ارشيف من :ترجمات ودراسات

النظام العالمي الجديد يبدأ من دمشق

النظام العالمي الجديد يبدأ من دمشق

الكاتب  :   Laid SERAGHNI
عن موقع  :   Réseau International
7 تشرين الأول / أكتوبر 2015

إذا سقطت سوريا، ستكون روسيا مهددة بوحدة ترابها. إضافة إلى ما يعنيه ذلك بالنسبة لها من إذلال ديبلوماسي، وما قد يؤدي إليه من تمزق على مستوى الاتحاد الروسي. فالأحداث التي تشهدها سوريا حالياً ليست متصلة بحال من الأحوال، بدمقرطة المجتمع  ولا بالعمل من أجل حرية السوريين. ما يجري هو محاولة من قبل الولايات المتحدة وجمهرة أتباعها الأوروبيين الكواسر لفرض نظام عالمي جديد مقابل عالم يمكن لبلدان أخرى، في طليعتها روسيا، أن تحقق فيه مزيداً من المشاركة في إدارة الشؤون الدولية التي استبعدت عنها منذ عقود من الزمن.

الصورة الجيوسياسة الجديدة للعالم تمر اليوم بدمشق. وعليها يتوقف مصير روسيا.

فعلى خطى كاترين الثانية (1) التي كانت تقول بأن "دمشق تمسك مفتاح البيت الروسي"، يعلم بوتين جيداً أن "دمشق هي مفتاح عصر جديد".
منذ انطلاق حركة الاحتجاج في سوريا، قررت روسيا بدعم من الصين وإيران تحديداً إفشال كل مسعى لتغيير النظام، لأنها كانت مقتنعة بأنها ستكون ذات دور من الدرجة الثانية وسيحيق الخطر بوحدتها الترابية فيما لو نجحت المخططات الغربية.  
لذا، اتخذت روسيا موقفاً حازماً منذ بداية الأزمة وعارضت كل تدخل عسكري رغم جميع الضغوطات التي مورست من خلال مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة والجامعة العربية. كما رفضت بشكل صارم كل محاولة لإعادة إنتاج السيناريو الليبي أو اليمني.

ويبدو أن الغربيين لم يفهموا أسباب الموقف الروسي عندما اعتبروا أن ما يهم موسكو في سوريا هو مصالحها الاقتصادية والمحطة اللوجستية لأسطولها الحربي. فالحقيقة أن مرفأ طرطوس وعقود التسلح الروسية مع سوريا لا تكفي، مع كونها تشكل رهانات استراتيجية روسية في المنطقة، لخوض صراع مرير بهدف الحيلولة دون سقوط الدولة السورية. وهذا ما يؤكده جزئياً مدير مركز التحليل الخاص بالتكنولوجيا والاستراتيجيات، موسكو رسلان بوكوف حيث يقول: "من الخطأ الفاحش أن نظن أن روسيا تدعم دمشق من أجل بيع الأسلحة. هذا خروج كامل عن الموضوع".


بعيداً عن نشر الحرية وتعزيز الحريات، فإن المستهدف هو الدور المقاوم لسوريا. فبدعمها لحركات المقاومة في فلسطين ولبنان، أجهضت جميع المشاريع الأميركية الهادفة إلى إقامة الشرق الأوسط الكبير الذي سيشهد تفتت الدول العربية وخضوعها للإملاءات الإسرائيلية. ومن جهة أخرى، فإن تحالفها الاستراتيجي مع إيران قد عزز مواقع المحور المضاد للمشاريع الأميركية في المنطقة.  
لماذا لا تنظر روسيا بعين الرضا إلى انتصار قوى العدوان في سوريا؟ إذا سقطت سوريا، فإن تهديدات جدية ستحيق بروسيا وأبرز هذه التهديدات هي :


أ – على الصعيد الاقتصادي


يعلم بوتين جيداً أن بلده لا يمكن أن يطمح لاحتلال موقع القوة العظمى إلا عبر تقوية قوته العسكرية انطلاقاً من قوته الاقتصادية وعدوانية سياسته الخارجية الهادفة إلى امتلاك نفوذ حقيقي على المستوى الدولي. وهو يعلن عن طموحاته بقوله : "علينا ألا نسمح لأحد بأن يطمع فينا عبر السماح لأنفسنا بأن نكون ضعفاء".

النظام العالمي الجديد يبدأ من دمشق


يتمتع العامل الاقتصادي بأهمية حاسمة في تكوين القوة. فإذا انتصرت المعارضة السورية، فإن ذلك يعني أن الحرب الشرسة من أجل السيطرة على مصادر الطاقة ستنتهي لصالح الولايات المتحدة وحلفائها وستسمح لهم بأن يمدوا نفوذهم من سوريا وصولاً إلى أستراليا. وسينجم عن ذلك إجهاض البرنامج الطموح لبناء اقتصاد عالمي قوي قائم على التنمية الاقتصادية المستندة إلى تقليص تبعية الاقتصاد للمواد الأولية وللتجديد المرتهن للتكنولوجيا الفائقة التطور.   


ففي مقابلة أجرتها معه بي بي سي، قال دوغلاس ماك ويليامز، رئيس مركز الأبحاث البريطاني (CBER) : "ستحتل روسيا المرتبة الرابعة بين كبريات القوى الاقتصادية في العالم في حدود العام 2020. لكن مصادر تمويل هذا التقدم الروسي، وهي مصادر تأتي بشكل أساس من تصدير الغاز، ستتعرض للخطر. فعائدات شركة غازبروم التي تسيطر على أكثر من 80 بالمئة من إنتاج هذه المادة وصلت، في العام 2011، إلى 118 مليار دولار. لذا، فإن الحيلولة دون وصول هذه العائدات إلى المستوى الذي يريده الروس يجعل من الضروري، بالنسبة للأميركيين وحلفائهم، أن يعرقلوا تصدير الغاز الروسي نحو أوروبا عبر خطي الأنابيب، الجنوبي والشمالي، التي تقوم روسيا بإنشائهما حالياً بينها وبين أوروبا. وكان من المفترض أن يتم تزويد أوروبا بغاز بحر قزوين عن طريق خط نابوكو (2) الذي يصل المنطقة بأوروبا الوسطى عبر تركيا. كما كان يمكن لقطر أيضاً أن تصدر الغاز نحو أوروبا عبر سوريا جديدة وصديقة، وبذلك يتوقف تزويد أوروبا بالغاز الروسي بشكل كامل. وعلى هذا الأساس، لا يعود بإمكان روسيا أن تفعل شيئاَ غير دفن برنامج التنمية الخاص بها، وخصوصاً مشروع التسلح والتجهيزات العسكرية المطروح للفترة 2011/2020  والذي رصدت له روسيا مبلغ 650 مليار دولار للبرنامج نفسه، و114 ملياراً لتحديث التجهيزات.


كما يصبح بإمكان الولايات المتحدة أن تسيطر على لبنان وسوريا وإيران، وبالتالي على مصادر التزود بالطاقة الواقعة في الفضاء الجغرافي والاستراتيجي المشتمل على كل من لبنان وسوريا والعراق وإيران. وهذا كله يفسر الإصرار المحموم على إسقاط سوريا.  

ب- على الصعيد الأمني :

بسقوط بشار الأسد، يُفتح الباب واسعاً أمام سياسة الاحتواء التي نادى بها جورج كينان (3). وبذلك يمكن الانطلاق بتنفيذ أعمال التطويق حول روسيا. وتستند هذه الاستراتيجية في المجال الجيوسياسي إلى النهج الذي بشر به بريجنسكي (4) والذي كان يقول بإمكانية إلحاق الهزيمة بالاتحاد السوفياتي على مرحلتين : محاصرة روسيا والانتقال بعد ذلك إلى زعزعتها بهدف السيطرة على مناطقها الحدودية. وهذه الاستراتيجية تصلح أيضاً للتطبيق على روسيا الحالية. وبذلك تكون سياسة غورباتشوف التي نعتها بوتين بأنها "أكبر كارثة في القرن العشرين" قد عادت إلى الحياة ليتم معها تفكيك الاتحاد الروسي بشكل نهائي.
ومن المرجح أن تستتبع عملية التفكيك هذه نقل "الجهاديين" الذين ينشطون حالياً في سوريا إلى شمال القفقاس بهدف إقامة إمارة إسلامية هناك. وهنا لا بد من التذكير أن شمال القفقاس (داغستان والشيشان) تقطنه أغلبية من المسلمين. ألم يسبق لدوكو عمروف أن أعلن عن إقامة "إمارة قفقاسية: في العام 2007 ؟


إن واحداً من المرتكزات الأميركية في المنطقة سيكشر عن أنيابه من أجل إحياء الإمبراطورية العثمانية. والمقصود بهذا المرتكز هو تركيا: القاعدة الأمامية للمصالح الأميركية في أوراسيا والتي تحلم على الدوام بإقامة إمبراطورية تمتد حتى أواسط آسيا التي كانت تشكل جزءًا من الاتحاد السوفياتي السابق. فبسط سيطرتها وصولاً إلى مشارف موسكو أي إلى الجمهوريات الناطقة بالتركية في آذربيجان وكازاخستان وتركمانستان وطاجيكستان وقيرغيزستان هو بمثابة فرصة كبيرة بالنسبة لها.


إن إمكانية جمع هذه البلدان في حلف مع تركيا هي من الأمور المحتملة والتي تشجع عليها الولايات المتحدة بهدف تفكيك أسرة الدول المستقلة المكونة من 11 من أصل 15 جمهورية سوفياتية سابقة، والتي أنشئت بموجب اتفاقية مينسك في 8 كانون الأول / ديسمبر 1991. وقد تبين بوضوح أن الولايات المتحدة تدعم بشكل غير مباشر الحركات الانفصالية والإتنية-الدينية من أجل تدمير أسرة الدول المستقلة بشكل نهائي.
   
ج- على الصعيد الاستراتيجي

يعتبر بوتين -وهو يسير على نهج هو استطالة لنهج كاتريين الثانية- أن دمشق هي نقطة الانطلاق في النظام العالمي الجديد. فإذا سقطت هذه العاصمة، فإن روسيا تفقد نهائياً حلمها باستعادة موقعها كقوة عظمى في عالم فترة الحرب الباردة. وأي انقلاب في الموازين سيكون في غير صالحها، إضافة إلى كونه سيشكل إذلالاً ديبلوماسياً.


فالواقع أن سقوط سوريا سيعني حتماً أن تتعرض إيران للهجوم. وعندما يهزم المحور الشيعي في سوريا والعراق وإيران، فإنه سيصبح خاضعاً للمملكة السعودية التي ستعمد إلى تطبيع العلاقات بين البلدان العربية وإسرائيل.


وبهذا، يصبح الشرق الأدنى معدلاً من الناحية الجغرافية لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل والقوى الغربية والعربية التي تدور بشكل حصري في فلكهما. فالفضاء السني "المعتدل" سيمتد جغرافياً من المغرب إلى باكستان وأفغانستان، بعد المرور بتركيا والقرن الإفريقي. ولن يعود هناك وجود للحاجز الذي يفصل تركيا عن البلدان السنية الأخرى. أما تركيا العضو في الناتو والتي تشكل بالنسبة لروسيا أقصر طريق نحو المياه الدافئة، فإنها ستصبح تهديداً استراتيجياً لروسيا لجهة قدرتها على إيقاف الأسطول الروسي ومحاصرته في البحر الأسود.


وهكذا، ستجد روسيا نفسها أمام فضاء معاد يمتد من فرنسا غرباً إلى الصين شرقاً. وسيتم طردها بشكل نهائي من منطقة الشرق الأوسط الكبير بعد أن سبق لها وأمنت لنفسها وجوداً قوياً فيه.


على ضوء هذه المعطيات، نعتبر أن الدعم الروسي لسوريا هو دعم جدي لأنه ناشئ عن ضرورات تتصل بوجود الاتحاد الروسي في الظروف الحالية. فمن أجل مواجهة كل مناورات الغرب الهادفة إلى زعزعة روسيا وإضعافها على المسرح الدولي، فإنها ستفعل كل ما تقدر على فعله من أجل منع حدوث أي تغيير جيوسياسي في الشرق الأوسط.  وعن طريق رافعتها في مجال الطاقة، تحاول روسيا تغيير مسار التحالفات عبر التقارب مع أوروبا والصين وإيران والهند. وهي تنوي إقامة فضاء أوراسي لمواجهة القوة الأميركية العظمى.


---------------------------------------------

هوامش
 

(1)    – كاترين الثانية، إمبراطورة روسيا (1762-1796). لقبت بكاترين الكبرى. كانت تقول  : "أترك للأجيال القادمة أن تحكم دونما تحيز على ما فعلته لروسيا". حكمت روسيا لأطول فترة في تاريخها، وأوقفت الغزاة القريبين والبعيدين عند حدهم، إضافة إلى ما حققته من تنمية وتحديث للمجتمع الروسي.
(2)    خط نابوكو : اسمه الأصلي "نابوكودونوزور" (نبوخذ نصر) وهو يشكل موضوعاً لإحدى أوبريهات الموسيقار فردي (Verdi). وهو يذكر بفترة عبودية اليهود في بابل، ما يعني أن كل ما يجري في سوريا يرتكز بشكل أساس إلى أمن إسرائيل.
(3)    جورج كينان : ديبلوماسي ومختص بالعلوم السياسية ومؤرخ أميركي كان لأطروحاته تأثير كبير على السياسة الأميركية تجاه الاتحاد السوفياتي مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
(4)    زبيغنيو بريجنسكي : سياسي أميركي. شغل بين آخرين منصب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر من العام 1979 إلى العام 1981.
(5)    دوكو عمروف : من مواليد العام 1964، شغل في العام 2005 منصب خامس رئيس لجمهورية إيشكيريا (الشيشان). ثم ألغى الجمهورية في العام 2007 ليستبدلها بـ "إمارة الشيشان" التي أعلن نفسه أميراً عليها.

2015-10-12