ارشيف من :نقاط على الحروف
المملكة العربية السعودية: ثقافة المنع
"أسمع هناك أصواتاً كثيرةً تقول: اسحقهم، اقتلهم، لا تترك أحداً منهم حياً"
مكبث (من مسرحية مكبث لشكسبير)
يخطئ من يعتقد أنَّ "ثقافة المنع" أمرٌ عارض لدى المملكة السعودية. يخطئ كثيرون في اعتبار أنَّ فكرة "لا" تتجسد فقط في الأمور التي تضعها المملكة ضمن اعتباراتها، وكي لا يبدو الكلام خلبياً، دون أي إطار، يمكن إدراج (إنزال-إيقاف-منع بث) قناة المنار عن قمر عربسات واحداً من هذه الـ"لاءات" التي تختلف باختلافٍ جذري عن "لاءات" العروبة إبان عهود الأنظمة المقاومة كعبد الناصر وسواها. فالعروبة هذه المرّة غيّرت شكلها وارتدت لبوساً سعودياً خالصاً .
ثقافة خاصة
ترتبط الـ"لا" السعودية أو ثقافة المنع السعودية ارتباطاً جذرياً بأنّهم يمنعون أي أمرٍ يعتقدون أنه ولو بنسبة واحدٍ في المئة يخالف ما يريدونه أو يفكّرون به. غير مسموحٍ أن يكون هناك رأيٌ آخر، غير مسموحٍ أن يكون هناك فكرٌ آخر، مذهبٌ آخر، وجه آخر، مفكرٌ آخر. الأمر الأكثر اضحاكاً كان بلا شك حينما ترى بضع قنواتٍ خليجية ذات تمويلٍ هائل، يقودها شيخٌ/أمير يعرف عن "التلفزة" ما يعرفه عامل بناءٍ بسيط عن تقنيات تخصيب اليورانيوم. هذا الشيخ/ الأمير يقود تلك القناة "نحو المستقبل" كما تقول إعلانات القناة ذاتها، والأنكى من هذا كلّه أنه يقوم –وبكل وقاحة- بتقديم برنامج "نصائح" أسبوعي حول التجارة، الاقتصاد، وفوق كل ذلك الدين! كيف يمكن ذلك؟ إنه عصر ثقافة المنع السعودية.
هذه المرّة يكتسي المنع سلوكاً أكثر تأثيراً من الاعتياد الذي عرفته المنطقة، في السابق كانت الأنظمة القمعية تلجأ إلى اسكات المعارضين، اخفاء أصواتهم، إخافتهم، وصولاً إلى ما هو أكثر من ذلك من خلال تصفيتهم الجسدية. تفتق العقل السعودي القمعي عن سلوكٍ مميزٍ آخر، فأسلوب "قتل" المعارضين أو التخلّص منهم في "ظروفٍ غامضة" لم يعد متاحاً لكثيرٍ من أسباب، أبرزها قوّة الإعلام الغربي، خصوصاً مع تواجد معظم هؤلاء المعارضين في العواصم الأوروبية، إضافةً إلى أنَّ عددهم في تزايد، وقتل أحدهم يعطيهم مزيداً من الدعم والقوة والزخم حتى من خلال تحويله إلى شهيد على مذبح الحرية والقضية في حد ذاتها. إذا ما العمل؟
وجدت "ثقافة المنع" السعودية الوسيلة الأفضل والأقوى و"الأنجع" حتى اللحظة في التخلّص من أي "منافسةً" من أي نوع عبر "المال". ولا نتحدّث ههنا عن المال غير المباشر، والذي تدفعه المملكة للغالبية العظمى من صحف ومطبوعات العالم العربي (والغربي حتى)، بل نحن نتحدث عن المال المباشر من خلال إنشاء ورعاية قنواتٍ مؤسسات إعلامية سعودية المال، أو سعودية التأثّر والتأثير.
تغطّي هذه المطبوعات السعودية المعنى واللون والرائحة كل الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، ولا تحمل إلا لغةً واحدة: لغة المنع.
يمنع منعاً باتاً أي مثقفٍ لا يصفّق للسلطان، والسلطان ههنا كما أسلفنا الذكر قد غيّر اسمه فأصبح "ملكاً" و"خادماً للحرمين" وسواها من الأسماء التي لا تعطى إلا "لملكٍ" لا يجوز أبداً الحديث عنه بأي سوء. ومن هنا تحديداً بدأت القطيعةٌ المنطقية بين لغة الشارع ولغة الخطاب في تلك الوسائل الإعلامية. ففي الشارع كان الملك السعودي يشتم يومياً، والسياسة السعودية تشتم يومياً على امتداد الشارع العربي، ومع هذا كان الاعلام الرسمي وغير الرسمي، الممول بغالبيته نفطياً يسبّح بحمد المملكة، ويذكر محاسن ملوكها، حتى إن أحد الإعلاميين العرب كتب كتاباً (من ستة أجزاء) يشرح فيه فضائل الملك عبدالله بن عبدالعزيز؛ مع العلم أن الملك المذكور اضافة الى إصابته بالزهايمر وتوليه الملك هرماً في السن(على عادة الملوك السعوديين) لم يكن الأذكى أو الأهم أو حتى الأقوى بين أشقائه، لكن لا مشكلة، ألم يكن الملك عبدالله ملكاً آنذاك؟ أليس هو "ولي النعمة" و"صاحب الأمر" إذاً فلنرقص مع الراقصين، ولنغنّي مع المغنيين.
المكنار شعلة لا تنطفىء
حاصرت وسائل الإعلام النفطية جميع الأصوات التي اعتبرتها "نشازاً"، وقضت بشكلٍ نهائي على أي "حالمٍ" بالتغيير، فأي قلمٍ يريد الكتابة عكس التيار النفطي منع منعاً باتاً، حتى إن غالبية هؤلاء سافروا إلى أوروبا ليكتشفوا الطامة الكبرى: لقد لحقتهم المملكة إلى أوروبا أيضاً. إنها ثقافة المنع في كل مكان.
المنار توقعاً:
لم يكن ما حدث مع تلفزيون المنار بالحدث الجديد غير المتوقع، فمن يقرأ الأحداث قراءةً شاملة يعرف بشكلٍ منطقي بأن إيقاف القناة وإنزالها عن قمر العربسات كان أمراً بديهياً ينتظر الوقت لا أكثر ولا أقل، فعلى الرغم من أنّها ترتبط بعقودٍ كثيرة، وضمن عدّة اتحاداتٍ عربية وإسلامية، إلا أنَّ المال/كما القرار السعودي أقوى بكثيرٍ من قرارات اتحادات لا قيمة فعلية وحقيقية لها إلا بمقدار الارتباط السياسي بها.
باختصار كان من الطبيعي أن يصل الأمر بالسعودية إلى قطع أي صوتٍ "مخالف" فلماذا تختلف المنار؟ قد يسأل البعض لِماذا تأخر الأمر حتى اللحظة؟ أي أنه لماذا لم تمنع القناة وقتما منعت قناة المسيرة اليمنية؟ ببساطة لم يعلن السعودييون صراحةً أنهم دخلوا الحرب على لبنان، ثم إنّ لهم حلفاء تاريخيين في لبنان؛ لذلك فإنّه من المنطق أن يتأخر الأمر قليلاً، الأكثر من هذا فإن السعودي ينتظر دائماً استطلاعات الرأي ومؤسسات الدراسات الغربية التي يدفع لها الكثير ليرى تأثير القناة على المجتمعات العربية العامة ؟ هل لها تأثير فعلي وحقيقي على الشارع العربي والإسلامي؟ أثبتت المنار إذاً من خلال المنع السعودي لها أن تأثيرها أقوى من التصريح السعودي.
يخشى الامير السعودي المعتاد ذاته أي صوتٍ حقيقي يخالف ما يريده أو يقول له الحقيقة، يخشاه حد القتل، لذلك فإنه يسعى بكل ما أوتي من قوةٍ لإخماده، من هنا كانت ثقافة المنع، وهي ستستمر لا لسبب إلا لأن هذا الأمير - الذي لا يعرف عن الإعلام وحرية الرأي شيئاً - يعتقد بأنَّ قيامه بذلك يسكت الناس أجمعين.