ارشيف من :نقاط على الحروف
’أحمد’.. شرارة النصر المؤزر
رباب مرتضى
هو ذا أحمد.. يرقب بهدوء لأشهر خمسة وأفعى صهيون الغادرة تتطاول لتلفَّ قرى الجنوب كلها، يستشعر أنين "جبل عامل" الأبيّ وألم المعابر المذل لأهله وأبناء جِلدته. هدوؤه لم يكن يشبه هدوء الأعراب المتخاذلين، بل هدوء صقر يتحيَّن الفرصة ليقطع رأس الأفعى الذي بلغ شواطئ "صور - جل البحر" واتخذها مقرًّا له.
"بناءٌ من طبقات ثمان، يجتمع فيه عدد كبير من الجنود"، صيدٌ ثمين يراقبه أحمد خلال تجواله لـ"جمع الخضار".. يرصد ويرصد، إلى أن أعلنت القيادة في المقاومة موافقتها على التنفيذ.. تهلل وجه أحمد مذ سمع الخبر وبدأ يعدُّ العدة للانطلاق..إلا أن أمرًا ما يقف عائقا يومًا بعد يوم أمام نواياه.
هل عدلت عن قرارك يا أحمد؟ سؤال وجهه إليه رفيق درب وسلاح جعله يخفي دمعته بابتسامة معبرة ارتسمت على شفتيه: لا يا صديقي، إني أنتظر أمر ربي.
كانت ليلة ماطرة بشكل غريب، سماؤها تغطيها كتل من السحب الحالكة، برقها يكاد يخطف الأبصار، ودوي الرعد فيها يرعب القلوب.. و"أحمد": "آه!.. ربي، أه من شوق اللقاء بوجهك الكريم".. قضى ليلته بين قائم وقاعد، راكع وساجد إلى أن بزغ فجر الخميس 11/11/1982، أدى صلاة الصبح وفتح مصحفه الشريف، فتلألأ وجهه.. إنه الإذن بالانطلاق.
فاتح عهد الاستشهاديين
ركب سيارته ومضى، مضى مسرعًا و"رضا" ينظر إليه، يتابعه من بعيد.. ها هو يقتحم بسيارته التي تحمل مئة وخمسين كيلوغراما من المواد المتفجرة مقرَّ الحاكم العسكري، وما هي إلا لحظات حتى غدا البناء ركامًا وأشلاء.. فجر أحمد قصير بجسده الطاهر "ضمائر الأمة"، فانتبهت على نبأ عظيم.
لحظات مرت على اقتحام فاتح عهد الاستشهاديين مقر الصهاينة في صور، لحظات صعقت العدو وأنارت سبيل عاشقي الشهادة.. لحظات وتهاوى المقرُّ على رؤوس قاطنيه، انهار بطباقته كافة محدِثًا زلزالا لم يعهده كيان العدو.. مئات القتلى والجرحى ينقلون في طوافات اليهود، قدر عددهم حسب إحصاءات العدو بـ 140 إصابة ما بين ضابط وجندي.
ومضت السنوات واحدة تلو الأخرى دون أن يعرف أحد من يكون، سنوات ثلاث تساءل فيها العدو والصديق من تراه يكون ذلك البطل؟ من أي الارحام ولد؟ إلى أن زفته المقاومة في بيان لائق إبان الخروج الأول للاحتلال الإسرائيلي من الجنوب في العام 1985، حيث أعلن اسم الشهيد "أحمد جعفر قصير/ حيدر" منفذ عملية "خيبر" الاستشهادية.
جسدٌ تناثر في مركز الحاكم العسكري، بدَّد آمال اليهود وحطَّم طموحاتهم، أبكى "شارون" وهدَّ أسطورة الجيش الذي لا يقهر.. لقد قهره أحمد بعزمه وإبائه، وأرسى قواعد الفداء، وشق طريق النصر المؤزر.