ارشيف من :أخبار عالمية
في خطاب الإمام إلى شباب الغرب
يكتب إمام المسلمين خطابه إلى العالم عادة، في مراحل مفصلية من أحوال هذا العالم، تتعلق بأوضاع الأمة الإسلامية وغيرها من الشعوب والأمم، الواجب أن تتعارف وتنظم علاقاتها في تبادل المصالح والقيم وتواجه التحديات التي تصنعها الأحداث والوقائع، وهي في مقدمة خطاب سماحة السيد الإمام علي الخامنئي في رسالته إلى الشباب في البلدان الغربية: الأحداث المريرة التي ارتكبها الإرهاب التكفيري في فرنسا والتي يقول السيد: دفعتني مرة أخرى لمخاطبتهم في إشارة إلى رسائل سابقة حصلت في ظروف مشابهة، وإلى تقليد وسنة حسنة اختطها الإمام الخميني (قده) في رسالته الشهيرة إلى الرئيس السوفياتي غورباتشوف، حيث كانت أقوى إمبراطوريات القرن العشرين تتهاوى، في مواجهة التحديات والصراعات التي توجت نهاية القرن الماضي، وأرخت بظلالها إلى أحداث ووقائع القرن الراهن فيما مضى من سنواته الصعبة التي لم تغادرها أهوال حروب الغزو وصولاً إلى حرب الإرهاب التكفيري المعولمة..
تفيد هذه الديباجة أن السيد التقط اللحظة التاريخية المناسبة، ليوجه خطابه في وقت تكون فيه أنفس العالم مستعدة للإصغاء والسماع، وتكون الأحداث محفزة للبحث عن أسبابها ودوافعها وتثير أسئلة مصيرية تطلب أجوبة فاصلة، يكون فيها الشرح كافياً لكشف الغطاء، عن البصر والبصيرة، وتعطي الكلمة الطيبة في هذه الحال نتائجها المطلوبة وتبلغ مقاصدها العالية.
هذا من ناحية لحظة الخطاب التاريخية، أما من ناحية طبيعة المرسل إليه والذي عليه أن يتلقى رسالته في إقصاصها الصريح، وإشاراتها البينة فإنه اختار فئة الشباب من الناس مرسلاً إليه الخطاب، لأن نفس الشباب تكون مستعدة للإصغاء، قادرة على الفهم، ساعية إلى تحقيق الأغراض، والذهاب إلى المقاصد، ومواجهة التحديات وصناعة المستقبل.
واختيار شباب العالم الغربي فيه ما فيه، من القول، إن الإدارة الهرمة لهذا العالم، لا تتمتع بحكمة الشيوخ، وإن كانت تملك كل ما يجعلها متمسكة بمكاسب الأطماع، اعتادت على ما اعتادت عليه، وأوصلت العالم إلى هذه الحال المزرية المريرة، ويكون إصلاح الأوضاع بهمة الشباب وسعيهم إليه.
الخطاب موجه إلى شباب العالم الغربي ولا يستثني شباب العالم الإسلامي، من مسؤولية الاستعداد للمشاركة في مواجهة التحديات وصناعة مستقبل العالم المعاصر. إن نفس العالم تحتاج إلى الإصلاح، والنفس الإنسانية في ريعان الصبا، تكون قادرة على تقبل الواردات والإشارات والتنبه إلى معانيها السامية، والسعي من جديد، بهمة عالية، للإصلاح والخلاص.
الأحداث المريرة توفر أرضيّة للحوار، والخطاب مائدة حوار؛ تنبسط وتمدّ للقابلين النظر في القضايا المؤلمة التي توفر الأرضية للتفكير بالحلول، وهذه الأرضية هي الحوار الذي يقيمه الخطاب، إنه دعوة للحوار، وفرصة لتبادل الأفكار..
يبدي سماحته ألمه لما يحدث في العالم المعاصر من أعمال الإرهاب وما يصيب الإنسان من خسارة وألم وحزن، ويقدم صورة مفعمة بالوجدانية والتعاطف الإنساني مع ضحايا الإرهاب التكفيري.
ويرى فيما تحدثه محلاً لإثارة الشعور الإنساني واندفاعه للتفكر في طريقة الخلاص. إن آثار الإرهاب وما تثيره من آلام تلحق بالإنسانية جمعاء، في العالم الإسلامي من فلسطين والعراق ولبنان وسوريا إلى العالم الغربي في أحداث فرنسا المؤلمة ومشاهدة هذه الآلام والفواجع تدفع العالم للبحث في مستقبله ومصائره، مستفيداً من اللحظة الراهنة، حتى لا يكون الأمر مجرد تفجع على حدث وواقعة، دون البحث في كيفيّة مواجهة أسبابها ولا تبقى ذاكرة تختزن ذكريات مرة عديمة الفائدة.
الدعوة صريحة في خطاب الحوار والتفكر والتأمل، والبحث عن سبل الخلاص من الإرهاب المعولم الراهن، وقول موجه للشباب القادر على مواجهته، وبناء مستقبل سعيد.
لكن كيف يمكن إيجاد الأفكار الجديدة لبناء مستقبل العالم المنشود؟
يقر الامام، في أسلوبه الجدليّ المتين أن الإرهاب أصبح اليوم الهم والألم المشترك بيننا وبين العالم وأن الغرب يعاني من القلق وانعدام الأمن من الأحداث الأخيرة. لكن هذا القلق والألم ساكن مقيم في ديار المسلمين، مترافق مع إرهاب مستدام، كانت حروب الغزو الأميركي – الأوروبي قد حملتها مع استراتيجيتها العدائيّة إلى العالم الإسلامي. وقد تمثل ذلك في تنامي ظاهرة العنف وشمولها مناطق المسلمين وانتقالها إلى الغرب الأوروبي، ويرى السيد بنظرة فلسفية إلى العنف يمكننا تعينها فيما يلي:
1- إن ظاهرة العنف نتاج المجتمع الرأسمالي الغربي، استورده العالم فيما استورد من بضائع وقيم محرّفة، ولا يخلو عالمنا أيضاً منها لكنها تمكنت عندنا بواسطة دعم الغرب، بطرق متعددة لهذه الظاهرة.
2- إن حلفاء الغرب في العالم الإسلامي، من الدول والحركات الفكرية والسياسية، يمثلون النواة التي ولدت ظاهرة العنف عندنا، والكتلة التي تغذت بدعم الغرب لأشكال نموها.
3- إن ازدواجية النظر، والتحالف مع الدول الاستبدادية المنافية للديمقراطية، رافقه معاداة الدول ذات المنحى الديمقراطي الصريح في بلادنا، وهذه ملاحظة فلسفية في غاية الأهمية تقوم على لفت النظر إلى أن الغرب وقف إلى جانب الاستبداد والعنف وكتلته في العالم الإسلامي فيما يدعي حرصه على تأييد المنحى الديمقراطي، الأمر الذي يقرب سياسة الغرب، من دبلوماسية النفاق السياسي الصريح.
تتمركز السياسات الغربية في العالم الإسلامي إلى جانب تأييد أنظمة الاستبداد المجافية للديمقراطية، بتقديم الدعم الكامل لدولة العدو الصهيوني، الممثل الرسمي لإرهاب الدولة والاحتلال في العالم المعاصر. ويكشف سماحته أن ما يقوم به العدو الصهيوني المحتل لفلسطين يفوق بشاعة ما تقوم به حركات الإرهاب التكفيري، حيث يظهر أنه النموذج والأصل، الذي تحاكيه بقية أشكال العنف القائل...
يلفت الخطاب الغرب الأوروبي في هذه الناحية أعلاه، إلى مخاطر السياسة الخارجية الأميركية وما جلبته على بلادنا وعلى أوروبا الغربية المجاورة لشبه القارة العربية الإسلامية، من خلال سياسة دعم الاستبداد وتأييد الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
الارهاب التكفيري والصهيوني
إن النظر في أصل الإرهاب الراهن يضع الإرهاب الصهيوني والإرهاب التكفيري في سنخية واحدة، ومرتبة واحدة، ولا يمكن الفكاك بين طرفي هذا الإرهاب ولا تقديم صورة محسنة لواحدٍ منها بطريقة، تعطل بشكل واضح معركة مواجهة هذا الإرهاب.
يتوجه آية الله العظمى في خطابه بطريقة مباشرة وصريحة إلى الشباب في الغرب بالقول: إنني آمل أن تغيروا أنتم في الحاضر والمستقبل هذه العقلية الملوثة بالتزييف والخداع والعقلية التي تمتاز بإخفاء الأهداف البعيدة وتجميل الأغراض الخبيثة.
ثم يبادر لكشف أسباب العنف بأنها هنا يلزم إصلاح الأفكار المنتجة للعنف في أماكن أخرى. وقصد هذه الإشارة أن العنف ليس إنتاجاً إسلامياً، ولكنه صنيعة السياسات التي عملت على تصنيعه في مدارس ومصانع ومؤسسات النظام الصهيوني وأنظمة الاستبداد وتلقت كل الرعاية والدعم والتأييد والمساندة من السياسات الأميركية المتعاقبة، والتي ندفع ثمن ما صنعت يداها، في العالم الإسلامي وفي الغرب الأوروبي.
ليست السياسة، كفعل مباشر، وحدها من صنع ظاهرة العنف، وإنما أساس مادتها بصنعه ثقافة العنف. إن العنف وليدة ثقافة العنف، وينمو بدعم السياسات المساندة لأنظمة العنف؛ ومعتمدي إنتاجه المتنوع.
في هذا الموضع من الخطاب، تحليل فلسفي للثقافة المنتجة للعنف وللغزو الثقافي للعنف، الذي اجتاح العالم الغربي والإسلامي، لكن مصدره المجتمع الرأسمالي الغربي مستخدماً أدواته المتطورة في التواصل والإعلام والاقتصاد والسياسة وكل أشكال ما يعرف بالحرب الباردة، أو الغزو الثقافي، وهي لغته في غاية الأهمية لأقطاع مصانع العنف المزدهرة في الغرب، والمتوفرة عندنا في صيغة مبدعة في تعبير السيد بقوله: "إن التقاء الاستعمار بفكر متطرف منبوذ نشأ في كبد قبيلة بدوية زرع بذور التطرف في هذه المنطقة".
يكشف الإمام عن مصدرين متضافرين للعنف هما:
1) البيئة الفكرية والروحية في المجتمعات الغربية طوال سنوات الازدهار الصناعي والاقتصادي وحالات عدم المساواة والتمييز القانونية والبنيوية.
2) التقاء الاستعمار والفكر التحريضي المزروع في قبيلة بدوية، وهذه لغة إشارية اعتادها العرفاء، في الكشف عن الحقائق، حيث الدلالة تذهب إلى الوهابية وحلفها مع آل سعود والتأييد الغربي وخاصة لأميركا لها على امتداد العقود.
وإذا كانت أحوال المجتمعات الغربية قد أنتجت عنفها الخاص فإن المصدر الآخر للعنف أنتج ظاهرة داعش الخبيثة في المجتمعات الإسلامية.
يقدم السيد الأدلة الفعلية وكذلك التاريخية على ما يذهب إليه فيذكر أن التاريخ الإسلامي لم يشهد قبل فترة الاستعمار ظاهرة عنف شبيهة بالظاهرة الإرهابية لداعش وأخواتها وأن مدرسة الإسلام الأصيل تعتبر من قتل نفساً واحدة كأنما قتل الناس جميعاً... وعلاقات المسلمين بالشعوب الأخرى كانت مثالاً يحتذى... ويقدم دليله حول أثر الثقافة الغربية في إنتاج العنف على التحاق الشباب الغربي بحركات إرهابية مثل داعش وغيرها. عنف مستورد، وثقافة مستوردة وأطماع استعمارية تعدّل ليس فقط في موازين ثروات الأرض، وإنما هي أمزجة سكانها.
وإذا كان المسلمون ليسوا صنّاع العنف العالمي الراهن فإن محاسبتهم تدخل العالم في دائرة عنف جديدة، لا تقل بشاعة عن العنف المستشري، وعليه فإنه ينبه من مخاطر ردود الفعل ضدَّ المسلمين في أوروبا، تدفعهم نحو العزلة والخوف وتزيد المسافات الفاصلة وتكرس الحزازات وتفتح الطريق أمام أزمات مستقبليّة.
خاتمة الخطاب وهي على ما تقتضي البلاغة ملخص مقاصده يطلب سماحة الإمام، من الشباب في البلدان الغربية أن يرسوا تعاملا صحيحا وشريفا مع العالم الإسلامي، وهي دعوة للتعارف والتحاب بعد خطاب الحوار، والدعوة إلى مكافحة الإرهاب وفي هذه الحال تشرق أنوار المستقبل الزاهر على أرض المعمورة.
من يعرف ثقافة صاحب الخطاب ولغته المشرقة بالنور، يدرك المعاني الظاهرة والباطنة، لهذه الكلمات المختارة من الأدب الإيراني الإسلامي المشعّ بأسرار الخلاص والجمال...