ارشيف من :ترجمات ودراسات

الشرق يبني والغرب يحاول تدمير ما يبنيه الشرق

الشرق يبني والغرب يحاول تدمير ما يبنيه الشرق

الكاتب: F. William Engdahl
عن موقع: Mondialisation.ca الالكتروني
27 كانون الثاني/يناير 2016

خلال الأشهر الأخيرة، تزايد باستمرار إحساسي بأن زمننا هذا يبتعد عن آفاق الحروب التي لا نهاية لها، حتى ولو كان ذلك ما زال يبدو صعب التصديق. لا تسيئوا فهمي، فأنا لا أبشر بزوال الحروب بشكل نهائي. لكن الطاقة والحركية الحربيتين تتغيران. فكطفل مدلل تصيبه نوبة غضب شديد، وفي غمرة إحساس محموم بالاكتفاء، يقوم العالم الغربي المزعوم برمي الصحون والملاعق والطناجر وكل ما يقع تحت يديه الداميتين. وكل ذلك في محاولة منه لإنكار واقع يخسر فيه كل لحظة شيئاً من قدرته على السيطرة.


العالم يبتعد عن الحروب الناشئة، فقد جاز القول، عن اضطراب في القدرة على الاحتفاظ بسيطرة أبوية، وهذا الاضطراب يؤدي إلى الخوف والخجل والشعور بالذنب والحنق الشديد، وكل ذلك يفضي إلى الحقد. وعلى العكس من ذلك، فإن ما بدأ بالظهور في هذه المنطقة التي أطلق عليها الغرب، بشكل أناني، اسم الشرق، هو الحاجة إلى إطلاق مشاريع جديدة كبرى ليرتفع بها قطاع إنساني تم الإعراض عنه طيلة ما يزيد عن ألف عام. حركة التحولات الإيجابية هذه هي، بين أمور أخرى، ما سينقذ البشرية من الهلاك والدمار الشامل اللذين يسعى إليهما الغرب بكل وسيلة.        
أود أن أتمكن من إيضاح ذلك عن طريق الأبحاث التي ظهرت مؤخراً حول ما كان يسمى، قبل قرون عديدة، في اللغة الصينية بـ "زونغيو" (zhōngguó) الذي يعني مركز الحضارة، والذي يمكن له أن يصبح مركزها من جديد إذا ما تواصل الحراك الحالي بين الصين وروسيا وغيرهما من الأمم الأوراسية بصورته الحالية.


الحراك المذكور تقوده الصين بمجموعة ضخمة من مشاريع البنى التحتية على المستوى العالمي المشتمل على روسيا ودول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وصولاً حتى إلى الاتحاد الأوروبي. فالصين باتت تقيم الارتباط بين اقتصادها وبين كامل أوراسيا من بحر الصين إلى البحر الأسود،  ومن مضيق ملقة إلى خليج فنلندا، ومن ميناء أثينا إلى شواطئ المتوسط الشرقية، فاتحة بذلك طرقاً برية وبحرية بسرعة صينية بالمعنى التقليدي.


افتتحت بكين مؤخراً مصرفها للاستثمار والبنى التحتية في آسيا (بييا)، وهو مؤسسة يمكنها أن تكشف قريباً البنك الدولي المترنح الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، وذلك لأن هذا المصرف الصيني لا يموِّل طواحين هواء ضخمة التكاليف بل مشاريع ضرورية في مجال البنى التحتية في آسيا وأوراسيا. وبهذا، فإن بكين لم تعد تنتظر أريحية المصارف الأخرى.   

الصين.. مركز الحضارة الجديد


من المهم امتلاك رؤية واضحة للتطورات الإيجابية في العالم. لكننا نميل إلى نسيان ذلك لأننا ننجذب على الدوام بما هو سلبي. لذا، فإنني سآمر باختصار على التطورات التي شهدتها جمهورية الصين الشعبية في الآونة الأخيرة، والتي تحمل، في حال التعامل معها بشكل صحيح، إمكانية حصول تحول على مستوى العالم كله، بحيث يصار إلى فصل بلدان أوراسيا عن الدولار، بما يشكل نظاماً نقدياً بات في طور الإفلاس.


في 4 كانون الأول/ديسمبر، وبمناسبة افتتاح منتدى حول التعاون الصيني-الإفريقي في جوهانسبورغ بإفريقيا الجنوبية، أعلن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، أن الصين ستقدم لبلدان إفريقيا مبلغ 60 مليار دولار على شكل قروض ومساعدات. وسيشتمل هذا المبلغ على " خمسة مليارات من القروض بفائدة صفر بالمئة، منها 35 ملياراً على شكل تسهيلات وقروض تفضيلية وقروض لمجالات التصدير". كما أعلن أيضاً عن مساعدة لمكافحة الجفاف في القارة الإفريقية، وأدلى بتصريح قال فيه : "إن الصين تنظر بقلق إلى المحاصيل التي تضررت بسبب إعصار نينيو الذي ضرب العديد من بلدان إفريقيا، وستقدم للبلدان المتضررة مبلغ مليار يوآن (156 مليون دولار على شكل مساعدات غذائية).

الشرق يبني والغرب يحاول تدمير ما يبنيه الشرق


ولا ننسى أن الصين هي التي أسست هذا المنتدى الصيني-الإفريقي في العام 2000 بمشاركة 40 بلداً إفريقيا. وفي العام 2006، استقبلت الصين القمة الأولى لرؤساء الدول بمشاركة 35 رئيس دولة إفريقية. وفي تلك القمة، وعدت الصين بمنح إفريقيا قروضاً تفضيلية بقيمة 5 مليارات دولار.      


وكانت لهذا الاهتمام الصيني بالاقتصاد الإفريقي تداعيات وصلت إلى واشنطن وتحديداً إلى وزارة المالية الأميركية وصندوق النقد الدولي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة. وكان الرئيس الصيني في تلك الفترة، هوشينتاو، قد أعلن فيما بعد إنشاء صندوق صيني-إفريقي للتنمية بهدف تنشيط حركة الاستثمارات الصينية في إفريقيا عن طريق توظيف أولي بقيمة مليار دولار يمكن أن تضاف إليه خمسة مليارات أخرى في المستقبل.  


وجاء رد واشنطن الذي صدر عن الثنائي بوش-تشيني ليأخذ شكل تشكيل "آفريكوم"، وهو عبارة عن مركز قيادة عسكرية جديد تابع للبنتاغون تم إنشاءه لهدف وحيد هو مواجهة النفوذ الصيني في البلدان الإفريقية التي طالما عانت من تحكم صندوق النقد الدولي.


ما هي طريقة عمل آفريكوم ؟ إشعال حروب وثورات وربيع عربي، وتدمير ليبيا بحجة خبيثة هي وجود حقوق تنبغي حمايتها، وتشكيل عصابات من الإرهابيين في مالي، وخلق بوكو حرام، وهكذا دواليك حتى القرف.
والآن، وبمناسبة انعقاد القمة الثانية لرؤساء الدول والمنتدى الوزاري السادس للتعاون الصيني-الإفريقي، تعلن بكين أنها ستضيف 60 ملياراً أخرى بهدف تنمية بلدان إفريقيا. هل يعود ذلك بفائدة على الصين ؟ طبعاً، ولم لا ؟ وهل يعود ذلك بفائدة على إفريقيا ؟ أجل بالطبع. فخلافاً لحروب الناتو التي لا تنتهي، تأتي إقامة البنى التحتية وشبكات السكك الحديدية، وقنوات الري، وخطوط الكهرباء، لترتقي بمستوى معيشة الناس ولتحمل معها السلم والاستقرار. وذلك يشكل عنصراً أساسياً في التاريخ البشري.


وقبل هذا المنتدى، ذهب الرئيس الصيني إلى زيمبابوي. وزيمبابوي هي حليف قديم للصين. وهناك، وعد الرئيس الصيني بقروض من إجل النهوض باقتصاد يمر في ظروف صعبة. وتم التوقيع على عشر اتفاقيات اقتصادية بين الصين والرئيس الزيمبابوي روبيرت موغابي الذي يسعى البريطانيون إلى الإطاحة به منذ العام 1997. أما في إفريقيا الجنوبية، فقد وقع الرئيس الصيني 26 اتفاقية ثنائية بقيمة 6،5 مليار دولار تهدف بشكل خاص لتنمية البنى التحتية. والمعروف أن إفريقيا الجنوبية هي عضو في مجموعة بريكس التي تضم أيضاً كلاً من البرازيل وروسيا والهند والصين.

الطريق السريع من الصين إلى أوروبا


وبالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية التي يتم نسجها مع القارة الإفريقية الواسعة والغنية والمهملة طويلاً جداً من قبل الغرب، تنبري الصين إلى تأمين مشروع آخر تحت اسم الحزام/ الطريق أو شبكة السكك الحديدية السريعة والتي ستتصل ببلدان الاتحاد الأوروبي.


ففي 26 تشرين الثاني / نوفمبر، استقبل رئيس الوزراء الصيني لي كيكيانغ 16 رئيس دولة أوروبية في سوزهاو حيث عقدت القمة الرابعة بين الصين وبلدان أوروبا الشرقية والوسطى (إيكو)، وذلك في سياق لقاءات ابتدأت بقمة أولى عقدت في بكين في العام 2012. أما البلدان الـ 16 التي شاركت في هذه القمة الرابعة فهي ألبانيا والبوسنة-الهرسك وبلغاريا وكرواتيا وجمهورية التشيك وإستونيا وهنغاريا وليتوانيا وليتونيا ومكدونيا والجبل الأسود وبولندة ورومانيا وصربيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وجميع هذه البلدان تتخبط في وضع اقتصادي أوروبي مأزوم. وقد تكلمت وسائل الإعلام الصينية عن هذه القمة بوصفها فرصة ذهبية لتعميق التعاون. وبالنظر إلى التعلق الصيني المستجد بالذهب، فإن الصين قد سبقت إفريقيا الجنوبية بصفتها منتجا عالمياً لهذالمعدن. وهذا يعني ما يعنيه بالطبع.     


وبالنظر إلى الأوضاع البالغة التوتر والعقوبات الاقتصادية المتبادلة بين بين بلدان الاتحاد الأوروبي التي تقودها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا، من جهة، وبين أقرب حلفاء الصين، أي روسيا، من جهة أخرى، فإن الصين ترغب في الانتهاء سريعاً من بناء شبكة السكك الحديدية اللازمة للقطارات ذات السرعة الكبيرة. إنه حزام أو طريق تنظر إليه بكين على أنه أولوية ملحة من أجل الوصول إلى الاتحاد الأوروبي وأسواقه الواسعة ولتعطي دفعة قوية للنمو الاقتصادي الصيني المتعثر.
دول أوروبا الوسطى والشرقية مآلها أن تصبح مخازن للصين على حدود السوق الأوروبية الضخمة. فبكين تعلم أن المسألة لم تعد غير مسألة وقت قبل أن يقوم صقور واشنطن ووول ستريت باستهداف الصين. أنا متأكد من عدم وجود أوهام في الصين حول توجهات واشنطن الجيوستراتيجية.

مشاريع بنى تحتية ضخمة

وقد شرح الرئيس الصيني للمشاركين في القمة وجهة نظره بخصوص المنطقة : "نظراً لوقوع المنطقة عند الحدود الشرقية لأوروبا وعلى طول المناطق المحاذية لمشروع الحزام-الطريق، فإن الصين وبلدان أوروبا الشرقية والوسطى (إيكو) يمكنها أن تحقق فائدة نوعية من خلال رفع مستوى الترابط فيما بينها". وأضاف أن الصين ترغب بالعمل مع هذه البلدان من أجل "بناء خطوط السكك الحديدية والموانيء البحرية التي تربط بينها وبين أوروبا بهدف رفع مستوى الترابط بين بلدان أوروبا نفسها".  
نتائج القمة لخصتها وكالة الصحافة الرسمية الصينية "شنهوا" بالكلام عن "تعاون واسع النطاق ومركز على البنى التحتية" بين الصين وبلدان أوروبا الشرقية والوسطى. وقد بدأت الصين فعلاً بإستدراج عروض لبناء سكك حديدية وطرقات وموانيء في أوروبا. وبالملموس، وقعت اتفاقيات مع هنغاريا وصربيا لبناء خط لقطار فائق السرعة بين بودابست وبلغراد. ومن المفترض أن يبدأ تنفيذ هذا المشروع قبل نهاية العام الحالي على أن يتم الفراغ منه في العام 2017. وقالت "شنهوا" أن هذا المشروع هو "خط للقطارات السريعة المخصصة لاستيراد وتصدير البضائع بين الصين وأوروبا".  


الصين هي بلد طليعي عالمياً في مجال تصنيع القطارات الفائقة  السرعة. فقد بنت أكثر من 20 ألف كلم من خطود هذه القطارات خلال السنوات العشر المنصرمة، أي أكثر من بقية جميع خطوط القطارات الفائقة السرعة في العالم. وهي تقوم حالياً  بوضع مشاريع أو ببناء أكثر من 16 ألف كلم من هذه الخطوط في داخل البلاد. وهذه الأرقام لا تتضمن الخطوط الخارجية الأوراسية أي الحزام-الطريق الذي تقوم ببنائه حالياً.


الصين هي البلد الذي تتجه إليه الأنظار في العالم من أجل بناء البنى التحتية للسكك الحديدية، في حين أن الغرب، مع الحالة المحزنة لشبكات السكك الحديدية في الولايات المتحدة، يزداد تخلفاً باستمرار في هذا المجال. وقد فرغت الصين مؤخراً من بناء قطار فائق السرعة متقدم جداً من الناحية التكنولوجية يربط بين شنغهاي وماغليف تصل سرعته إلى أكثر من 400 كلم/ساعة.  وهذا القطار الخاص بالخدمات المنتظمة والأسرع في العالم سبق أن طورته ألمانيا في تمانينات القرن الماضي، لكنه تعطل سياسياً بسبب خلافات داخلية. وكانت الصين في البداية قد أطلقت صناعتها الخاصة في مجال القطارات الفائقة السرعة بفضل اتفاقيات مع شركات آلستوم، وسييمنز، وبومباردييه، وكوازاكي هيفي.لكن المهندسين الصينيين تمكنوا من بناء قطارات محلية تصل سرعتها إلى 380 كلم/ ساعة. وقد أصبحت الصين حالياً بلداً مصدراً لتكنولوجيا السكك الحديدية.   

وسيشكل خط القطار الفائق السرعة بين هنغاريا وصربيا جزأً من شبكة  أكبر من الطرقات البرية والبحرية التي تريط أوروبا بالصين. فهي تنطلق من ميناء بيروس في اليونان جنوباً لتصل إلى بوادابست في هنغاريا شمالاً بعد أن تمر بسكوبيا في مكدونيا وبلغراد في صربيا. فبالرغم من عدم مشاركة اليونان في قمة "إيكو"، فإن قادة البلدان الثلاثة الأخرى، هنغاريا ومكدونيا وصربيا، قد التقوا الرئيس الصيني واتفقوا معه على العمل المشترك في هذا المشروع.


كما أعلن الرئيس الصيني أن بلاده ستستثمر أيضاً في بناء ورفع كفاءة التسهيلات في خدمات المرافئ على بحار البلطيق والأدرياتيكي والأسود. وبهذا الصدد، أدلى بتصريح قال فيه بأن "كرواتيا وسلوفينيا وبولندة وليتونيا وبلغاريا اقترحت تعزيز التعاون في مجال تنمية المرافئ". وعلى هذا، فإن المشاريع ستتركز على"رفع قدرات الإنتاج والتعاون بين المرافئ والمناطق الصناعية على شواطئ الإدرياتيكي والبلطيق والبحر الأسود". وسيكون للشركات الصينية دور أساس في هذه المشاريع.
وستلجأ الصين إلى تقديم تسهيلات مالية لتضمن حصول شركاتها على حصص مهمة في هذه المشاريع. وبهذا الصدد، صرح الرئيس الصيني بأن بلاده ستقدم دعماً مالياَ تفاضلياً للمشاريع التي تستخدم منتجات وتجهيزات صينية في التعاون من أجل رفع قدرات الإنتاج. واقترح إدخال شكل جديد من أشكال التنظيم المالي الهادفة إلى تجنب الاصطدام بأشكال التنظيم المالي القاسية التي تفرضها القروض الأوروبية. وبهذا المعنى، صرح وزير الاقتصاد السلوفاكي، فاسيل هوداك، بأن "المنطقة كلها تبدي الاهتمام بمشاريع بنى تحتية كبرى في مجالات الاتصالات والنقل والطاقة (أنابيب الغاز) بين هذه البلدان"  
كل هذا يجعلنا نفهم بشكل أفضل السبب في خوف واشنطن والحيتان الأميركيين من فقدان الهيمنة التي يمارسونها على العالم. فالصين هي بصدد إطلاق نهضة اقتصادية غير مسبوقة خلال المئة عام المنصرمة. وهي تفعل ذلك من خلال التعاون مع روسيا وبلدان البريكس.


فبالمقابل، ما تفعله واشنطن هو أنها تقدم للعالم مهرجاناً محزناً من الحروب في الشرق الأوسط وأوكرانيا، ومحاولات لزعزعة حكم الرئيس البرازيلي لأنه يتعاون مع روسيا والصين في إطار البريكس. فوالولايات المتحدة ترد بمحاولات لإسقاط الأنظمة من خلال ثورات ملونة تثيرها حيثما أمكن، من أوزبكستان إلى مكدونيا وصولاً إلى فنزويلا وغيرها.
لا يمكن لأي شخص إلا أن يلاحظ الفرق. بالنسبة لي، أنا أفضل مشاريع البناء السلمي على مشاريع التدمير.

2016-02-02