ارشيف من :آراء وتحليلات

سيف بوتين وعقدة الإسكندر

سيف بوتين وعقدة الإسكندر

بوتين يردّ على نحوٍ كان بطرس الأكبر يفهمه لو عاش الآن

                                                       هنري كسنجر

وأخيراً دخلت روسيا بقوة على خط الأزمة السورية . بعد طول انتظار، وبعد أن كاد السيل يبلغ الزبى؛ ونذكر قارئنا باننا قد اشرنا إلى ذلك في مقال اسبق بتارخ 16كانون الثاني/يناير من هذا العام بعنوان : "عن الحل المعلق في سوريا"، وقد اقمنا كمثال المقارنة بين الأسلحة التي توفرت للجيش العربي السوري وبين ما تضمنته صفقة الأسلحة الروسية لمصر او الجزائر .مقارنة في غنى عن الوصف لمجرد ان تكون بين اسلحة تعود لسبعينات القرن الماضي وبين اسلحة بتقنيات العصر! ،وهذا ما حذا بالعديد من المراقبين الحريصين لطرح الأسئلة القلقة، وهنا يسجل للجيش السوري الفضل في ابتداع وسائل قتالية تعويضا عن هذا الخلل، فالجيش السوري المستنزف على مدى اربع سنوات في خطوط قتال  متقطعة تتوزع على مناطق بعضها معزول وبعضها الآخر شبه مطوق، استطاع ان يصمد في أماكن واستطاع ان يتقدم في أماكن أخرى،كما واستطاع في كل خطوط قتاله من السويداء ودرعا جنوبا حتى حلب والحسكة شمالاً ان يثبت حقيقة سياسية وهي مسؤولية النظام عن وحدة الكيان السوري ما امكنه، حتى وإن كان القتال أحيانا في جزر شبة معزولة.

اللحظة الروسـية

لا شك أن روسيا أدركت باكراً بان الأزمة السورية غدت بؤرة من القيح ستمتد في زمن غير قصير لتخريب الجسد الروسي عبر فوضى أثنية، وهذا على المدى  البعيد الهدف الرئيس في استراتيجة الولايات المتحدة :تقسيم روسيا! . وقد اشار موخرا بوتين خلال اجتماع مجلس قادة "بلدان رابطة الدول المستقلة" في كازاخستان . بوجود "ما يتراوح بين خمسة وسبعة آلاف من مواطني روسيا وبلدان رابطة الدول المستقلة يقاتلون في صفوف داعش" ليعلن بعدها صراحةً بان هؤلاء لا يمكن " السماح لهم بتوظيف الخبرة التي اكتسبوها اليوم في سورية، في وطننا في وقت لاحق"!

سيف بوتين وعقدة الإسكندر

غير ان التدخل الروسي انتظر لحظته المناسبة هذا وفقا لحسابات موسكو؛ هي لحظة من الارتباك الأمريكي حيث تقف امريكا بين الرغبة في إبقاء الفوضى في المنطقة انسجاما مع مخططاتها في "الشرق الأوسط الجديد"، وبين مغامرة استكمال اللعبة بما تحمله من تداعيات، وحليفها الأوروبي بات في مرمى الإرهاب، الذي من الأرجح قد تسلل إليها عبر موجات المهاجرين اليه. إن بؤرة المأزق الأمريكي تكمن في معضلة التوفيق بين المتناقضات، فهي لا تريد بقاء الأسد فيما تريد الإبقاء على نظامه متهيبةً الفراغ من سقوطه خشية ان تملأه داعش التي ستتوجه نحو السعودية هدفها التالي بحسب ما صرحت بذلك صراحةً، وبموازاته ستصبح الأردن من بين الاستهدافات لعدة اعتبارات، منها مجاورتها للسعودية، بل وقربها من ارض الحجاز والأماكن المقدسة، وهو هدفها (الثمين) الذي تسعى نحوه داعش بشكل خاص. ولا شك بان حضورها القوي تنظيمياً في الأردن سيجعل الأمر غير عسير. ومن هذه التناقضات الأمريكية ايضاً العودة للقبول بالأسد مؤقتا ولكن مستنزفاً  كي لا يكون صاحب اليد الطولى في اي مؤتمر للسلام؛ ولكن (الأسد المُستنزف) يعيدها للمربع الأول، اي اعطاء داعش فرصا اكبر للتوسع على حساب النظام وعلى حساب فصائل النصرة الأقرب إلى امريكا فيما الأخيرة ضعيفة مقارنة بداعش وبالقدر الذي لا يمكنها من ان تصمد أمامها!! .

هذا المأزق حاولت امريكا ان تخرج منه، فكانت الاتصالات السرية قبل اشهر قليلة مع موسكو طالبةً مساعدتها في إيجاد صيغة تحالف اشبه بالخلطة العجيبة !، من تركيا والسعودية مع ايران والعراق وسوريا ويشتمل بالتواتر (تحالف) بين الجيش السوري وفصائل النصرة؛ ولقد ارادت امريكا من هذه الصيغة ليس إنهاء داعش وحسب، بل والتأسيس على انقاضها واقعاً يكون قاعدة لحل نهائي في سوريا يتضمن فيما يتضمن انخراط الأجنحة السياسية في "حكومة ائتلاف وطني"، وانضمام بعض فصائل (النصرة) تحت مسمى "الجيش الحر" إلى القوات المسلحة السورية. وبالمقابل قدمت امريكا وحلفاؤها الأوروبون لذلك بخطوة تجميلية. هي نوع من المقبلات السياسية، عندما اعلنت يومها عن ان الرئيس الأسد هو "جزء من الحل"، من غير الإشارة إلى  "مرحلة انتقالية "!، ما اعتبره بعض المراقبين نوعاً من التراجع الغربي، وبعضهم اصطنع تحميله على نتائج "الاتفاق النووي الإيراني الأمريكي"!.

وعلى الرغم من ذلك فإن هذه المناورة التكتيكية الأمريكية قوبلت برفض سعودي، وآخر تركي. أما السعودية فهي تنطلق من أن حربها على سوريا هي حرب على ايران، وبالتالي فإنها لن تذهب إلى اي جنيف قبل حسم معركة صنعاء التي تكسبها ورقة نوعية تضعها في وجه ايران!. أما تركيا فهي تعتبر بأنه لن يكون بوسعها ان تكون شريكا في رسم مستقبل سوريا من غير ان ترسي شريطا حدوديا شمالها وبعمق 80 كم على الأقل بحسب ما اعلنت، تحت مسمى "منطقة حظر جوي"!. والحقيقة ان الرفض الإيراني والتعنت السعودي شكل افضل هدية لموسكو المتوثبة !.

عقدة الإسكندر

أمام هذه المعادلة المستحيلة الحل امريكيا والتي باتت اشبه بعقدة الإسكندر، جاء بوتين ليحلها بشروطه وسيفه، تعزز من خطوته عدة عوامل مصاحبة ، أولها القلق الذي يجتاح القارة الأوروبية جراء موجات النزوح بمئات الألوف التي تغمر بلدانها وفي ثناياها بالقطع اعداد من الأرهابيين سيتهددون مستقبلها !. والعامل الثاني ، أن التدخل الروسي جاء بناء على طلب رسمي من الحكومة الشرعية السورية  ،ومسلحاً من جانب آخر بشرعية دولية تستند  للقرار الأممي رقم 2170 لعام 2014, والذي يضع كل من داعش والنصرة تحت الفصل السابع. مجرما كل من يزودهما بالسلاح، وهذا اكسب الروسي الشرعية والصورة  - خلافاً للأمريكي -، وهذه العوامل مجتمعةً ستمنح روسيا حرية الحركة في اكثر من اتجاه. وكان اولها تعمد خرق الأجواء التركية في إشارة فهمتها انقرة جيداً. منهية حلمها في الامساك بورقة قوية سورياً.. جاءت روسيا والأرض جاهزة، حيث حليفها الايراني قد تحرر من اثقال الملف النووي ، فيما السعودي غاطس حتى اذنيه في المستنقع اليمني الذي يستنزفه اقتصاديا واخلاقيا .و مصر على ما يبدو في حالة مراجعة لسياساتها خلال العقود الأربعة الماضية ، وعلى خلفيته بعثت باسلحة إلى سوريا  ذكرتها عدة مواقع اخبارية  بالنوع والعدد. لقد جاء الروسي ليملأ فراغاً هو بعض ما خلفته امريكا جراء انسحابها من العراق ،وهو انسحاب استراتيجي بكل معنى الكلمة ، ارادت امريكا ان تملأه بما اسمته "الفوضى الخلاقة " . فإذا بالسحر ينقلب على الساحر!

2015-10-21