ارشيف من :آراء وتحليلات
نقلة بوتين ’الخارقة’ على رقعة شطرنج المنطقة
ليس غريبًا على الرئيس فلاديمير بوتين أن يجيد لعبة الشطرنج؛ فهو ابن الدولة التي خرّجت اغلب ابطال العالم في هذه اللعبة الاستراتيجية، وهو ابن الدولة التي تُشرّب مبادىء الشطرنج لاطفالها مع الحليب، وتدربها كمادة الزامية في مناهج التعليم في المدارس وتفرض إجادتها على ضباطها كما تفرض عليهم معرفة اصول القتال والأمرة وفنون الحرب.
بالمبدأ، لا خلاف أن في لعبة الشطرنج يكون عادة الهدف واضح ومحدد واللاعبون يدخلون الجولة واضعين نصب اعينهم الوصول الى الكش مات لشاه الطرف الآخر لتنتهي الجولة ، اما كيف يتم العمل للوصول إلى ذلك وكيفية بناء الخطط والمناورات فتبقى سرّية مستترة يملكها اصحابها فقط ولا يفصحون عنها بتاتا حتى بعد انتهاء الجولة كونها من خفايا قدرات اللاعب وسر نجاحه، واللاعب الناجح يناور في طريقة نشر حجارته وقطعه لِيُصَعّب على المراقب او على الخصم استنتاج الهدف من ذلك بعد ان توحي طريقة النشر باكثر من خطة للوصول الى اكثر من موقع وعبر اكثر من طريق .
ولكن ما يثير الغرابة والدهشة في الطريقة التي يلعب فيها بوتين الشطرنج على رقعة المنطقة هو تحديده بشكل واضح الهدف من نشر حجارته وقطعه، ليكشف خطته في ذلك دون مواربة او تستّر مقارنة مع ما خبرناه من المناورات الاخرى التي ينفذها لاعبون معروفون تحتار في اهدافهم وفي استراتيجياتهم وفي تصرفاتهم وفي اقوالهم والى ما يقصدون واول حرف من اسمهم هو "الاميركيون".
من الناحية العسكرية التقنية، كان الرئيس الروسي واضحا منذ البداية في نقل عتاده وأسلحته وطائراته الى الشمال السوري حيث تم تركيزها في مطارات برية وفي قواعد بحرية معروفة، وكان واضحا جدا في نشر المعلومات الكافية عن قدرات وخصائص هذه الطائرات المتعددة الامكانيات حيث ذكر شعاع عملها والى اين يمكن أن تصل بقصفها أو بتغطيتها الجوية وتكلم بالتفصيل عن أنواع الصواريخ الموجهة والقنابل الذكية وقدراتها في خرق التحصينات أو في مجالات استعمالاتها المتعددة.
من ناحية أهداف حملته العسكرية، حدد هدفه بوضوح تام وهو ضرب جميع الفصائل المتشددة مهما اختلفت تسمياتها ومهما اختلف داعموها تلبية لطلب الرئيس الشرعي للدولة السورية، ومساعدة هذه الدولة تطبيقا لمعاهدات عسكرية وأمنية وديبلوماسية مشتركة معها على محاربة الارهاب المدعوم اقليميا ودوليا، وعلى التوصل الى تسوية سلمية تحفظ حقوق الجميع وتبعد الارهاب عن الساحة الداخلية السورية وعن الساحة المحيطة بها، وحدد هدفاً آخر، وهو سحق الارهابيين ذوي الاصول الروسية أو الاصول التابعة لدول الاتحاد السوفياتي السابق والذين يشكلون خطرا على روسيا وذلك استباقا لمواجهتهم في شوارع موسكو لاحقا حسب ما صرّح بالتحديد، وقد باشر فوراً تنفيذ اهدافه بعد تأمين الغطاء القانوني الشرعي الروسي، وبعد إبلاغ الامم المتحدة التي ترعى بالوقت ذاته تحالفا دوليا واسعا ضد الارهاب، موافقته على تلبية طلب الدولة الشرعية السورية للتدخل على أرضها ومساعدتها على مواجهة هذا الارهاب الذي يهدد سيادتها وكيانها .
لم يخجل أن يطلب وبحزم من "إسرائيل" ومن تركيا وقف العربدة الجوية فوق أراضي حليفه السوري بالكامل ولم يتوجه لهؤلاء برسالة ديبلوماسية ماكرة بل قالها وبصراحة ان المجال الجوي للطائرات الروسية يكون عادة نظيفاً وصافياً حسب ما تعودت هذه الطائرات واعتبر وعبر قادة عملياته الجوية بان منظومة الدفاع الجوي الروسية الخاصة لحماية هذه الطائرات لديها برنامجا اوتوماتيكياً تلقائياً متطوراً لا يمكن إدخال تعديلات عليه وبالتالي سوف تُعتبر كل طائرة تدخل ضمن شعاع الحماية هذا هدفاً مشروعاً لهذه المنظومة المتطورة والتي تكلم خبراء روس عن قدراتها كثيرا .
كان صريحاً وواضحاً في الطلب من الولايات المتحدة الاميركية سحب صواريخ الباتريوت المضادة للصواريخ وللطائرات من الاراضي التركية ، قائلا لهم : " ان ذلك لتلافي اي خطأ فني او تقديري من طاقم هذه الصواريخ يمكن ان يجرّنا جميعا الى ما لا نتمناه " .
اصرّ والحّ اكثر من مرة على اجراء اجتماعات ثنائية مع الاميركيين لتنسيق طلعات طيران التحالف في المجال الجوي فوق سوريا والعراق والذي يغطي اماكن تواجد داعش والفصائل الاخرى وكان له ما اراد بطريقة غير مباشرة بعد ان طلبت وزارة الحرب الاميركية إلى وزارة الدفاع الروسية اجراء محادثات لتنسيق حركة الطيران في المجال الجوي السوري حول الاجراءآت التي تضمن سلامة الطائرات الروسية وطائرات التحالف الدولي، حيث يعملان حاليا على إنجاز مذكرة تفاهم حول هذه الإجراءات وما سينتج عنها حول وجوب قيام واشنطن بمنع الرياض من تأمين صواريخ ستينغر أرض جو، للجماعات الارهابية التزاما بعدم القيام باي تصرف مباشر او غير مباشر يشكل خطرا على الطائرات الروسية ، كما وتوصل الى وضع قيود وحدود لطيران التحالف بما يتناسب مع حركة السوخوي المتعددة الانواع، والتي بقيت حرة في حركتها الجوية بالشكل الذي تستطيع من خلاله تنفيذ طلعاتها الجوية التي تراها ضرورية لتدمير الارهاب الذي جاء من اجل سحقه وإزالته .
واخيرا، وفي معرض المقارنة ايضا مع لعبة الشطرنج، فقد اشتهر الامبراطور الكبير نابوليون بافتتاحيته الخارقة في الشطرنج والتي شكلت لاحقا مدرسة في اللعبة يتداولها كبارها ويتعلمها صغارها وتقضي بتوصله الى الـ"كش.. مات" منهياً الجولة ضد خصمه بثلاث نقلات فقط ، ليُدخل بوتين افتتاحية خارقة في تاريخ التدخلات العسكرية الواسعة وذلك بقيامه ببضعة نقلات متسارعة وصاعقة مُحدثا تغييراً واضحاً واساسياً في مجرى الاحداث في المنطقة .