ارشيف من :آراء وتحليلات

القطاع العسكري الروسي في تطور مستمر

القطاع العسكري الروسي في تطور مستمر

منذ تثبيت ما اصبح بالإمكان تسميته "العهد البوتيني" في تاريخ الدولة الروسية المعاصرة، فإن الجيواستراتيجيا والجيوإيكونوميكا والجيوبوليتيكا الروسية بأسرها أخذت تتمحور كليا حول الصناعة الحربية. حتى قطاع الطاقة فائق الأهمية (النفط والغاز والطاقة النووية للاغراض السلمية) اخذ يخضع لضرورات وحاجات الصناعة الحربية. وتعمل الدولة الروسية لترسيخ هذه القاعدة كي تصبح بمثابة العمود الفقري لوجود الدولة. وتستند هذه القاعدة الى الثوابت الأساسية التالية:

روسيا هدف تاريخي لمطامع الدول الاستعمارية القوية

أولا ـ ان روسيا المسالمة، ولكن الغنية بمواردها الطبيعية، تواجه جبهة أعداء ـ على رأسهم الولايات المتحدة الأميركية ـ لديهم ميزانيات حربية تبلغ اضعاف اضعاف الميزانية الدفاعية الروسية. وهؤلاء الأعداء يطمحون الى الاستيلاء على الأرض الروسية ونهب خيراتها، اما بنتيجة الاستسلام والخنوع التام للشعب الروسي العريق، واما عن طريق الإبادة الكاملة لهذا الشعب.

العداء الغربي المتأصل ضد روسيا

ثانيا ـ مهما كانت روسيا مسالمة ومنفتحة ومتعاونة خارجيا، فإن جبهة الأعداء تظل تطبق حيالها سياسة الاستفزاز والحصار والمقاطعة، لاضعافها ومنعها من التطور اقتصاديا، في ظروف السيطرة "القديمة" لجبهة الأعداء على العملات الصعبة والمؤسسات الاقتصادية الدولية والأسواق العالمية. واذا كانت روسيا تمتلك النفوذ والهيبة الدوليين، فذلك بفضل قوتها العسكرية، اكثر مما هو بفضل قوتها الاقتصادية.

ويعود هذا العداء الغربي المتأصل ضد روسيا الى أيام الإمبراطورية الرومانية، التي ـ بعد ان وصلت الى سواحل البحر الأسود، كانت تنوي الالتفاف جنوبا نحو الصين والهند وطعنهما بالظهر والسيطرة عليهما، والالتفاف شمالا نحو بحر البلطيق وبحر الشمال وطعن أوروبا الغربية في الظهر والسيطرة عليها. والذي كسر المشروع العالمي الروماني هو الجماعات البشرية الفقيرة والمشتتة التي كانت تعيش في ما يسمى اليوم روسيا، والتي اخذت تحمل اسم "الأماجد"(جمع: مجيد) (الترجمة الحرفية لكلمة: سلافي، سلافيون).


الحرب العالمية الثانية مشروع عالمي فاشل للقضاء على روسيا

ثالثا ـ بداية الحرب العالمية الثانية سارت التطورات كما يلي: تخلفت الولايات المتحدة الأميركية عن الدخول في الحرب ضد هتلر، فاسحة المجال لالمانيا النازية كي تحتل غالبية الأراضي الأوروبية (باستثناء الجزيرة البريطانية) وتسخّر كل الصناعة ومصادر الخامات الأوروبية واليد العاملة الماهرة في المناطق المحتلة في خدمة الجيش النازي الذي تمكن بهذه الطريقة من تعبئة اكبر عدد ممكن من الالمان في الخدمة العسكرية تحضيرا لمهاجمة الاتحاد السوفياتي والقضاء على روسيا. وفي الوقت نفسه كانت القيادة السوفياتية (الستالينية حينذاك) "لا تصدق!!!" ان هتلر سيهاجم الاتحاد السوفياتي، وتركت البلاد تتعرض للضربة الأولى في الحرب مما كبد الاتحاد عموما وروسيا خصوصا خسائر بشرية واقتصادية ومادية هائلة.

الضربة الأولى ستكون لروسيا وليس ضدها

واليوم، في ظروف احتمالات الحرب النووية، فإن احتمال تلقي روسيا الضربة الأولى في الحرب النووية اذا نشبت، لا سمح الله، فهذا ربما يعني إزالة روسيا تماما من الوجود. ولهذا فإن القيادة الروسية الحالية، ومعها كل الشعب الروسي بمن فيه المعارضة كلها (باستثناء ربما بعض شراذم المعارضة العميلة)، هي مصممة تماما ان لا يكون تلقي الضربة الأولى من نصيب روسيا. والمعادلة التي وضعتها القيادة الروسية امام القادة العسكريين والعلماء الروس هي كما يلي: لن نكون المعتدين، ولكن الضربة الأولى ستكون لنا ضد الأعداء، وتكون حتما ضربة نووية، وتكون حتما الضربة الأولى والأخيرة، أي إزالة جبهة الأعداء من الوجود تماما.

القطاع العسكري الروسي في تطور مستمر

والقادة الغربيون وحلفاؤهم جميعا، كبيرهم وصغيرهم، يعرفون أن روسيا ـ حسمت امرها نهائيا وهو نكون او لا نكون!. ولذلك فإن كل الدبلوماسية والجيواستراتيجية الغربية المعادية لروسيا تدور ما دون سقف المغامرة باشعال الحرب العالمية التي نكاد نقول ان نتائجها أصبحت معروفة سلفا.    

الصناعة الحربية محور الاقتصاد الروسي

رابعا ـ تأسيسا على كل ذلك وضعت القيادة البوتينية امام روسيا القاعدة الاقتصادية ـ الاستراتيجية التالية: ان الصناعة الحربية الروسية هي المحرك الأول للاقتصاد الروسي. وان الاقتصاد الروسي بمجمله يتمحور حول المجمع الصناعي الحربي.

وهذا يعني ان الأولوية في التوظيفات الداخلية والاستثمارات الخارجية والعملات الأجنبية المتوفرة من التجارة الخارجية (ولا سيما بعد وقف انفاق دولارات البنك المركزي في الدعم المصطنع للروبل) والقروض وسندات الدولة والنشاطات المخبرية والعلمائية، ينبغي ان توجه أولا نحو المجمع الصناعي الحربي بهدفين رئيسيين هما:

ـ1ـ التحديث والتطوير المستدام للقوات المسلحة الروسية وتحقيق تفوقها الدائم على جميع جيوش العالم قاطبة.

ـ2ـ السباق مع عقارب الساعة نحو هدف تحويل روسيا الى "مصنع الأسلحة الأول" و"المصدّر الأول للأسلحة" في العالم. وان تكون الأسلحة الروسية المصدرة هي الأفضل والارخص ثمنا، من اجل تسليح جميع دول العالم الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، خارج دائرة الدول الرئيسة المعادية ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، كي يتم إيجاد "توازن قوى عالمي".

بناء على هذه الأسس وقع الرئيس بوتين مؤخرا المرسوم رقم 560 والمتعلق بالشروع في برنامج السنوات الخمس (2016 ـ 2020) للدفاع لجمهورية روسيا الاتحادية (والذي هو جزء من برنامج الدفاع 2020 الذي سبق الإعلان عنه). ونشر المرسوم في الجريدة الرسمية واتخذ الصفة القانونية. واصبح المرسوم نافذا منذ لحظة توقيعه، ويبدأ التنفيذ العملي في 1 كانون الثاني القادم.

ويعتبر الخبراء ان هذه الوثيقة هي جديدة نسبيا في تاريخ البرمجة العسكرية. فالوثيقة الشبيهة بها للبرمجة العسكرية كانت محدودة بسنة 2016، وقد صودق عليها في كانون الثاني 2013. وكان محتواها يتصف بالسرية. ولم يطلع عليها إلا مسؤولو القطاعات الرئيسية في البلاد. ولكن في الشهر الماضي اجتمع الرئيس بوتين مع هيئة الجنرالات الروس وبحث معهم البرنامج الدفاعي لسنة 2020. وقال بوتين "ان الوضع يتغير، بل يتغير بسرعة. ووثائق التخطيط العسكري ينبغي ان تكون واضحة للجميع ومحددة". ولكن ليس من المعلوم ما الذي جرى تحديده في برنامج الدفاع الجديد. واكد بوتين ان برنامج الدفاع يتضمن بشكل خاص "تحديد المخاطر المحتملة، والتهديدات لامن الدولة، التي تتعلق بنشاطاتنا في مجالات أساسية، مثل تطوير القوات المسلحة وتحقيق برنامج التسلح، وتدريبات التعبئة والدفاع عن الأرض...".

عسكرة اجتماعية عامة

وأعلن وزير الدفاع سيرغيي شويغو انه سيجري إعادة تنظيم القوات المسلحة، واجراء مناورات تدريبية استراتيجية واسعة النطاق، وزيادة صلاحيات هيئات الأركان المناطقية. ويمثل برنامج الدفاع الجديد منظومة من الوثائق المتعلقة بحقل الدفاع والامن للبلاد، التي ينبغي ان يقوم بتنفيذها ليس فقط العسكريون، بل وجميع أجهزة السلطة التنفيذية، والوزارات والإدارات الاتحادية والمناطقية.

وفي رأي بعض الخبراء فهذا يعني وضع البلاد والشعب بأسره في حالة استعداد دائم للحرب. وكان شويغو قد صرح ان برنامج الدفاع "عمل عليه فريق كبير من 49 وزارة وإدارة..". ومن الواضح ان شويغو كان يقصد برنامج تسليح الدولة الحالي الذي ينتهي سنة 2020. وهو ما تحدث عنه قبل أسبوع في سوتشي بوتين، اذ قال "ان تكوين جيش عصري، مجهز بأحدث الأسلحة والتكنولوجيا الحربية، يبقى طبعا احدى أولويات البناء العسكري. وعلينا ان نحافظ على هذا النهج في أي وقت كان. ومهمتنا نحن واياكم هي تحقيق جميع البرامج المتفق عليها". هكذا حدد رئيس الدولة المهمات المطروحة في قطاعات المجمع الصناعي ـ الحربي".

وخلال اجتماعات سوتشي ذكر نائب رئيس الوزراء والمدير العام للمجمع الصناعي ـ الحربي، دميتريي روغوزين، ان بوتين طرح أيضا فكرة الشروع في التحضير لبرنامج السنوات الخمس للتطوير العسكري (2021 ـ 2025)، ولكن الفكرة لا تزال ضمن حلقة ضيقة، ولم تطرح بعد في أي اجتماع موسع للقيادات المعنية.

وفي الوقت ذاته يمكن التأكيد ان "المخاطر والتهديدات المحتملة ضد امن الدولة"، المعروضة في برنامج الدفاع الحالي، سيتم في وقت قريب رفع السرية عنها، وعرضها بشكل مكشوف في "استراتيجية الامن القومي" المجددة، وهو المشروع الذي تم بحثه في اجتماع مجلس الامن القومي لروسيا الاتحادية في الشهر الماضي. واعلن في الكرملين رسميا ان "استراتيجية الامن القومي" المعدلة ينبغي ان تقدم الى بوتين قبل نهاية سنة 2015.

ويلفت المراقبون الانتباه الى ان بوتين قد أوصى بتعديل "الاستراتيجية الروسية، بعد ان قامت وزارة الحرب الأميركية بنشر "استراتيجية الامن القومي" الخاصة بها. وجاء في تلك الوثيقة ان روسيا الاتحادية هي بلد يستخدم القوة لاجل تحقيق مصالحه، وانها تنتهك الاتفاقات وتقوض الامن الإقليمي. وأميركا، كما يعلنون في واشنطن، هي ملزمة بالرد على التهديدات الروسية المزعومة.    

  ويفسر بعض الخبراء هذا التعديل في "استراتيجية الامن القومي" انه ستبدأ في الظهور قريبا في روسيا "لائحة سوداء" تسمي بالاسماء والوقائع جميع الدول التي تقوم بأي عمل، مباشر او كامن، يهدد الامن القومي الروسي. وسيكون لكل امر مقتضاه من الجانب الروسي.
 

2015-11-28