ارشيف من :آراء وتحليلات
حديث الإفك المعاصر حزب الله ’كمنظمة إرهابية’
إياد حرفوش
عندما ظهر تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق وسورية عام ٢٠١٣م، وراج اسمه المختصر هذا بين الناس، حاولت المواقع الموالية للإرهاب ومموليه أن توجد صيغة اسمية مشابهة لحزب الله، فظهر تعبير "حالش" اختصارا لعبارة "حزب الله في لبنان والشام"، في محاولة بائسة لوضعه في كفة مقابلة لكفة الإرهاب الداعشي والعصابات المسلحة على الأرض السورية! لكن سنة الله الكونية بذهاب الزبد جفاء سرت على تلكم التسمية المفتعلة، فلا تجد اليوم من يذكرها إلا قليلا، وبقي حزب الله هو حزب الله، اسما على مسمى، لا ينتقص منه من كاده قليلا أو كثيرا! ونشهد اليوم محاولة جديدة في مضمار السياسة والإعلام معا، ببيان مجلس التعاون الخليجي، في ٢ مارس/آذار ٢٠١٦م، متزامنا مع بيان وزراء الداخلية العرب، وسبقهما بيان وزراء الخارجية العرب الذي كان أقل مباشرة وإن حمل نفس المضمون المعتل! ولا أجد في الذكر الحكيم ما ينطبق على ذياك الإفك المعاصر قدر ما تنطبق عليه الآيات الشريفات من سورة النور في قوله تعالى "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ"، وأوجه انطباق تلك الآيات على ذاك الإفك متعددة، ألا وهي:
(١) الذين جاءوا به "عصبة منا"! منسوبون للعرب وإن كنا لا ننسبهم للعروبة، فلو كان العرق العربي قدرا جينيا، فالعروبة خيارٌ واعٍ له أسس ومقتضيات، فأنت تولد عربيا ثم تكون عروبيا أو لا تكون! لكنهم بالنهاية عرب وتلك مصيبة كافية، فلست ألوم الصهيوني عندما يرى حزب الله إرهابيا! فقد وجد الحزب ليرهبه! وأنجز ما وجد لأجله! لكن وصول مساحة المشترك بين الصهيوني وبعض العربان لتلك المرحلة سابقة لها ما بعدها
(٢) الذي " تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ" معروف للجميع، وهو المملكة السعودية! وإن اتبعها "المؤلفة جيوبهم والمسعودة قلوبهم" من الحكومات والأفراد، وإن أعلنت النخب المثقفة من شعوب تلك الحكومات رفضها لما انجرت له دولهم.
(٣) نفس التعنيف واللوم الذي وجهته الآيات لمن رددوا الإفك بغير علم بقوله تعالى " لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ"، يمكن توجيهه اليوم لكثير من المضللين الذين كرروا ما سمعوه وخاضوا فيه بغير علم! ولهؤلاء - وحدهم - أكتب اليوم!
أكتب اليوم، لأنني أعتقد أننا نحن (جمهور المقاومة) نقع في خطأ كبير حين نظن بغير وعي أن ما نعرفه من حقائق ومسلمات هو كذلك لكافة الجماهير العربية! ناسين ما لأبواق إبليس من أثر ساحر في تلبيس الحق بالباطل والتعمية على شعوبنا! وما كنت أحسب أنني بعد قرابة العقد من حرب تموز المجيدة أعود لأكتب هذا الكلام، لأعرف المعروف وأكشف لون الشمس في كبد السماء! ولأنها فرصة مواتية لنشرح بعض المسكوت عنه إهمالا وتقصيرا منا، فيكون هذا الأفك خيراً لنا كما وعدنا الله! عندما نجيب عن أسئلة يطرحها إعلام المؤلفة جيوبهم في منابره!
لماذا لا تحتكر الدولة في لبنان القوة المسلحة كبقية دول العالم؟
حزب الله
استقر في الأعراف والقوانين الدولية مبدأ احتكار الدولة للعنف المشروع منذ القرن السابع عشر، وكتب عنه توماس هوبس للمرة الأولى في ١٦٥١م، وازداد وضوحا بكتابات عالم الاجتماع الألماني "ماكس ويبر" في كتابه "امتهان السياسة"! لكن "ويبر" نفسه كتب عن حالات الدفاع عن النفس، وحالات حيازة السلاح بموافقة الدولة كاستثناء! وهنا تكمن خصوصية حزب الله في الحالة اللبنانية! والتي تشبه خصوصية حركة فرنسا الحرة بقيادة "شارل ديغول"، وإن افتقرت "فرنسا الحرة" لموافقة ودعم الدولة الفرنسية الممثلة في حكومة فيتشي المستسلمة للألمان، بينما تمتع بهما حزب الله دائما! فما هي الضرورة إذاً لوجود سلاح المقاومة في وجود الجيش اللبناني؟ حتى ندرك تلك الضرورة علينا العودة بالذاكرة الجمعية للخلف لنستدعي بعض المشاهد!
بعد عامين من الاستقلال، وفي ١ أغسطس/آب ١٩٤٥م سلمت فرنسا الجيش اللبناني (٣٠٠٠ مقاتل بذاك الوقت) بقيادة الجنرال "فؤاد شهاب" (رئيس الجمهورية فيما بعد) للدولة اللبنانية، وخاضت وحدة لبنانية معركة مشرفة في المالكية ضد العدو الصهيوني خلال حرب النكبة ١٩٤٨م. ولكن - للأسف - سيطرت على السياسة اللبنانية بعد ذلك فكرة "قوة لبنان في ضعفه" وشعار "سويسرا العرب" لعدة عقود، فلم يتم تطوير الجيش اللبناني عديدا ولا عتادا إلا قليلا! وفاتهم أن لبنان يقع بقلب الشرق العربي الملتهب وليس بقلب أوروبا! ما أدى لنظرة عامة للجيش اللبناني بوصفه قوات أمنية لحفظ النظام أكثر منها عسكرية لحفظ التراب الوطني والحدود! وربما ساعد انشغال الكيان الصهيوني بالجبهة السورية شمالا والجبهة المصرية جنوبا على عدم انكشاف تبعات تلك الاستراتيجية الفاشلة لأمن لبنان القومي فورا! حتى خرجت مصر من الصراع رسميا بزيارة "السادات" للقدس في نوفمبر/ تشرين ثاني ١٩٧٧م، ليكتشف الشعب اللبناني بعد خمسة أشهر فقط فاجعة الخلل في موازين القوة مع العدو الصهيوني! عندما جرت عملية الليطاني واحتلت إسرائيل جنوب لبنان في ١٤ مارس/آذار ١٩٧٨م! لتدعم وجود ميليشيا جيش لبنان الجنوبي، والتي كانت قد تشكلت في مرجعيون بقيادة الرائد في الجيش اللبناني "سعد حداد" اعتبارا من ١٩٧٦م، من قوات منشقة عن الجيش وقوات مرتزقة، بذريعة التصدي للمسلحين الفلسطينيين في جنوب لبنان. وقد ضمنت إسرائيل أمن الحدود بتلك الميليشيا عندما انسحبت وفق قرارات مجلس الأمن، قبل أن تجتاح لبنان كله في ١٩٨٢م، لتصبح معضلة الأمن القومي حاضرة بذهن كل لبناني، فقد كان الاجتياح رغم المقاومة الباسلة لبعض الفصائل اللبنانية درسا مريرا في سرعته ومحدودية خسائر الصهاينة فيه. من رحم تلك الحقيقة المريرة تأسست المقاومة اللبنانية التي تبلورت لاحقا باسم حزب الله، لتحول تلك الانكسارات إلى انتصار في مايو/أيار ٢٠٠٠م ثم يوليو/تموز ٢٠٠٦م.
لماذا يتحالف الجيش اللبناني مع المقاومة؟
لم يُنصِف الجيش اللبناني أحدٌ قدر ما أنصفه "فخامة المقاوم" الرئيس الأسبق "إميل لحود" الذي صنع بواقع لبنان معادلة القوة؛ الشعب والجيش والمقاومة (تلك التي يسخر منها البعض اليوم ويسميها معادلة خشبية) منذ استطاع تحقيق انتشار الجيش اللبناني الذي كان يقوده وقتها في جنوب لبنان عام ١٩٩١م، ومنذ ضمن بعد التحرير عدم التعارض بين وجود الجيش وسلاح المقاومة وضمن التنسيق بينهما، وعندما خالف البروتوكول الرئاسي، وخرج لاستقبال السيد حسن نصر الله في بهو قصر بعبدا في مايو/أيار ٢٠٠٠م وقال لمنتقديه؛ "كونوا مثله وسأخرج لاستقبالكم".
واليوم، تعلو بعض الأصوات في لبنان تتهم الجيش بمهادنة المقاومة. ويتناسى هؤلاء تاريخا من الظلم وقع على الجيش اللبناني قبل أن تستقر معادلة "الشعب والجيش والمقاومة" التي يتهكمون عليها. ظُلم الجيش اللبناني منذ تأسيسه (أو بالأحرى نقل تبعيته للدولة) عشية الاستقلال ثم توظيفه كقوات أمنية، وظلم عند الزج به في أزمة ١٩٥٨م، ثم ظلم عند دفعه نحو حالة توتر دائم مع الفصائل الفلسطينية بداية من الصدام المسلح بمخيم نهر البارد في أغسطس/آب ١٩٦٩م، مرورا بمعارك مايو/أيار ١٩٧٣م (التي وضعت بذور الحرب الأهلية) وحتى الصدام الأخير في نهر البارد في مايو/أيار ٢٠٠٧م. (ولست أعفي الفصائل الفلسطينية قطعا من مسؤوليتها في تلك الصدامات)، وظُلم عندما أقر قانون خدمة العلم/ التجنيد الإجباري عام ١٩٧٣م بدون برامج فعالة لصهر التركيبة اللبنانية في بوتقة الجيش الوطني بهوية لبنانية جامعة، فتسربت عناصره للميليشيات مع اندلاع الحرب الأهلية. وظلم عند عودة خدمة العلم بعيد الحرب الأهلية بدون برامج فاعلة، ثم إلغائها في ٢٠٠٤م بدون نظام بديل لرفع عديد الجيش. وظلم يوم بقيت مرتبات ميليشيا "لحد" تصرف من الجيش اللبناني حتى مطلع التسعينيات. من يتأمل تاريخ لبنان المعاصر يفهم يقينا أن معادلة الجيش والشعب والمقاومة حمت الجيش قبل أن تحمي الشعب والمقاومة، ولا مجال للمزايدة على ذلك.
هل حرصت المقاومة على إبقاء الجيش اللبناني ضعيفا كما يدعون؟
هناك أربعة عقود مرت منذ تأسيس الجيش كما أسلفنا وقبل أن تتكون الفصائل الأولى من حزب الله! فمن كان يمنع الجيش اللبناني من اكتساب مقومات القوة خلال تلك العقود الأربعة لو كنتم اليوم تنسبون هذا للمقاومة؟ وهناك أكثر من موقف قال فيه حزب الله إنه يترك المضمار للجيش اللبناني ليقوم بواجبه في مكافحة الإرهاب داخل لبنان، فهل هذا مسلك من يريد الجيش ضعيفا بحرمانه من ممارسة دوره؟
هل حزب الله مفروض على المعادلة اللبنانية بقوة الأمر الواقع؟
عندما نذكر "المؤلفة جيوبهم" بخصوصية حزب الله في الواقع اللبناني وأن سلاحه موجود بموافقة ومشاركة الدولة اللبنانية، يقولون إنه يفرض هذا بقوة الأمر الواقع. فهل هذا صحيح؟
قد تقبل بالأمر الواقع رغما عنك، ولكنك لا تتحالف معه إلا بإرادتك. وهذا هو الواقع اللبناني، فالتيار الوطني الحر بقيادة الجنرال "ميشال عون"، وحركة أمل بقيادة رئيس مجلس النواب "نبيه بري"، وتيار المردة بقيادة النائب "سليمان فرنجية"، فضلا عن الأحزاب القومية وحزب الطاشناق الأرمني، كلهم متحالفون مع حزب الله في شراكة سياسية. وهو واقع ينفي فرضية الأمر الواقع، لأنه مؤسس على اختيار استراتيجي حر لتلك الأطياف، ومؤسس على تاريخ سلاح حزب الله الذي لم يوظف يوما لتغيير واقع الحياة السياسية في لبنان، ولا لفرض أيديولوجية الحزب حتى في حاضنته الشيعية في الجنوب والضاحية، ولا حتى على جمهوره تحديدا. فستجد بين جمهور الحزب إسلاميين وقوميين وعلمانيين، ستجد منهم اللبناني وغير اللبناني من شعوبنا العربية، لا يجمعهم غير خيار المقاومة.
لماذا ترفضون وسم حزب الله بالإرهاب وتسمون به الجماعات المسلحة السورية؟
لو كانت الجماعات المسلحة في سورية وجهت بنادقها لتأسيس مقاومة شعبية في الجولان السوري المحتل، ولم توجهها لتغيير الواقع السياسي في سورية، لو وجهتها لصدر الصهيوني ولم توجهها لتفرض بها أيديولوجيتها على الشعب السوري، لكان لنا منها موقف مغاير ولما وسمناها ولا قبلنا أن توسم بالإرهاب. وصدق أمل دنقل رحمه الله حين قال:
وهل تستوي يد سيفها كان لك .. بيد سيفها أثكلك؟
ألا إن سيف حزب الله كان وما زال وسيبقى لنا، لكن على قلوب أقفالها، وليس في الأمر التباس إلا على من أعمى الدولار بصيرته. صدق رسول الله (ص) حين قال إن فتنة أمته هي المال. وفتنة أمتنا العربية هي مال النفط بلا أدنى ريب. هذا النفط الذي لم يتحول في الشرق العربي إلى تنمية مستدامة ولكنه تحول إلى أوار نار لا تنطفئ.
وختاما؛ لو كانت البندقية الموجهة لصدر الصهيوني وصنوه التكفيري إرهابا فألف أهلا بالإرهاب، وأشهد الله والناس أني أول الإرهابيين.