ارشيف من :آراء وتحليلات

مناورة الشطرنج الروسية في الشمال السوري

مناورة الشطرنج الروسية في الشمال السوري

قد لا يكون الروس من أوجد لعبة الشطرنج عبر التاريخ لوحدهم، حيث اشترك معهم كثيرون في نشأتها وفي وضع قواعدها كالفرس وابناء امبراطورية الهند السابقة او الصينيين القدامى، ولكن لا شك انهم من الذين برعوا باظهار عظمة هذه اللعبة الساحرة ومن الذين لعبوا دورا مهما في تطور خططها ومناوراتها، كما ان اغلب ابطال العالم فيها هم من اصحاب الجنسية الروسية او من ذوي الاصول السوفياتية السابقة وهذا خير دليل على التقارب او التكامل في الاستراتيجيات الروسية والشطرنج.


تتمثل الاستراتيجية الروسية في الشطرنج من خلال الهدوء والنفس الطويل والتركيز المتواصل بطريقة متصاعدة تدريجية دون ردات الفعل السريعة او المتسارعة، من هنا تجد اللاعب الروسي يضغط بطريقة متوازنة على كامل مفاصل رقعة الخصم حيث تتوزع حجارة الاخير ومواقع ومفاتيح مناورته بشكل لا يمكن لهذا اللاعب الخصم ان يحدد اين سيضرب اللاعب الروسي ضربته او اين سوف يهجم وبماذا، اذ انه يحضّر جميع حجارته او بيادقه في مواقع جاهزة للمهاجمة ويوحي للمراقب اينما ينظر ويتمعن ان جميع المواقع هي اهداف مرتقبة، كما وتمتاز هذه الاستراتيجية عادة بانها تُسقط رقعة الخصم بشكل مفاجىء مسببة انهيارا كاملا لكافة الحجارة والمواقع في وقت سريع.

مناورة الشطرنج الروسية في الشمال السوري


هذا في الشطرنج، اما في الميدان فلا شك ان مناورة الوحدات الروسية في ادارة دعم معركة الجيش السوري وحلفائه في سوريا بشكل عام وفي شمالها بشكل خاص ما بين ريف اللاذقية الشمالي وارياف حلب كافة اعطت نتائج صاعقة في السيطرة الواسعة للجيش المذكور وحلفائه على مواقع اساسية في عمق انتشار المسلحين والتي كانت لفترة تقارب الاربع سنوات اشبه بمواقع محصنة مفتوحة على الحدود شمالا وشرقا بالكامل وينتشر فيها عشرات الالاف من المسلحين الارهابيين المدربين احدث تدريب والمجهزين باحدث انواع الاسلحة المتطورة والتي امنتها لهم دول اقليمية وغربية من مخزونها الاستراتيجي، وهذه المواقع كانت تمتد على مسافات شاسعة وبعمق كبير ما بين تخوم البحر المتوسط في ريف اللاذقية الشمالي الغربي على معبر كسب الى الحدود السورية العراقية شرقا وامتدادا مع الحدود السورية التركية شمالا.
هذه المناورة التي شهدناها مؤخرا في الميدان السوري كان عمادها الاساس الوحدات البرية في الجيش السوري وحلفائه الذين اظهروا عن خبرات واسعة والتزام وثبات منقطع النظير، والتي كان محركها الاساس القوات الجوية الروسية التي وجّهت بقدراتها الدقيقة حركة الوحدات البرية المذكورة تبعا لمخطط قصف مواقع المسلحين واماكن انتشارهم ومحاور انتقالهم وتحركهم بطريقة مركزة وتصاعدية طالت اغلبَها بشكل متزامن تقريبا وبمستوى متقارب من الضغط العنيف بصواريخ موجهة حديثة وبقنابل ذكية استعملت للمرة الاولى في ميدان عمليات الجيش السوري وكان لها وقع مدمّر وكاسح على مواقع المسلحين التي تهاوت الواحد تلو الآخر بطريقة دراماتيكية امام التقدم الثابت لقوى الاقتحام وحيث ظهروا وكأنهم غير هؤلاء المسلحين الذين كانوا لاسابيع خلت يسيطرون ويتحكمون بالكامل في تلك المواقع ناشرين اسلحتهم وآلياتهم المتطورة على كامل الجبهات بمواجهة الجيش السوري وحلفائه.


انها اذن المناورة الغريبة التي بدت لاول وهلة سهلة وناعمة وبطيئة، لتتحول فجأة الى تلك المناورة الصاعقة المدمرة بكامل شراستها وفعاليتها، فاسقطت وبالضربة القاضية المجموعات الضخمة من المسلحين الذين كانوا ينتشرون في المواقع والمراكز والبلدات والمدن السورية، وها هم الآن يلهثون مع رعاتهم وراء وقف لاطلاق النار باي ثمن، يجدون فيه الملجأ الاخير للحفاظ على حياتهم اولا وعلى ما تبقى لهم من مواقع ضاقت على اعداد مجموعاتهم المشرذمة والمكدسة في مراكز محاصرة في بقاعٍ ممسوكة ومراقبة من الجيش السوري وحلفائه، وها هم ايضا يزحفون وراء مقاعد احتياطية على طاولة المفاوضات علّهم يحظون بالتفاتة من ممثل من كانوا ينادون ليلا ونهارا بعدم شرعيته وبحتمية سقوط نظامه.  


انها في النهاية استراتيجية العناد وراء الحق والايمان بالله وبالوطن، انها استراتيجية الصبر والصمود، الصمود في مطار كويرس الذي كان نقطة ارتكاز اساسية ومفتاحاً مهماً في التمدد واستعادة السيطرة في ريف حلب الشرقي والجنوبي الشرقي، انها ايضا استراتيجية الصمود والمقاومة في نبل والزهراء والتي كانت قاعدة انطلاق واسعة واساسية لاستعادة السيطرة على القسم الاكبر من ريف حلب الشمالي ولتمهد لاستعادة السيطرة على كامل هذا الريف... انها استراتيجية الكش مات التي يتقنها الروس جيدا والتي يبدو ان الجيش السوري وحلفاءه ليسوا بعيدين عنها.

 

2016-02-12