ بيدهم، لذلك بات الاستيطان كما الاحتلال كما القمع المتوحش لأي "فلسطيني/عربي" من الداخل الفلسطيني (أراضي الـ48) أو الضفة، أو القطاع.
لن ترتاح ابدا اذا ما دخلت هذه البلاد...
عمل هؤلاء على تحويل الدولة من شكلها الذي دأب العلمانيون الصهاينة على رسمه في عقولهم منذ أيام ثيودور هرتزل ومناحيم بيجن وصولاً حتى آرييل شارون لتكون دولة ذات شكل علماني تحاول أن تشق طريقها في بحرٍ من الأعداء، لكن على الأقل تحاول قدر الإمكان تحييد الخطر الداخلي-المحلي، لذلك تم مثلاً اعطاء كثير من المكتسبات للبدو في النقب(وسواها) وخصوصاً من يرغب منهم بالانتماء إلى الجيش العبري، الأمر نفسه مع الطائفة الدرزية التي سعوا بكل الوسائل لجعلها طريقهم الأبرز للوصول إلى "القرب" من جناحٍ عربي. كل هذا لم ينجح رغم كل الجهود التي بذلت فيه. رفضت أجنحةٌ كثيرة من الدروز التعامل مع الصهاينة، وبقي المتعاملون معهم قلة يعدون على الأصابع، الأمر ذاته انطبق على كثيرٍ من القبائل البدوية التي اعتبرت التعامل مع الصهاينة "محرم" قبل أي شيء. في خلاصة الأمر أوصل الحريديم الدولة إلى طلاقٍ كامل ومباشر مع الوجود العربي وبشكلٍ قاطع في فلسطين.
فالدولة "المدنية"/"العلمانية" التي كان الصهاينة يتباهون بها مراراً وتكراراً ليست أبداً أكثر من دولةٍ "متطرفة" تكره الآخر وترغب لا بقتله فحسب، بل وبتشريده وتقطيع أوصاله إذا ما تمكنت من ذلك، ومن هنا تلك الأحكام القانونية المتوحشة والمجنونة تجاه الفلسطينين (يمكن لفلسطيني يقبض عليه حاملاً لسكين أن يسجن لأكثر من عشرين عاماً مثلاً، حتى ولو كانت تلك السكين غير مسنونة، أو حتى سكين مطبخ صغيرة لا تنفع لجرح أحد).
يضاف إلى هذا كله العمليات التي تفوق حتى الخيال التي يقوم بها المستوطنون الصهاينة تجاه الأطفال الفلسطينين قبل غيرهم. فحادثة شهيد الفجر محمد أبو خضير تشي بالصورة كاملةً. أعقب استشهاد الفتى الصغير (15 عاماً) هبةٌ مماثلةٌ للتي تحدث اليوم، وإن كانت ذات تركيبٍ مختلف، كانت الهبة آنذاك مرتبطة بردة الفعل على استشهاد طفلٍ صغير بطريقةٍ أقل ما يقال عنها أنها "وحشية" للغاية. كان إجبار الصبي الصغير على ابتلاع البنزين ثم إشعاله أمراً يفوق الاحتمال والمنطق في آنٍ معاً، لذلك كانت الهبة. أما هذه المرة، فإن الأمر يتخطى مسألة العلاقة مع استشهادٍ لطفل(وحتى حينما أحرقت عائلة الدوابشة وحدثت هبةٌ صغيرة مماثلة، هذه المرة يختلف الأمر اختلافاً قطعياً). فالهبة هذه الأيام، تتسع بشكلٍ اطرادي واضح، فضلاً عن أنه ولأول مرةٍ نجد طبقاتٍ أخرى من المجتمع تشارك وبفاعلية كبيرة، حيث شاهدنا خلال المرات السابقة شباناً يرشقون الصهاينة بالحجارة وقنابل المولوتوف، لكننا نشاهد هذه المرة فتياتٍ يفعلن ذلك، وهي ليست المرة الأولى بالتأكيد، ولكنها أيضاً تنبّه أنه حينما تشارك المرأة الفلسطينية في الأمر، فهذا يعني أن ضوءاً أحمراً قد بدأ يدق وبعنف أمام الدولة العبرية.
وجود الفتيات في المواجهات لا يفهمه الصهيوني جيداً، هو في كثيرٍ من الأحيان يعتقد أن اعتقال هؤلاء الفتيات سيجعل الشبان يتراجعون، أو أنه سيمنع هؤلاء الفتيات من العودة للنزول، حتى إنه قد يرسل "مجنداته" لكسر همة "راميات الحجارة". ذلك لن يثبط عزيمتهن أبداً، لماذا؟ لأنه ببساطة تبدو البنية المعنوية الفلسطينية تختلف هذه المرة. لقد مل هؤلاء الشبان من كثير من الألعاب التفاوضية، والسياسية، وكل ما لا يفهمونه كثيراً، أضف إلى ذلك أنّهم وجدوا أن هذا العدو وإن كان "شديد التوحش" يخشاهم، يخافهم إذا ما كانوا كثرة.
فكرة "التوحش" هذه قادت هؤلاء الشبان/الفتيات إلى فهم طريقةٍ جديدة للتعامل مع العدو، نكون أقوياء معاً، نضعف إذا ما تفرقنا، من هنا شاهدنا أن التحركات تكون "حشوداً"، لذلك كان لجوء العدو إلى أحد أشد أسلحته فتكاً: وحدة المستعربين. لا يستخدم الجيش العبري المستعربين –كما يعتقد كثيرون- إبان كل مظاهرة أو هبة، هو لا يستعملها أصلاً إلا حينما تشتد الأمور، ولا يجد بديلاً عن ذلك. يدرك الصهاينة أنه في حال نزلت هذه الوحدة على المظاهرات وقبضت على أحد، فإن وجوهها ستصبح محروقة ومكشوفة، لذلك فإنها تلجأ لإبقائهم كآخر الحلول. من يتابع صور المواجهات البارحة يمكنه بسهولةٍ إدراك أن وحدة المستعربين كانت تعمل بنشاطٍ بالغ، وقد يعتقد المشاهد أن ذلك دليل صحة، وأن الجيش والأمن الصهيونيين يعملان بكفاءة، هذا الأمر ليس صحيحاً أبداً، فنجاح هؤلاء "القتلة" في القبض على بضعة شبان يعني أنهم أصبحوا مكشوفين لعدد آخر غيره، فقد تم تصويرهم، وحفظ أشكالهم وأشكال أجسادهم من قبل المتظاهرين/المواجهين، من هنا لن يستعملوا مرة أخرى إلا بعد حين.
باختصار؛ تختلف الهبة هذه المرة، وحتى ولو قصر عمرها –أو توقفت بعد مدةٍ معينة- (هي في اليوم السادس حالياً)، ذلك أن الهبة اللاحقة ستكون قريبة، والهبة التي بعدها ستكون أقرب فأقرب، وهكذا دواليك، ولن يجد الصهيوني أمامه في لحظةٍ ما إلا قنابل فلسطينية موقوتة تنتظر الإنفجار في وجهه، ولن يكون أمامه ساعتها إلا الرحيل أو الانتحار.