ارشيف من :أخبار عالمية

القيادة السعودية تتخبط في أزمات المنطقة

القيادة السعودية تتخبط في أزمات المنطقة

عند انهيار السلطنة العثمانية في نهايات الحرب العالمية الأولى، فر الجنرالات والولاة الاتراك الى إسطنبول، تاركين وراءهم جنودهم وضباطهم الصغار يتسكعون في المدن والقرى العربية في لبنان وسوريا والأردن وفلسطين والعراق. وعلى أنقاض تلك السلطنة ظهرت "اتفاقية سايكس ـ بيكو" و"وعد بلفور".

منطقة التجاذب والصراعات الجيواستراتيجية العالمية

ونظرا لأهميتها التاريخية والاستراتيجية، تحولت المنطقة بأكملها الى بؤرة تجاذب وصراعات جيواستراتيجية عالمية. وعشية نهاية الحرب العالمية الثانية في 14 شباط 1945  عقد لقاء بين الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس الأميركي الأسبق تيودور روزفلت على متن الدارعة الأميركية كوينسي في البحيرات المرة في قناة السويس بمصر، نتج عنه اتفاق بوضع اميركا يدها على نفط السعودية والخليج، مقابل الحصول على عائدات "عادلة" حسب التقدير الأميركي، والسعودي على مظلة "الحماية" من اميركا.

بفضل الضمانات العسكرية والأمنية والمالية، بالإضافة الى الهالة الدينية، انتهجت القيادة السعودية سياسة ذات الوجهين:


1- خلف الستارة: استخدام اطراف ثالثة
فخلف الستارة كان يعمل بهدوء ودهاء (وبدون ضجة إعلامية ما امكن) على تنفيذ السياسة التي يريدها بواسطة اطراف ثالثة تبدو أحيانا ظاهريا مخاصمة له.

2- امام الستارة... الترفع المصطنع!
اما امام الستارة فقد درج النظام السعودي على التظاهر بالترفع عن أي من النزاعات في الساحة العربية وانه ليس طرفا في أي نزاع، بل صديق الجميع ويساعد الجميع، حتى خصومه ومنتقديه (طالما ان الانتقاد لا يخرج عن نطاق مقاييس "الاعتدال" ولا يطال رموز واسس المملكة).

ومن اجل المحافظة على هذه الصورة المهيبة كانت المملكة تحرص اشد الحرص على عدم خروج أي صوت سعودي معارض خارج حدودها، اما المعارضة الداخلية فكانت تقمع بشدة لا نظير لها وينفذ عليها نظام الصمت المطبق.

ولكن الاحداث الأخيرة المترافقة او الناتجة عن "الربيع العربي" المشؤوم، الذي اطلقته المخابرات الأميركية، ألزمت السعودية على الخروج عن سياستها التقليدية المحافظة والمتحفظة. فبدأت على العلن بدعم التكفيريين وتدريبهم لتنفيذ مخططاتها في المنطقة لكنها فشلت في كل من ليبيا ومصر وغيرها. أما الفشل الاكبر فكان في سوريا، فعلى الرغم من الحصار الكبير بغية اسقاط نظام الاسد فان الخطة فشلت فشلا ذريعا، فلم يسقط النظام السوري ولم يستطع احد ان يهز اصبعا بوجه القاعدة الروسية في طرطوس، بل على العكس انقلب الزورق وبدأ الصراخ والشكوى.

القيادة السعودية تتخبط في أزمات المنطقة

ولكن بصرف النظر عن الجعجعة الاعلامية الفارغة فإن القيادة السعودية اضطرت للخروج عن تقاليدها التحفظية، وقررت التدخل مباشرة في المعركة السورية بطريقتين:
الأولى الدعوة الى التفاوض بين المعارضة المسلحة "غير الإرهابية" وبين النظام السوري، ودعت الى اجتماع في الرياض للمعارضة حشرت فيه كل المنظمات الإرهابية، بما فيها امتدادات داعش والقاعدة، ولكن تحت مسميات أخرى، بهدف انقاذها من الضربات الروسية واعطائها دورا في مستقبل سوريا.

والطريقة الثانية هي ان القيادة السعودية خرجت بمبادرة الى تشكيل قوة جوية عربية وإسلامية مشتركة، على طريقة قوة التحالف التي شكلتها ضد اليمن. وكان الهدف المعلن لانشاء مثل هذه القوة هو المشاركة في مكافحة المنظمات الإرهابية في سوريا، ولكن الهدف الحقيقي غير المعلن فهو ـ وبحجة التنسيق ـ عرقلة فعاليات القوة الجوية الروسية ومساعدة المنظمات الإرهابية التي تدعمها السعودية على تجنب الضربات الروسية.

روسيا تتهم السعودية بالاسم

ولكن بعد تفجير الطائرة المدنية الروسية فوق سيناء وقتل ركابها الأبرياء الـ224، والتحقيقات التي أجرتها الأجهزة الروسية والدولية المعنية بهذه الجريمة النكراء ضد الإنسانية، وصدور بيان روسي يتهم بالاسم السعودية وقطر وتركيا بالمشاركة في هذه الجريمة، وبعد "الغلطة المميتة" لنظام اردوغان باسقاط الطائرة الحربية الروسية غدرا، وقتل الطيار على ايدي ازلام اردوغان شخصيا، وامتناع القيادة الروسية عن القيام بأية ردة فعل انفعالية انما البدء بتطبيق مقاطعة اقتصادية شديدة وحصار خانق حول تركيا ضمن خطة متكاملة ـ لإزالة تركيا تدريجيا من الوجود كدولة...

بعد هذه التطورات المترافقة مع النجاحات المتواصلة التي تحققها الحملة الروسية والتي زادت من فعالية الجيش السوري، وانعكست إيجابا على الحملة العسكرية المعادية لداعش في العراق، وقفت السعودية في منتصف الطريق لا تدري هل تتقدم او تتراجع عن قرارها بانشاء قوة جوية عربية بقيادتها للتدخل في سوريا.  

قبل اكثر من سنة حقق الحوثيون وتيار انصار الله انتشارا عسكريا على كامل الأراضي اليمنية، بما في ذلك عدن وباب المندب، وذلك بدون قتال بشكل عام، باستثناء بعض الاشتباكات مع عناصر تنظيم القاعدة حيثما تواجدت. وبدأ تشكيل هيئات السلطة من جديد بعد الفوضى التي عمت البلاد في اعقاب موجة "الربيع العربي" المشؤوم في اليمن. لا بل بدأت المفاوضات بين جبهة الحوثيين وانصار الله وانصار الرئيس علي عبدالله صالح، من جهة، وانصار الرئيس الفار عبد ربه منصور هادي من جهة ثانية، لتشكيل حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها جميع القوى السياسية والقبلية والمذهبية في البلاد.

اشعال الحرب في اليمن

فجأة وبدون تفسيرات واضحة، بدأ جناح الرئيس المنتخب وحكومته يعرقلون المفاوضات، ثم انسحبوا الى السعودية. وبدأت العمليات العسكرية لطرد الحوثيين وتيار انصار الله من المدن والمناطق اليمنية، بدعم واضح من السعودية ودول الخليج الموالية لها. وفسر بعض المراقبين ذلك بأن السعودية لم تكن راضية من الأساس عن مفاوضات الوحدة الوطنية في اليمن، وعن بناء دولة يمنية موحدة وقوية الى جوارها، تمسك بيديها ممر باب المندب ذي الأهمية الجيوستراتيجية والاقتصادية العالمية، وكانت تريد من اليمن ان تكون مدى حيويا ودولة خاضعة لها. ولما تأكدت من النزعة الاستقلالية للحوثيين وانصار الله وحلفائهم، عملت على تعطيل المفاوضات واشعال الحرب الاهلية في اليمن.

القيادة السعودية تتخبط في أزمات المنطقة

وخوفا من العواقب الوخيمة لهزيمة الجناح اليمني التابع لها، اطلقت السعودية حملة إعلامية شرسة، دعمتها آلة البروباغندا الغربية ـ الصهيونية بقضها وقضيضها، تتهم فيها ايران بالتدخل في الشؤون اليمنية والمساعدة العسكرية للحوثيين والعمل على "تشييع" اليمن. وكانت هذه الحملة بمثابة تمهيد وحجة للتدخل العسكري السعودي والخليجي ضد اليمن. وكانت السعودية تأمل في تدويل المسألة اليمنية ووضعها تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة واستصدار قرار بموضعة قوات دولية في باب المندب بحجة "مكافحة القرصنة".

اميركا ذاتها تفرمل الاندفاعة السعودية ضد ايران

ولكن بنتيجة فشل الحملة الدولية المعادية لايران فيما يخصّ برنامجها النووي السلمي، ووقوف روسيا بحزم الى جانبها، اضطرت اميركا الى توقيع الاتفاقية النووية مع ايران مما يقتضي رفع العقوبات الاقتصادية عنها، وهذا ما جعل اميركا ذاتها تميل نحو تبريد التوتر مع ايران.

ومع ذلك ظلت السعودية مصممة على تشكيل التحالف ضد اليمن، وبدأت حملة القصف الجوي ضد اليمن منذ اشهر. وفي الشهر او الشهرين الاولين لهذا العدوان السافر، استنفذ كل "بنك الأهداف" العسكرية والقيادية اليمنية، وكل عمليات القصف اللاحقة صارت تستهدف المدنيين والاهداف المدنية اليمنية. ويظهر بوضوح ان الهدف هو التدمير بحد ذاته، وتحويل اليمن الى ارض خراب وتحويل الشعب اليمني الى شعب مشرد وجائع يعيش على المساعدات الخارجية بحيث تحتاج اليمن الى 10 او 20 سنة لاعادة بناء بنياتها التحتية والدور السكنية للمواطنين.

والان فإن عشرات بل مئات آلاف الشبان والرجال والجنود السابقين اليمنيين، الذين دمرت بيوتهم وشردت عائلاتهم ولم يبق لهم شيء يخسرونه سوى كرامتهم التي يفضلون الموت دونها، يتجمعون مع الحوثيين وانصار الله على الحدود اليمنية ـ السعودية، ويتدربون ويتنظمون ويتسلحون ويستعدون بكل الوسائل لاجتياز حدود السعودية ونقل الحرب وتفجير السعودية من داخلها.   

العمل لاشعال فتنة "سنية ــ شيعية"

ولتبرير حملتها العسكرية لجأت السعودية أيضا الى شن حملة طائفية ضد ايران، متهمة اياها بدعم ما تسميه "الإرهاب الشيعي" في لبنان وسوريا والعراق واليمن وباكستان وغيرها. ومن ضمن هذا السياق العكر، جاء الإعلان السعودي عن اعدام رجل الدين السعودي الشيعي المعارض البارز الشيخ نمر النمر ليصب الزيت على نار العلاقات السعودية مع العالم الشيعي بأسره.  

وقد اثار الإعلان عن اعدام الداعية النمر حملة معارضة شديدة في كافة انحاء العالم. وجرت في ايران مظاهرات حاشدة. ولكن للأسف ان بعض المجموعات الغاضبة تمكنت من التغلب على مقاومة الشرطة المكلفة بحماية المؤسسات السعودية واقدمت على احراق السفارة والقنصلية السعوديتين في طهران ومشهد.

ومع ان أجهزة الامنية الإيرانية اعتقلت المشاغبين واحالتهم الى التحقيق. وأعلنت وزارة الخارجية الإيرانية عن الأسف لما حدث، فإن القيادة السعودية سارعت الى الإعلان عن قطع العلاقات مع ايران. واقتدت بها بعض البلدان الخليجية و... السودان. وحتى لا ينسى احد وجودها، انضمت أيضا الى الجوقة المعادية لإيران... ما تسمى "جامعة الدول العربية".

وفي هذه النقطة أيضا تقف السعودية في منتصف الطريق، فهي لا تستطيع وقف حرب التدمير العبثي لشقيقتها التاريخية اليمن، بالأسلحة الأميركية الجوية المتفوقة، وفي الوقت ذاته فهي تصاب بالذعر لمجرد التفكير فيما سيحدث حينما يقتحم مئات الاف وملايين اليمنيين حدود السعودية ويفجرون المجتمع والدولة "السعوديين" من الداخل.
ومن جهة ثانية فإن السعودية لا تستطيع ان تتخلى عن قيادتها للحملة الإعلامية المحمومة ضد ايران والشيعة وحزب الله، حتى لا تفقد هيبتها، وبالمقابل لا تجد "طرفا ثالثا" يمكن ان يهاجم ايران او يشن الحرب عليها حتى ولا إسرائيل، اما هي ذاتها ـ أي السعودية ـ فإن آخر ما تفكر به، خارج دائرة الجعجعة الإعلامية وفتاوى بعض الشيوخ، هو ان تجرب قوتها الحربية مع ايران، كما فعلت في اليمن وندمت.

اميركا تتخلى عن السعودية

ولا بد للمراقب ان يلاحظ ان اميركا بدأت في المرحلة الأخيرة تتخلى تدريجيا عن السعودية وتتركها تتخبط في اخطائها، لاضفاء الطابع "الإقليمي" على النزاع، وإظهار السعودية بأنها جزء من المشكلة وليست جزءا من الحل. وتنصرف اميركا للمساومة بهدوء مع روسيا وايران والنظام العراقي والنظام السوري وحزب الله والفسيفساء اللبنانية والسلطة الفلسطينية ومصر، من جهة، ومع إسرائيل وتركيا، من جهة ثانية، حول مستقبل استخراج النفط والغاز من شرقي المتوسط، بمعزل عن السعودية ودول الخليج.

القيادة السعودية تتخبط في أزمات المنطقة

ويعود السبب الجوهري لابتعاد اميركا النسبي والمشروط عن السعودية انها لم تعد تعتمد على مصادر الطاقة السعودية والخليجية، لحاجات السوق الأميركية بالذات، لان اميركا انتقلت، وبعد نضوب آبارها التقليدية، من مرحلة "الدولة المستوردة والمستهلكة" للطاقة، الى مرحلة "الدولة المنتجة والقادرة على تصدير" الطاقة، تبعا لحاجات السوق العالمية.

بعد احداث 11 أيلول 2001 طرح الرئيس جورج بوش الابن شعار "إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط الكبير". ومع كل ضبابية هذا الشعار، فهو كان يعني: إعادة النظر في كل خريطة الشرق الأوسط على أساس تفاهم جديد بين الخصمين اميركا وروسيا. وكان شعار جورج بوش يشمل فيما يشمل السعودية وإسرائيل. وهذا ما لم تفهمه في الوقت المناسب ولا في الشكل المناسب لا القيادة السعودية ولا القيادة الإسرائيلية.

وهذا لا يعني ان اميركا كانت تتخلى بسهولة عن حلفائها الاستراتيجيين. ولكنه كان يعني ان اميركا لا يمكن ان تضع الامن القومي لاية دولة حليفة فوق "الامن القومي الأميركي". فاميركا أصبحت مجبرة على التفاهم مع روسيا وعدم إيصال الاختلافات بين الدولتين الى درجة التصادم المصيري. وفيما بعد طرحت وزيرة الخارجية الأميركية غونداليزا رايس شعار "الفوضى البناءة" كطريقة او وسيلة لتطبيق شعار جورج بوش. وجاء "الربيع العربي" المشؤوم كوسيلة تنفيذية لتهديم كيانات "ساكس ـ بيكو" وإعادة بناء الخريطة الجديدة للشرق الأوسط على انقاضها. واستخدمت "المعارضات" المختلفة، بالاموال السعودية والخليجية" كادوات تنفيذ غبية لهذا المخطط. وهذا ما لم تدركه الى الان قيادات تلك المعارضات، التي ستلقى في نهاية المطاف في مكب النفايات. والان تقاتل اميركا، بواسطة تلك المعارضات، بخطة تراجعية تدريجية امام روسيا وحلفائها. وهي مجبرة ان تتراجع.


يقول محمد مهدي الجواهري عن العملاء:
وعلامَ يوغل في الحماسة راقص
                      بأشد مما ينفخ الزمّار

لقد رقصت تركيا وإسرائيل اكثر مما يجب وستدفعان الثمن غاليا، واميركا وأوروبا هما مجبرتان على ان ترفعا الغطاء عنهما عاجلا ام آجلا.

عشية الثورة الروسية سنة 1917 كان لينين يوجه النداء تلو النداء الى "مسلمي آسيا والشرق" للتعاون من اجل التخلص من الاستعمار الغربي.
وفور انتصار الثورة فإن السلطة الروسية الثورية هي التي فضحت اتفاقية سايكس ـ بيكو" اللصوصية الاستعمارية.
والان لن ينقذ السعودية من ورطتها الكبرى سوى ان تصافح اليد الكريمة الممدودة اليها، أي يد روسيا التي اقترحت القيام بالوساطة بين السعودية وايران.

طبعا ان روسيا ليست جمعية خيرية. وهي دولة كبرى لها مصالح. ولكن منذ انهيار السلطنة العثمانية الى اليوم، برهنت التجربة التاريخية الطويلة ان مصلحة روسيا هي في تحرير وتوحيد صفوف الشعوب. وهذه المعايير هي محك اختبار ليس فقط لصدق الموقف الروسي النبيل، بل أيضا لصدق أي تيار او مذهب ديني، إسلامي او مسيحي، في دعوته الى خير العرب والمسلمين.
 

2016-01-20