ارشيف من :آراء وتحليلات

القمة السورية الروسية : الحسم العسكري بيد والحل السياسي باليد الأخرى

القمة السورية الروسية : الحسم العسكري بيد والحل السياسي باليد الأخرى

ما زال الرئيس الروسي فلادمير بوتين يسير على خط تفجير المفاجآت فيما يتعلق بالملف السوري، حيث شكلت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد الى موسكو حدثاً سياسياً استثنائياً ومهماً جداً واستحوذت على الاهتمام والمتابعة، وهو في الوقت نفسه يعد تحدٍ جديد للولايات المتحدة وحلفائها، عندما يرد من خلال هذه الزيارة الاعتبار الى الرئيس الأسد والى شرعيته كرئيس دولة.

فهذه أول زيارة للرئيس الأسد الى الخارج منذ اندلاع  الحرب في سوريا وعليها منذ خمس سنوات تقريباً. وفي ظل أحوال وظروف صعبة وخطيرة، وهذا يعني أمرين:


 الأول مدى ثقته بوضعه وجبهته الداخلية. والثاني مدى أهمية هذه الزيارة والمواضيع التي بحثت وتطلبت حضوره الى موسكو. وطبعاً طبيعة الزيارة أحيطت بسرية تامة ورتبت ونفذت بطريقة دقيقة ،و لم يعلن عنها إلا بعد انتهائها وعودة الأسد الى دمشق.


 وتأتي هذه الزيارة عشية اجتماع مقرر في فيينا بين مجموعة دولية - إقليمية تضم رؤساء أميركا وتركيا والسعودية. وبالتالي فإن بوتين قصد استقبال الأسد قبل أن يُحمل وزير خارجيته لافروف رسالته التي تتضمن نقطتين أساسيتين:

1- روسيا مهتمة بإيجاد حل سياسي، وتدخلها العسكري في سوريا هو في خدمة هذا الحل وتوفير ظروفه وتهيئة أرضيته.
2- روسيا ترى أن محاربة الإرهاب مدخل للحل السياسي وشرط لنجاحه. ولا توافق الولايات المتحدة والسعودية بأن بقاء الأسد في السلطة يمنع الحل السياسي ويطيل الحرب ويعزز الإرهاب...

بدليل أن زيارة الرئيس الأسد إلى موسكو هي المؤشر على وجود خطة روسية تقضي بتنفيذ عملية سياسية بموازاة العمليات العسكرية، كما تفيد بأن "الدبلوماسية الساخنة بشأن سوريا" تتحرك على إيقاع "الحرب الباردة" مع الولايات المتحدة.

فالمسألة تكمن في أن بوتين يربط بين الحملة العسكرية والحل السياسي، فقد كان من الصعب دخول الرئيس الأسد في مفاوضات سياسية من موقع الضعيف بعد الخسائر التي سبقت التدخل الروسي، ومن الصعب أن يذهب الروس الى المفاوضات السياسية من غير أوراق رابحة يستطيعون اللعب فيها. فموسكو مهتمة بالحل السياسي لأنها تدرك أن الحل لن يكون عسكريا، ولأنها لا تريد أن تتورط في المستنقع السوري وفي "أفغانستان ثانية".
 وعلى الرغم من أهمية اللقاء، لم يعطه الإعلام الأميركي الاهتمام المطلوب، واكتفت بـ"زيارة مفاجئة وسرية للأسد الى موسكو". وتركز اهتمامهم على فكرتين وحيدتين هما: أن "الزيارة هي رسالة تحدٍ للغرب"، وأنها "دليل آخر على دعم بوتين الكامل للرئيس الأسد.

"نيويورك تايمز" وصفت استقبال موسكو للرئيس الأسد بـ"العناق البارد، و أن العلاقة بين بوتين والأسد ما زالت باردة حتى بعد الزيارة الى موسكو". من جهة أخرى وفي محاولة لفهم دعوة بوتين للرئيس الأسد، نقل موقع "ذي دايلي بيست" عن دبلوماسي أميركي قوله :"إن ذلك قد يعني إما تحدياً للغرب، أو إفهامهم أن على الغرب التنسيق مع روسيا بشأن مصير الأسد".


 في الطرف الروسي، أولت الصحف الروسية جلّ اهتمامها على محادثات بوتين - الأسد في العاصمة الروسية موسكو، واستعرضت الصحافة آراء الكثيرين من المراقبين الذين قالوا في معظمهم:" بأن الزيارة جاءت تتويجا لجهود سابقة كثيرة حاولت موسكو من خلالها تأكيد ثوابت موقفها تجاه الأزمة السورية".
من هؤلاء كان أندريه فيدوروف رئيس مركز الأبحاث الاستراتيجي، الذي قال:" إن زيارة الأسد لموسكو تعني أن الكرملين لا يزال يعوّل عليه، وأنه لا يعتقد أن رحيله عن منصبه بات وشيكا"، فيما يرى آخرون :"ضرورة استمرار الرئيس الأسد في منصبه نظرا للحاجة إليه لـ "ضبط آليات المرحلة الانتقالية".
وقال سيرغي ماركوف مدير معهد الدراسات الاستراتيجية عضو الجمعية الاجتماعية لدى الكرملين:" إن الرئيس بوتين كان يريد على ما يبدو "سبر أغوار" الرئيس السوري عبر اللقاء الشخصي، على حد تعبيره". وأضاف:" أن بوتين كان يريد أيضا معرفة المدى الذي يمكن أن يذهب إليه في العملية العسكرية، وأبعاد الدور الذي يمكن أن يلعبه الجيش السوري على الأرض، وحتى التخلص من التنظيمات الإرهابية وإعادة كامل السيطرة على الأراضي السورية".
بينما أشارت صحيفة "فيدوموستي" أن زيارة الأسد إلى موسكو، هي  مجرد مقدمات للتسوية السياسية، ورأت أنه "لا يمكن الحديث حاليًّا سوى عن الخطوط الرئيسية للعملية السياسية، بانتظار أن تتضح الأمور للاعبين الدوليين على الأرض في سوريا بصورة دقيقة."
  القمة السورية - الروسية خطفت أضواء قمة فيينا التي شارك فيها وزراء خارجية روسيا وأميركا والسعودية وتركيا، على أمل إيجاد حل للنزاع في سوريا.  

القمة السورية الروسية : الحسم العسكري بيد والحل السياسي باليد الأخرى


من جهته قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري:" إن اجتماع فيينا يهدف الى استطلاع أفق الحل السياسي للحرب في سوريا قد أثمر أفكاراً قد تغير مسار ما يجري في هذا البلد"، وأضاف "إن الدول الأربع ربما تجتمع مرة أخرى بحلول 30 أكتوبر".


بدوره، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إنه يريد مشاركة مصر وإيران في أية محادثات مستقبلية بشأن سوريا، وإن موسكو وعمان أعلنتا عن اتفاق لتنسيق العمليات العسكرية في محاربة الإرهاب في سوريا". وهو ما رحبت به الولايات المتحدة، وقد يفتح الباب امام دول إقليمية اخرى للمشاركة الى جانب الروس في هذه الحرب، دون أن يعني ذلك بالضرورة الانضمام رسمياً الى "عاصفة السوخوي".
كما شدد لافروف "على ضرورة ترك "الشعب السوري" يقرر مصير رئيس النظام بشار الأسد". وهي مسألة تثير انقساماً بين موسكو وواشنطن. مكرراً:"رفض روسيا لتنحي الرئيس الأسد".


ملامح الخطة الروسية بدأت تظهر ولكن ليس بصورة واضحة ومكتملة، لأن الروس لن يكشفوا كل أوراقهم الآن، وهم ينتظرون أمرين أساسيين:
-التطورات العسكرية والتغييرات التي ستحدث على الأرض وتؤثر على موقعهم التفاوضي.
-تطور الموقف الدولي الإقليمي وما إذا كان مستعدا لتقبل الخطة الروسية والانخراط فيها، أم أنه يتجه الى إيجاد توازن عسكري جديد على الأرض لتحسين الشروط التفاوضية.

من السابق لأوانه الخوض أكثر في المسار الجديد، وإنما يجب توخي الحذر لأن المعركة مستمرة، ما دفع خبراء ومسؤولين أميركيوين وأوروبيين إلى الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي باراك أوباما يتعرض إلى ضغط كبير للرد على التصعيد الروسي. وشبّه أحدهم الأزمة الراهنة بـ "أزمة خليج الخنازير" في ستينات القرن الماضي بين أميركا والاتحاد السوفياتي بعد كشف عملية خططت لها "وكالة الاستخبارات المركزية" (سي آي أي) ضد النظام الكوبي، لافتاً  إلى أن كيندي "تصرف كزعيم وواجه السوفيات. وهذا هو المطلوب من أوباما الآن، لأن الأمر يتعلق بموقع أميركا في العالم وعلاقاتها مع حلفائها الذين باتوا يذهبون سراً إلى روسيا لفتح علاقات استراتيجية لاعتقادهم أن أميركا حليف استراتيجي لا يُعتمد عليه في عهد أوباما . الذي يتعرض لضغوط وانتقادات، وأيضا يتلقى نصائح وإرشادات من مسؤولين واستراتيجيين سابقين في الإدارات الأميركية المتعاقبة، منها:
 
 -هنري كيسنجر (وزير خارجية سابق في عهدي نيكسون وفورد، ومستشار الأمن القومي سابقا وول ستريت جورنال) قال: " نحتاج إلى نهج استراتيجي وإلى ترتيب الأولويات، وفق المبادئ طالما بقي تنظيم "داعش" يمسك بإقليم جغرافي محدد، مما يؤدي الى زيادة التوترات في الشرق الأوسط، لأنه يهدد كل الأطراف وأهدافه تتجاوز المنطقة إلى خارجها."

 كوندوليزا رايس(وزيرة خارجية ومستشارة الأمن القومي في عهد بوش) قالت: " إن بوتين، وبكل تأكيد، يتجاوب مع الظروف الناشئة في منطقة الشرق الأوسط؛ فهو يلحظ مساحة الفراغ الهائلة الناتجة عن ترددنا العجيب في التعاطي الكامل مع الأزمات في أماكن مثل ليبيا، والتزام ذات المسار حيال العراق. لذلك علينا إرساء حقائقنا الخاصة على أرض الواقع وتوفير الدعم القوي للقوات الكردية والعشائر السنية، وما تبقى من القوات الخاصة العراقية لا يمكن اعتباره "تفوهات جوفاء"، بل قد تساعدنا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من استراتيجيتنا الحالية "الغارقة".
فالولايات المتحدة تدرك تماماً أن تحديد دورها في القرن الحادي والعشرين. والشرق الأوسط هو امتحانها الفوري وربما الأقسى. فالمسألة ليست وثيقة الصلة بقوة الأسلحة الأميركية بل العزم الأميركي على فهم العالم الجديد وتوجيه دفته.

اليوم علاقات واشنطن مع حلفائها وأصدقائها التقليديين في السعودية وتركيا ومصر و"إسرائيل"، إما فاترة أو متوترة أو مرشحة لمزيد من التوتر، لأن ثقة حكومات هذه الدول بإدارة الرئيس اوباما متدنية للغاية، وهذا يعود الى حد كبير الى ما تعتبره هذه الدول غياب القيادة الأميركية.

 أوباما اليوم يشرف على إنهاء الحقبة الأميركية في المنطقة، في وقت يسعى الرئيس فلاديمير بوتين الى دحر مساعي الغرب لإضعاف روسيا وعزلها منذ فترة ما بعد نهاية الحرب الباردة. وذلك لأنه يعي تماما ما يريده وما يريد أن يفعله. فهو لا يعمل على استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط، فقط، بل هو يدافع عن المصالح الروسية في المنطقة من خلال إسناد الرئيس السوري بشار الأسد وحكومته في السلطة.. وهكذا، فرض بوتين ومحور المقاومة موازين قوى جديدة ومعادلات غير مسبوقة تحد من هيمنة الاستكبار الاميركي وتبشر بعالم متعدد الأقطاب ترتسم معالمه من سوريا.

2015-10-26