ارشيف من :آراء وتحليلات

تركيا إردوغان: زمن العودة إلى ما قبل العصر السلجوقي

تركيا إردوغان: زمن العودة إلى ما قبل العصر السلجوقي

بعد قطع جسور التفاهم مع الروس، وفشل إردوغان في تسعير التوتر بين موسكو وواشنطن، لم يعد أمام تركيا وغيرها من أيتام أميركا في المنطقة غير توجيه الشتائم إلى واشنطن التي خرجت من المعركة وتركتهم أمام مصير أسود.

لا جديد في الاشتباك الذي اندلع بين روسيا وتركيا منذ إقدام الأخيرة على إسقاط السوخوي-24 غير تصاعد  هذا الاشتباك الذي يعيد إلى الأذهان سلاسل الحروب التي اندلعت بين البلدين طيلة قرنين من الزمن أعقبهما، بعد الحربين العالميتين، تحول تركيا، بانضمامها إلى حلف الناتو، وبسعيها المستميت للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلى رأس حربة غربية على الخاصرة الجنوبية للاتحاد السوفياتي، ومن ثم لروسيا.

تمزيق تركيا


ولا غرابة، في الوقت الذي يبدو فيه أن نزق السلطان إردوغان قد أطلق العنان فعلاً لعملية تمزيق تركيا، أقله على مستوى التحرك الاستقلالي الكردي، أن تطمح روسيا إلى أكثر من كف اليد التركية عن سوريا والقفقاس والقرم، حيث دأبت أنقرة علناً على العمل من أجل زعزعة الاستقرار المفيد لروسيا في تلك المناطق.

تركيا إردوغان: زمن العودة إلى ما قبل العصر السلجوقي


معنى الكلام أن روسيا تبدو مصممة على المضي حتى النهاية في المواجهة التي افتعلتها تركيا في سوريا، والأهم من ذلك أن تصميمها يستفيد من تبرم الناتو من سياسات إردوغان الذي يحكمها، منذ ظهور بوادر فشل الحرب على سوريا، هوس فعلي بالعمل على تسعير الأجواء بين روسيا والناتو. فالحقيقة أن إردوغان، وهذه واحدة من غرائبيات تفكيره، يعتقد أن خلاص حكمه من مصيره الكارثي المحتوم هو رهن بنشوب حرب كبرى قد تنجم عنها ظروف من شأنها أن تسمح لتركيا بتلافي ذلك المصير.
من هنا، يأتي القصف المدفعي التركي للمناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديموقراطي في شمال سوريا، ليشكل تحرشاً يجسد هذا التوجه الذي اعتمدته السعودية بدورها من خلال عربدات من نوع التحالف الإسلامي والكلام عن تدخل عسكري بري في سوريا وتسويق معلومات عن تواجد طائرات حربية سعودية جاهزة للعمل في مطار انجرليك التركي.

التهديدات التركية-السعودية بالتدخل العسكري المباشر في سوريا... فقاعة وانطفأت !

وقد كان من الممكن تفهم استعراض القوة التركي-السعودي لو كان البلدان قادرين، ولو بالحد الأدنى، على الدخول في مواجهة عسكرية تشتمل حتماً على المواجهة المباشرة مع روسيا، وخصوصاً فيما لو توفر لهما الغطاء الذي طالما عمل من أجله أعداء سوريا الإقليميون، والمتمثل بالتدخل العسكري المباشر والواسع النطاق في سوريا من قبل واشنطن وحلف الناتو.


لكن الواضح أن إمكانية مثل هذا التدخل لا تمتلك حظوظاً فعلية بالتحقق، خصوصاً في وقت باتت فيه واشنطن مضطرة إلى التخلي عن الغزو، هوايتها الأثيرة، للمشاركة في مفاوضات حول سوريا هي آخر ورقة قد تسمح لها بحفظ ماء الوجه وصيانة البقية المتبقية من نفوذها ومصالحها في المنطقة.


لكن إردوغان وغيره من أعداء سوريا الإقليميين ينظرون بعين الهلع إلى الواقع الذي أصبح ماثلاً بوضوح أمام أعينهم: عدم اكتفاء واشنطن بالتوقف عن مواصلة العمل المشترك الذي بدأوه سوياً من أجل تنحية الرئيس الأسد، بل تجاوز ذلك إلى تغذية الأمل بالحصول على حصة في عملية تقاسم لتركة الرجلين المريضين عبر تمزيق السعودية وتركيا.


بالنسبة للسعودية التي ضخت معظم أرصدتها المالية إلى جيوب مصنعي الأسلحة الأميركيين والغربيين بحكم مغامرتها في اليمن، بات تخليها الإجباري عن المناطق الشاسعة التي استلبتها في عسير ونجران وجيزان بحكم الأمر الواقع الذي سيتبعه سقوط مدو لها ولسائر حلفائها الخليجيين.
وبالنسبة لتركيا، بات من الواضح أن الأكراد الذين يتحركون في شمال سوريا والذين يحظون بدعم علني متعدد الوجوه والأشكال لا يسعون إلى مجرد إقامة منطقة حكم ذاتي، أو حتى استقلال ناجز في الشمال السوري، الذي تسعى تركيا منذ بداية الحرب إلى تحويله إلى امتداد لإقليم اسكندرون.

بركة دماء من صنع أميركي


هدفهم من الآن فصاعداً هو، بالتوازي مع يحققونه من تقدم في سوريا والعراق، إحراز تقدم مماثل في المناطق الجنوبية الشرقية من تركيا حيث تعيش غالبية كردية يزيد عدد أفرادها عن عشرين مليوناً. والحقيقة أنهم يمتلكون ما يكفي من القوة والتقبل الدولي لتحقيق هذا الهدف الذي تطمح إليه جماعات إتنية ودينية أخرى، ما يعني أن تركيا باتت جاهزة للعودة إلى ما قبل الزمن السلجوقي...


السعودية وتركيا وغيرهما من البلدان التي تقيم شرعيتها على أسس في طليعتها الولاء لواشنطن على حساب قضايا المنطقة، لم تكن تتصور رغم كثرة النماذج والتجارب والأمثلة، أن بإمكان واشنطن أن تبيعها عند أول منعطف. من هنا الهجمات التي تشنها وسائل الإعلام المرتبطة سعودياً على أوباما. ومن هنا هذه الثورة الأردوغانية المستجدة على واشنطن التي لم يتردد السلطان عن القول بأنها قد حولت المنطقة إلى بركة دم.


لا شك بأن إردوغان قد قدم توصيفاً جيداً لواحد من وجوه واشنطن في المنطقة والعالم. ولا شك أيضاً، وهذا يشتمل عليه وعلى أضرابه من أيتام واشنطن، وفي طليعتهم السعودية، أن في الوقت متسعاً لتدارك ما هو أسوأ بكثير: الالتحاق بركب المقاومة والتحرر والاهتمام بقضايا شعوب المنطقة، بدلاً من المصافحات الحارة، في ميونخ، وغيرها لليد الإسرائيلية التي، بعد كل أفاعيلها، تقتل الفلسطينيين والفلسطينيات يومياً بدم بارد، على الأرصفة في غزة والضفة الغربية.

2016-02-17