ارشيف من :حزب الله
لدماء القادة الشهداء.. الحجة البالغة
لم يكن استمرار المقاومة الاسلامية وتجذرها واتساع قاعدتها وتطورها وصولا الى تحولها الى قوة اقليمية، أمراً مسلما بذاته. بل لا يتناسب ما آلت اليه المقاومة الاسلامية من قوة ودور وفاعلية مع ظروف لبنان الجغرافية والديمغرافية ولا مع امكاناته. مع ذلك، فقد كان مسار هذه المقاومة تصاعديا منذ انطلاقتها عام 1982، على كافة المستويات وفي كافة المجالات. ومرت المقاومة الاسلامية بالكثير الكثير من المحطات والتحديات التي تحولت كل منها الى منصة للتنامي والتطور، ظلَّلتها بقافلة طويلة من الشهداء والتضحيات.
قد يصح تحقيب تاريخ المقاومة وفق عدة معايير وأسس. يوفر كل منها مشهدا ينهل منه كل متخصص بحسب سعته، وبما يتناسب مع خلفياته المهنية والفكرية. ومن أبرز ما يميز هذا المشهد الممتد في التاريخ والحاضر وما زال يتدفق تأسيساً للمستقبل، أن قادته الشهداء يعبر كل منهم عن مراحل محددة بذاتها. فلا تكتمل قراءة أي مرحلة بمعزل عن شهدائها، وقادتها الشهداء. وتبقى مقاربة حياة وشخصية أي منهم، ناقصة بمعزل عن فهم المرحلة التي ظللوها بدمائهم، وتلك التي أسسوا لها ايضا.
من أهم المشتركات بين القادة الشهداء، الشيخ راغب حرب، والسيد عباس الموسوي، والحاج عماد مغنية، رضوان الله عليهم اجمعين، أن التخلص من كل منهم كان هدفاً ومطلباً ملحاً بذاته بالنسبة لقيادة العدو وأجهزته. ونتيجة ذلك كانت شهادتهم عبر أسلوب الاغتيال تحديداً. ويكفي بذلك منطلقا للاطلالة على دور وفاعلية كل منهم في مسيرة المقاومة الاسلامية. ولاستشراف عمق حضوره في حسابات ووعي قادة العدو واجهزته.. والامر نفسه ينسحب على العديد من القادة والكوادر الشهداء الاخرين.. ويمتد ليشمل كل القادة الحاضرين على مهداف العدو وعلى رأسهم الشهيد الحي، القائد والامين السيد حسن نصر الله (حفظه الله) الذي بات استهدافه مطلبا لكل قادة الاستكبار في العالم والمنطقة، ومعهم وقبلهم وبعدهم، الاستكبار الصهيوني المتمثل بـ"اسرائيل".
اما على مستوى مرحلة وسياق استشهاد كل من هؤلاء القادة، في البعد المتصل بحركة الصراع مع العدو الاسرائيلي، فيمكن تسجيل الملاحظات التالية:
أتى استشهاد الشيخ راغب حرب، في شباط 1984، في ذروة المقاومة التي تحولت الى عامل استنزاف لجيش الاحتلال في ذلك الحين. وبعدما توهمت اسرائيل أنها استطاعت تحقيق حلمها التاريخي في احتلال الجنوب اللبناني – وعلى هذا التوصيف يوجد ما يكفي من الوثائق الصهيونية والاسرائيلية – اكتشفت أنها غرقت في مستنقع بدد أوهامها وأيقظها على واقع أشد خطورة مما كانت تتصور.
مع ذلك، لم تُسلِّم اسرائيل بداية، كما هي الحال مع كل احتلال، بالهزيمة، وانما راهنت وخططت وعمدت الى اتباع العديد من الاساليب والوسائل لاخماد المقاومة وقهرها.. ولم يكن قرارها باستهداف الشيخ راغب حرب إلا نتيجة قراءة وتقدير بأنها تستهدف أحد مكامن قوة المقاومة الاسلامية، رهانا من قادة العدو على امكانية أن يؤدي ذلك الى ردعها واخمادها، فضلا عن محاولة التخلص من عبء الشيخ راغب على جيش الاحتلال في حينه.
لكن استمرار المقاومة الاسلامية، وتطورها ومن ثم تحرير العام 1985 الذي شاركت في صنعه كافة فصائل المقاومة في حينه، أبلغ دلالة في التعبير عن مدى فشل العدو في تحقيق اهدافه المتصلة تحديداً، بتوفير "احتلال آمِن"، وتكريسه كأمر واقع كما هو حال باقي الاراضي العربية المحتلة. وايضا، يكشف عمق حضور الشيخ راغب في وجدان اجيال المقاومة التي تعاقبت، عن الدور الاستنهاضي الذي كانت وما زالت تؤديه دماءه، مع من سبقه ولحقه من الشهداء.
أتى استشهاد السيد عباس الموسوي، في شباط 1992، تتويجا لمسار طويل من الجهاد والمقاومة، وفي سياق تبددت معه رهانات العدو على امكانية أن تشيخ المقاومة مع مرور الزمن، أو أن تفتر همة المقاومين.. أو أن يتمرد جمهورها تعبا.. وأتى ايضا في ذروة الرهان على مفاعيل عملية التسوية التي انطلقت في حينه في مؤتمر مدريد.. لكن دماء السيد عباس شكلت محطة مفصلية في بلورة معادلات أسس لمرحلة جديدة من المقاومة انتجت انتصارا تاريخيا غير مسبوق في الصراع مع العدو.
لم يقتصر هدف العدو من اغتيال السيد عباس على التخلص من رأس الهرم في قيادة المقاومة، بل هدف ايضا الى اسقاط برنامج المقاومة وخيارها. وأي مقاومة يتعطل خيارها وتبقى بلا برنامج لا مستقبل لها. لذلك، ليس من المبالغة القول أن عملية الاغتيال كان لها بعد وجودي بالنسبة للمقاومة. واقترنت عملية الاغتيال بالسعي والرهان على انتاج واقع سياسي اقليمي في حينه يُسقط معه المقاومة كخيار مجدٍ في مواجهة التهديدات. لكن دماء الشهداء، وعلى رأسهم السيد عباس، بددت تلك الرهانات بل بلغ الامر أن بعض قادة العدو المسؤولين عن تنفيذ عملية الاغتيال، أقروا لو أنهم لو كانوا يعلمون... لكانوا أعادوا دراسة قرار الاغتيال. وهو ما صدر على لسان رئيس الاستخبارات العسكرية في حينه، اللواء اوري ساغي، الذي اعلن أنه لو كان يعلم بقدرات وخيارات الرد لدى حزب الله لكانوا اعادوا النظر في القرار.. وهي النتيجة التي دائما ما يخلصوا اليها في أعقاب كل تقدير وشعور بالفشل والخسارة والخيبة..
وبدلا من أن تكون دماء السيد عباس، كما خطط العدو، مناسبة للتذكير بالمحطة المفصلية التي هزمت المقاومة، تحولت الى مشعل لكل المجاهدين والمقاومين يعينهم على اضاءة الطريق التي كثر فيها الضالون والمضلون، وباتت دماءه عامل استنهاض اضافي للاجيال التي تعاقبت في المقاومة.
أتى استشهاد الحاج عماد مغنية، في شباط 2008، بعد انتصار استراتيجي وتاريخي، حرب العام 2006، ما زالت مفاعيله تتوالى على الساحتين اللبنانية والاقليمية. ومما يميز محطة استشهاده أنها تتويج لمراحل سبقت، كان له دوره الرئيسي في بلورة معادلاتها ورسم معالمها وانتاج مخرجاتها، وتأسيسا لمرحلة ومراحل ما زالت تتوالى.
مع أن اغتيال الحاج عماد أتى بعد مطاردة استمرت نحو 25 سنة، وكان خلالها هدفا قائما بذاته طوال هذه الفترة، إلا أن سياق اغتياله يشي ايضا بأنه كان يهدف ايضا الى استهداف مكامن قوة المقاومة التي كان يمثل أحد معالمها. لكن تصاعد قدرات المقاومة وتطورها والمعادلات التي فرضتها على العدو أثبت مرة أخرى، أنه على رغم خصوصية كل من القادة الشهداء، وما يضفيه حضور كل منهم من بصمات على هيكل المقاومة وحركتها، لكنها كانت وما زالت صيرورة دائمة، ومسارا تصاعديا، تظللها وتواكبها مؤسسات تتكامل فيها الادوار وتتنامى بها وعبرها الطاقات..
ولمن اراد البرهان الساطع والبينة الواضحة والحجة البالغة على ما صنعته وتصنعه هذه الدماء.. فلينظر الى حاضر المقاومة في قياداتها وكوادرها ومجاهديها، والى واقع المقاومة في تطور قدراتها وفاعلية دورها وساحات جهادها.. وبعد ذلك يستطيع أن يستشرف افاقها ومستقبلها..