ارشيف من :آراء وتحليلات
روسيا تغير المعادلة على الأرض.. وأميركا ’تتفرج’ من الجو
في الأسابيع الأخيرة فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغرب أكثر من مرة أولاً بنشر طائراته ودباباته في سوريا، ثم بالدعوة الى تحالف دولي ضد "داعش"، وبعدھا بالاعلان عن تحالف استخباري مع سوريا والعراق وإيران، كجزء من الحملة على التنظيم الإرهابي الذي يسيطر على أجزاء من العراق وسوريا.
المشهد الاقليمي-الدولي المتعثر أتاح لبوتين أن يقتنص الفرصة ليفرض وجوده كلاعب رئيس ومحرك لحل الأزمة في منطقة الشرق الاوسط انطلاقا من سوريا، بينما الولايات المتحدة شبه غائبة عن المسرح وتفضل الانكفاء والجلوس في المقعد الخلفي ولا خطط ولا رغبة لديھا للتدخل، وأوروبا منشغلة بأزمة اللاجئين والمھاجرين ومنقسمة حيالھا وتريد حلا لأزمة سوريا بأي طريقة، ودول الخليج منھمكة بحرب اليمن ولا ترى خطرا إلا الخطر الإيراني، وتركيا منشغلة بوضعھا الداخلي الموزع بين أزمة أمنية ومواجھات متجددة مع الأكراد وأزمة سياسية تعبّر عنھا انتخابات مبكرة بعد أشھر على انتخابات قوَضت مشروع أردوغان وسلطته المطلقة وغالبيته البرلمانية، و"إسرائيل" مھتمة بأمورھا وأوضاعھا الممتدة من الجبھة الشمالية مع سوريا الى جبھة غزة مرورا بضفة غربية منتفضة.
والآن يضاف الى ھذا المشھد الذي يدل على ارتباك الدول الداعمة للمعارضة السورية، موقف مصر الذي يأخذ مسافة من ھذه الدول ويتمايز عنھا ويشكل دعما معنويا لروسيا. تجلى ذلك في تصريح وزير الخارجية المصري سامح شكري لقناة "العربية": "أن دخول روسيا بما لديھا من إمكانات وقدرات في مقاومة الإرھاب والعمل على محاصرة انتشاره، ھو أمر نرى أنه سيكون له أثر في محاصرة الإرھاب في سوريا والقضاء عليه"....
ھذا التصريح كان كافياً لإثارة موجة من ردود فعل مستنكرة من جانب القوى المناھضة للنظام السوري، التي اعتبرت موقف مصر بأنه مثير للقلق والشبھة في تمايزه عن موقف الدول الخليجية، ومن حيث تغطيته للتدخل الروسي المتماھي مع التدخل الإيراني في سوريا. والأهم من ذلك أنه لا يلتقي مع الموقف السعودي، لأن الحرب الروسية في سوريا "مرحب بھا مصريا، وغير مرحب بھا سعوديا".
روسيا تغير المعادلة
يأتي ذلك متزامناً مع تصريح دبلوماسي روسي:" قلناھا للسعوديين، وبمنتھى الوضوح، حين نحول دون استيلاء تنظيم داعش على السلطة في دمشق فإننا نحميكم من ذلك الحيوان الخرافي الذي يتغلغل في عظام المنطقة..". لأنه في نظر موسكو "ليس من مصلحة السعوديين، أو أي دولة عربية أخرى، أن ينھار الجيش السوري"، والمسؤولون الروس يقولون:" إنه لو كان ھناك منطق في المنطقة لذھبت الأموال الھائلة التي أنفقت على الفصائل المعارضة، وغالبيتھا من المرتزقة، الى الجيش السوري الذي ليس جيش النظام، بل جيش سوريا." يتابع الدبلوماسي الروسي:" "قلنا لأصدقائنا، أصدقائنا السعوديين، إن الأولوية الآن لإزالة تنظيم داعش من سوريا. " وختم مؤكداً بأنه:"واثق من أن السعوديين سيعيدون النظر في سياساتھم حيال سوريا."
أما في لبنان، المعني أكثر من غيره من الدول المنخرطة بالأزمة السورية، فقد انقسمت الأراء فيه:
- فھناك من يتوقع أن يكون تلبد الفضاء الإقليمي حافزا للأطراف اللبنانيين على مزيد من الحوار وتحصين الوضع الداخلي لاتقاء المخاطر المتزايدة وعزل لبنان عن محيطه.
- وھناك من يتوقع أن يتجه الوضع في لبنان القابع في "الفراغ والشلل" الى "الأسوأ"، والى مزيد من التأزم والتصعيد وازدياد التطرف لدى القوى والحركات الإسلامية في لبنان والمنطقة، كرد فعل على التدخل الروسي في سوريا لأن هذا التدخل من وجهة نظرهم أضاف الى البعد المذھبي السني- الشيعي، البعد الديني الإسلامي – المسيحي .
الوزير السابق كريم بقرادوني يرى أن:" التدخل الروسي استراتيجي وھناك سببان للتدخل الروسي الأساسي: الأول ھو الحفاظ على نظام الرئيس بشار الأسد، إذ ترفض القيادة الروسية تنحي الرئيس بشار الأسد أو سقوطه. والثاني ھو تصميم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على استعادة دور روسيا في المنطقة بعدما ارتاح في الداخل عبر الانتخابات وارتاح دوليا، وبالتالي ما لم يكن في استطاعته فعله قبل أربع سنوات بات اليوم قادرا على فعله."
وحسب تقارير وزارة الدفاع الأميركية، أرسلت موسكو تعزيزات بأسلحة برية ھجومية متطورة، لاستخدامھا غرب البلاد ضد قوات المعارضة بعيداً عن عناصر تنظيم "داعش". وھذه الأسلحة رصدت في منطقة بين حمص وإدلب ومناطق في غرب إدلب. وترى واشنطن الخطوة على أنھا تسريع في النشاط البري الذي يستھدف المعارضة لا "داعش".
لكن الفارق بين بوتين والرئيس الأميركي باراك أوباما ھو أن الأول يعرف ماذا يريد ولديه أدواته على الأرض لجھة التعاون والتنسيق مع الجيش السوري وقوات الحماية الكردية على أن يضرب جوا ويتحرك ھؤلاء على الأرض، في حين أن الثاني وهو أوباما يريد إسقاط "داعش" والرئيس بشار الأسد معا، لكنه لا يملك الأدوات على الأرض، وظھر جليا أن الولايات المتحدة تضرب جوا منذ سنة ولم تستطع أن تغيّر المعادلة السورية، لكن الدخول الروسي غيّرها.
لذلك أرسلت روسيا إشارات ورسائل عملية متلاحقة تفيد أنھا جدية الى أبعد الحدود في تدخلھا العسكري المباشر في سوريا، وأن قرارھا استراتيجي لا رجوع عنه ولا عودة الى الوراء، وأن تدخلها لا يقف عند حدود ضربات جوية ليست كافية لتغيير الوضع، وإنما تمهد لحرب وعمليات برية ستكون بشكل أساسي على عاتق الجيش السوري وستتصاعد وتيرتھا حتى آخر العام الجاري، لأن المطلوب ھو إحداث تغيير جوهري في المعادلة على الأرض وفي ميزان القوى بين النظام ومعارضيه وفرض واقع جديد في جبھات حمص وحلب وحماه وإدلب.
ونتيجة هذه الأحداث المتسارعة ولد في المنطقة محور آخر ھو المحور الروسي- السوري - العراقي - الإيراني بعدما كان ھناك محور واحد ھو المحور الأميركي السعودي - التركي والخليجي عموما، وكانت ھناك أحادية أميركية في إدارة منطقة الشرق الأوسط منذ حرب الخليج في التسعينات، ولكن اليوم تبدلت المعادلة.
محور موسكو- طھران - بغداد - دمشق - حزب الله يقدم نفسه على أنه القوة الوحيدة المستعدة لمحاربة "داعش"، وتاليا يسعى الى تقويض الجھود الخجولة للائتلاف الدولي الذي تقوده واشنطن، وتھميشه في ھذه الحرب.
ولذلك تم إعلان تأسيس "مركز التنسيق المعلوماتي"، وحرصت جھات عدة، من بينھا رئاسة الحكومة العراقية، على جعل عمله يقتصر على الجانب الاستخباري، بمعنى جمع المعلومات عن المجموعات الإرھابية وبنيتھا التنظيمية، وھيكليتھا وعديدھا وتسليحھا، وانتشارھا الجغرافي، وطرق الإمداد اللوجستي الخاصة بھا، ومصادر ھذا الإمداد، وما إلى ذلك من معطيات تساعد على وضع الخطط وتحديد الآليات والطرق ونوع الأسلحة التي يجب استخدامھا في استھدافھا. لكن نظراً لتعقيدات الأمور توسعت مھماتھا، لتشمل توفير المساعدة الميدانية المباشرة خلال حصول العمليات والمواجھات، وجرى اتفاق على أن مقر غرفة التنسيق ستكون في وزارة الدفاع العراقية على أن يقيم أعضاؤھا (ستة من كل دولة) في المنطقة الخضراء.
وعلى الرغم من محاولات رئيس الوزراء حيدر العبادي تخفيف لغة الاتفاق الرباعي الذي انضم إليه العراق ووصفه بأنه مجرد خلية تنسيق استخباري، إلا أن واشنطن سارعت إلى القيام بإجراءات على الأرض أشبه ما تكون بعقوبات ضد الحكومة العراقية نتيجة لما عدوه ھرولة عراقية غير محسوبة النتائج خلف حلفٍ لم يتمكن من فعل شيء في سوريا منذ أربع سنوات من وجوده.
وغلى الرغم من ذلك، تخطو موسكو بثقة واستراتيجية واضحة في سوريا على خلاف واشنطن التي لا تزال تظھر ترددا في مواجھة "داعش" كما في بلورة خطة حل سياسي للنزاع. وبإرسالھا تعزيزات الى المنطقة وإرسائھا أسس محور جديد توجه موسكو رسالة الى دول المنطقة بأنھا حليف ذو صدقية في المعركة ولاعب رئيس في الحرب كما في أي مشروع سلام لسوريا.