ارشيف من :نقاط على الحروف

شباط.. أيُّ ألمٍ أنت!

شباط.. أيُّ ألمٍ أنت!

رباب نبيه مرتضى

إيهِ يا شهر الشهادة!..
أما ارتويت من دم راغب؟..
أما كفاكَ دم الأمين عباس؟..
كيف لم ترحم فؤاد والدةٍ منحت فلذات كبدها فسرقت منها العماد؟..
كم تلوّى بين أضلعنا الألم عند رؤية هلالك!..


إيه يا شهر الجراح!..
أما راعَكَ منظر الصبية تحوم حول جثمان معيلها؟..
أما اهتزت جوارحك لأشلاء "حسين" وأبويه تتناثر عبقًا؟..
أما علمت أنك اختطفت مروِّع الجبابرة ومذلَّ الصهاينة؟..
إيه يا شهر الإباء!..


تخطيت الأحزان، وخطوت فوق الجثامين ورفعت راية العزة والكرامة..
يحقُّ لك، أيا شهر، أن تتباهى بين الشهور وأن تنثر الطيب على الثرى المقدَّس.. فيك تنحني الرؤوس إجلالا، وفيك ترتفع الجباه عزةً واختيالا، وفيك تجري المآقي عهدًا ووفاء..
منارات يهتدي بنورها السالكون، ومعالم شامخة لمن ارتضى سبيل الكرامة دَيدنًا ينتهجه المخلصون، ترتسم في الذاكرة وتطرب لسماع ترجيع صداها مفارق الزمن..

شباط.. أيُّ ألمٍ أنت!


بيارق مجد تلوح من تاريخ العزّة والكرامة. تعود لنا ذكراهم لتتراءى للناظر من بعيد، فيقتحم المشهد ركب الشهادة لآلئ يشع منها الضوء فتنعكس انحدارات النور إلى مجاهل العالم..
أحياء تجري أسماؤهم كالأساطير القديمة، يتردد صداها اختيالًا على ألسنة المسنِّين وأفواه المحدِّثين، فإن اشتقت إليهم أمعن النظر جيدًا وستراهم:


أسدًا إذا حمي الوطيس أعزةً
                              وجباههم شهدت لها الأسحار


وتعود الذكرى، مشرئبَّة برجالاتها.. تحمل أنين الشوق مضرَّجًا بأريج الشهادة، ونعود إليها نتلمَّس آثار ما خلفته من انتصار للدَّم الزاكي على غطرسة المستكبر المستعلي.
فكانت البداية مع من اسمه اقترن بالمجد رفعةً وسموًّا، ومواقفه تحكي عن شجاعة قلبٍ وطهارة نفسٍ وحسن بصيرة، ولو أن ذا اجتمع لرجل لكان "الشيخ راغب حرب".


واحدٌ من الرجال الرجال، ممن حفر اسمه بأحرف من نور على صفحات التاريخ المشرقة، ولا بدَّ لمن يقصد محرابه بغية فهمه والتعرف إليه من الذوبان المطلق في كينونته وماهيته، وليستشف منها روح المقاومة المطبوعة ببصماته، المجبولة بحبه، حتى كادت أن تكون هي هو وهو عينها، فمثله كمثل الشجرة البارقة، اليانعة اخضرارًا، الوارفة ظلًّا، نقف تحت أفيائها الغضَّة نجني ثمر أغصانها رفعةً وعلوًّا.
شجرة أنبتها ثرى أبي ذر، تؤتي أكلها كلَّ حين بإذن ربها، ننهل منها أن "الموقف سلاح" وأن دم الوريد أقصر المسافات إلى دار الخلود.


وفي الذكرى.. يلمع بريق السيد المجاهد، يضبط إيقاع المسيرة، يحثُّ الطريق إلى نور الله المتَّقدة في وجدانه وبين أضلعه، لنستلهم منه تهذيب النفوس فنتقن جوهر العبادة وسموَّ الهدف..
ألا ليتنا سيدي ممن يستمع في لياليك إلى دعاء الحزين، هناك!.. في إحدى مغارات الجبل الرفيع ودمعة العشق تنساب على وجنةٍ واجفةٍ تخاطب مالك الملك.. ممن يجدُّ الطريق لملاقاة العدو، علني أحظى بحمل قربة الماء لك أو لأحمل عن عاتقك الجعبة الوازنة، أو لأمسح عن جبهتك الشريفة عرق الجهاد.. لأفوز كمن فاز معك بنصرٍ مؤزر أو بدمٍ مسفوحٍ على صخرة هناك حيث تزغرد الأرواح طربًا بعروجها..


ويأفل شباط.. حاملا معه عزيمة البطل، "رضوان".. وأيُّ وفاء أنت!..
ذلك المقدام الذي لم يقرَّ له قرار، ولم يهنأ له بال حتى أرَّق الصهاينة وقضَّ مضاجعهم.. حتى رأوه شبحًا يطاردهم في ساحات الوغى..
أعجزتهم حيًّا طيلة عقود دون أن تهدأ طرفك عن ملاحقتهم في أي بقاعٍ وجدوا، وكنت.. مرغت جبروتهم تحت أقدامك لأعوام وأعوام.. حتى غدا أفولك هاجسهم ومحرابهم الذي يعبدون..
لم يعرفوا أنهم بقتلك سفكوا دماءهم، وبموتك أزيلوا عن الوجود إن شاء الله..
وفي شهر الدمعة الغراء!..
إليكم منا ألف تحية، تحية مقاوم.. تحية مجاهد.. تحية من علمنا أن عطاء الدم ثمن الحرية.

 

2016-02-15