ارشيف من :آراء وتحليلات

الى أُمّة ’Facebook’ و ’WhatsApp’

الى أُمّة ’Facebook’ و ’WhatsApp’

ظافر رمضان

 

لطالما سعى أرباب العلمانية الى اختراق أسوار الشعوب الإسلامية المحافظة وكسر أبوابها "المنيعة"، لدخول حصونها المشيّدة على أسس الأخلاق الحميدة والعادات والتقاليد الإسلامية، كل ذلك في سبيل الترويج للكثير من الأفكار المعادية للإسلام، أو لأفكار وممارسات تؤدي الى إفساد أخلاقيات الشعوب، أو لاختراق منظومتها المحافظة في اتجاهات شتّى، سياسية، اقتصادية، اجتماعية...إلخ.

فبالرغم من حداثة مصطلح "العلمانية" في الثقافة الاسلامية، إلا ان الحركة العلمانية نشأت كحركة اجتماعية واقتصادية وسياسية وعلمية في الغرب، خلال قرون من النمو والتّطور منذ ما قبل الثورة الفرنسية والنهضة الأوروبية في القرن السابع عشر، على خلفية الصراع الذي نشأ بين الكنيسة وروّاد الاكتشافات العلمية الحديثة، "الثورة العلمية"، بعد أن قابلتهم الكنيسة بالهرطقة والردّة.

الى أُمّة ’Facebook’ و ’WhatsApp’

الى أُمّة "Facebook" و "WhatsApp"

ومصطلح «العلمانية» أو «Secularism» بالإنكليزية يعني اللادينية أو الدنيوية، بخلاف ما هو شائع عن ارتباطه بالعلم أو «Scientism» بالإنكليزية. وهو مصطلح أُطلق بالأصل على جماعة، اجتماعية في أصل نشأتها، تسعى الى ربط توجهات الناس، فرداً أو جماعة أو أُمة، بالدنيا فقط وصرف نظرهم عن الدين والآخرة والغيب والخالق، والترويج لمصطلحات عديدة تصب في الهدف نفسه؛ المادية، المدنية، اللاروحي، الليبرالية...الخ وبالتالي السعي للقضاء على كل المنظومات الأخلاقية والقيمية التي تم وضعها من قبل الرسالات السماوية، كما القضاء على مفهوم الغيب والارتباط بالله تعالى كأساس.

فعلى مرّ التاريخ الحديث، عمد الغرب الى نشر «الثقافة» العلمانية، إذا صح إطلاق صفة الثقافة عليها، في مجتمعاتنا الإسلامية من خلال عدة مراحل؛ الاستعمار العسكري الغربي المباشر، خلال القرنين الماضي، لنهب ثروات الشعوب المُستعمرة، تحت ذريعة نشر الحضارة او تحضير الشعوب «Civilization»، وكأنّ الشعوب المستعمرة كانت بلا حضارة أصلاً. فرافقت فترة الاستعمار العسكري التشجيع على إرسال البعثات العلمية من الشرق الى الغرب لدراسة العلوم الحديثة، والتي تفوّق بها الغرب على الشرق آنذاك، إلا أنهم عادوا بالكثير من العلمانية لا بالعلم فقط، وأضحت البعثات التبشيرية وما رافقها من بناء مدارس وجامعات أجنبية في البلدان المستعمرة نشطة، وقد استمرت الى ما بعد مرحلة الاستعمار وتحقيق الاستقلال، مما نتج عنها الكثير من الطلاب الحاملين لأفكار العلمانية. إلا أن الاستعمار العسكري المباشر أثار الكثير من مشاعر الشعوب، وبقيادة مناضلين ثوريين قاوموا بالسلاح والكلمة حتى حققوا استقلالهم.

بعد انتهاء مرحلة الاستعمار المباشر، وفي سبيل استمرار هيمنتهم على شعوب المنطقة العربية والإسلامية، انطلقت مرحلة جديدة وشكلٌ جديدٌ من أشكال الاستعمار الغربي. فخلال النصف الثاني من القرن الماضي وتحت عنوان الاستثمار الاقتصادي، بدأ انتشار الشركات الاقتصادية الغربية الكبرى يغزو شعوب العالم الثالث، الشركات المتعددة الجنسيّات حاملة معها توجهاتها العولمية نفسها، ولكن من خلال شكل جديد بعيد عن صوت المدافع وطبول الحرب واستثارة مشاعر الشعوب بشكل مباشر، بل عبر أدوات بسيطة وبراقة جاذبة، مرغوبة من قبل الأعم الأغلب، ونعني بها الإعلام المرئي والمسموع. وفي مرحلة لاحقة أصبحت هذه الأدوات لا يمكن الاستغناء عنها، فبدأ فصل جديد مختلف عما سبقه، يُطلق عليه اسم «الغزو الثقافي» من خلال عصر التكنولوجيا.

 

تنوّعت أدوات الغزو الثقافي بين الدعايات لمنتجات استهلاكية، الى الأفلام والبرامج والمسلسلات، الأجنبية والعربية والتركية على حدٍ سواء، بالإضافة الى برامج الكلام أي ما يعرف باسم «Talk Show»، وصولاً الى برامج سوبر ستار والفيديو كليب... إلخ. كما دخول عالم الإنترنت والذي لم يكن في متناول الجميع آنذاك. فتغلغلت هذه الأدوات والبرامج في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وفي مختلف الشرائح العمرية، من الطفل الصغير الى الطاعن في السن دون استثناء، مما انعكس سلباً على نواة مجتمعنا الإسلامي «الأسرة»، وكان الهدف الرئيسي تفكيكها لصالح تمايز الفرد الواحد فقط، مخلفةً العديد من الآثار السلبية كما تشير الدراسات المتخصصة الى ذلك، إن كان على صعيد العقيدة والفكر والاخلاق والصحة والقيم المجتمعية، كما أسهمت في نزع خُلق الحياء من نفوس الأبناء كما الآباء على حدٍ سواء، فأصبحت مِثالاً لمقولة «إذا لم تستحِ فاصنعْ ما شئت".

ونتيجة لذلك، وتمثلاً بالغرب والتشبه به، دخلت مجتمعاتنا العربية والإسلامية في دوامة التغييرات التي فُرضت عليها وما تبعها من آثار سلبية، مما أحدث إرباكاً كبيراً وتناقضاً هائلاً في تصرفات وسلوكيات أفراده، اجتماعياً وأخلاقياً ودينياً. إلا أن هذا الأمر، بكامل أدواته، لم يحقق الهدف المنشود، أي تفكيك الأسرة بشكل كامل. إذ ان الأمر انحصر بين مرسل، عبر شاشات التلفزة وما شاكل، ومتلقٍّ، يمكن أن يكون فرداً واحداً أو الأسرة مجتمعة، يتلقى دون أن يكون له دور أو أثر إلا «التلقّي» ولفترات محددة يومياً من الوقت. إلا أن عصراً جديداً قد بدأ متمثلاً بشبكة التواصل الافتراضية، والتي أصبحت تُعرف بشكل أساسي «بشبكة التواصل الاجتماعي». قد إستطاعت أن تحقق ما لم يتحقق سابقاً.

فمع دخول برامج التواصل الاجتماعي العالمية، ونعني بها «Facebook» و«WhatsApp» عبر الألواح الذكية، وبعد أن فرضت نفسها بالقوة داخل المجتمعات العربية والإسلامية خلال السنوات الماضية، وهي بالأعمّ الأغلب مجانية ومتاحة للجميع، قد صُمّمت لتكوين مجتمعات افتراضية جديدة جمعت بين النصّ المكتوب والمقاطع المرئية والمسموعة، قد جعلت التواصل والتفاعل من كِلا الطرفين، المرسل والمتلقي، محققاً بشكل كبير وبشكل دائم، فتحول المستخدم، بخلاف السابق، من متلقٍّ للمعلومة الى منتج ومشارك فيها ومروج لها أيضاً، فباتت تهدد ترابط الأسرة الواحدة بشكل كبير وخطير، فانتقلنا بذلك من مرحلة الغزو الثقافي الى مرحلة باتت تُعرف بـ "الحرب الناعمة".

فبسبب ما يعانيه الفرد في من فراغ وبطالة وتهميش وظلم وفقر وجهل وغياب العدالة الاجتماعية وغيرها من الأمور، والتي تحول بينه وبين الاندماج الحقيقي والصحيح في مجتمعه وأُسرته، وبالأخص فئة الشباب التي تتميز بروح المغامرة والإثارة وحب الاكتشاف، دفعته الى الإقبال على شبكات التواصل الاجتماعي بشكلٍ كبير، باعتبارها المجال الأمثل للدخول الى عالم يبحر به في جميع الاتجاهات والى كل أصقاع الأرض، فتوفّرت له مساحات للتعبير عن وجهات النظر، دون رقيب أو حسيب، في فضاءات مفتوحة للتمرد والثورة على الخجل والحياء كما على الأنظمة السياسية. فبعد أن أوجد هذا العالم الافتراضي الملاذ للهروب من المشاكل الحقيقية، والتحول الى ذوات فاعلة تحقق الإنجازات بالمشاركة وإبداء الآراء المختلفة في شتّى المجالات الافتراضية، للتعويض عن النقص الذي طالما شعر به في حياته، وقع في وهم افتراضي وهو "تحقيق الذات".

بناءً على ما سبق، ومن دون تغييب الجانب الإيجابي لهذه التقنيات المتاحة إذا ما تم استخدامها بشكل صحيح، إلا ان هذه الحياة الافتراضية، مع ما يصاحبها من الإصابة بالإدمان في حالات كثيرة، تدفع الفرد الى وضع حدود فعليه وواقعية بينه وبين محيطه الاجتماعي، كما الأسرة التي يعيش في كنفها بشكل أساسي، مما يجعل التواصل والترابط الفعلي مفقودا ولفترة طويلة من الوقت خلال اليوم الواحد، مسببة حالة جديدة بات يُطلق عليها الخبراء اسم «فقدان العلاقات الاجتماعية»، فيصبح تهرب الفرد من تحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقه أمراً لا مفر منه. كما أصبحت الانتهاكات الصارخة للحياة الشخصية، عبر الوصول الى كامل تفاصيل حياة الفرد، وغياب المصادر الموثوقة للأخبار المنشورة وانتشار الشائعات، وترويج الكثير من الأخبار السلبية حالة يومية نجدها في مجتمعنا.

إلا ان الخطر الكامنفي محاولة متقدمة لتحطيم النواة الرئيسية للمجتمع،  لا ينحصر في ذلك فقط، بل يكمن أيضاً في سيطرة الغرب على هذه الشبكات الافتراضية ليضمنوا وصول أفكارهم «المتحررة والمعولمة» الى أكبر شريحة ممكنة من أفراد المجتمعات المستهدفة، فيعبثون بتربية الأجيال الناشئة، ويغيّرون في أنماط تفكيرهم ورؤيتهم للقضايا التي يتعرض لها المجتمع. ويحدث كل ذلك دون أن يكون هناك أدنى مقاومة أو مواجهة لهذه المنظومة الوافدة، بلى على العكس من ذلك، أصبح التبني لهذه المنظومة متحققاً من قبل الكثير من شرائح المجتمع تحت ذرائع عديدة، كالانفتاح والتواصل على سبيل المثال لا الحصر، وكل ذلك بسبب جهلهم إن من ناحية الأهداف التي تسعى لتحقيقها، أو من ناحية فهم ماهية هذه الوسائل البراقة واللامعة وأخطارها، والتي تجذب الفرد الى الانجرار وراءها دون عناء التفكير بخلفياتها، قصراً أو قصوراً، بالإضافة الى غياب المنظمات المجتمعية المسؤولة عن توعية الفرد، إلا ما ندر.

وبإطلالة سريعة على بلداننا العربية والإسلامية، نجد أن معظمها يفتقد للبرامج التربوية المدرسية المناسبة، أو المراكز البحثية المتخصصة في المجال الاجتماعي والمهتمة بهذا الشأن، إن كان على الصعيد الرسمي أو الخاص، ما خلا المراكز العائدة الى المؤسسات الحكومية أو الأحزاب، والممول معظمها من الخارج، والتي لن تسهم إلا في تغييب الوعي المنشود لعدم اهتمامها في رفع الوعي الاجتماعي أصلاً. وحال وجود بعض المنظمات ومؤسساتها المجتمعية التي تعي هذه المسؤلية، لن تكون البرامج أو الورش والندوات التي تقيمها بكافية، فالمسؤولية على عاتق الجميع ممن يستطيع تقديم يد المساعدة في هذا الشأن.

فالبرامج التربوية المدرسية جزء هام وفعّال كجبهة أولى، إذا ما تم تنشئة الأطفال من الحلقات الدراسية الأولى، عبر العمل الجاد والحثيث للتوعية من مخاطر العالم الافتراضي، وما يحوية من تواصل اجتماعي وثقافي وأخلاقي يكون خطراً عليهم. وتأتي الأسرة نفسها، والتي هي مهددة بالدرجة الأولى، لتكون الجبهة الثانية في الدفاع، وذلك عبر سلوكيات الأهل وممارستهم اليومية الهادفة الى توعية الأبناء، ليس  لمواجهة هذه المخاطر فقط، بل للقدرة على التعامل السليم مع هذه التقنيات والأدوات لما فيه القدرة على الاستفادة منها مع عدم الانجرار الى مستنقعها العكر.

كما ان القنوات والمحطات التلفزيونية، كجبهة ثالثة، تستطيع أن تلعب دوراً في توجيه الرسائل المختلفة، المباشرة وغير المباشرة من خلال برامجها اليومية، لتبيان الآثار السلبية التي تسببها مواقع التواصل الاجتماعي إن كان على الصعيد الاجتماعي، كالمشاكل الاسرية المستجدّة، أو على الصعيد الفردي، كمخاطر الإدمان الإلكتروني أو الصحة الجسدية والنفسية، مما يساعد في رفع الوعي لدى المشاهدين. بالإضافة الى ذلك، يستطيع الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي أن يكونوا الجبهة الرابعة في هذه المجال، ان كان عبر تأسيس مجموعات افتراضية أو صفحات عامة، يغرّدون من خلالها للمساهمة في توجيه الرأي العام الافتراضي، واعادة ضبطه للمسار الصحيح قدر الإمكان؛ نصائح عامة، نقد بنّاء، فضح الإهداف الكامنة، كشف الصفحات الزائفة، ملاحقة الإشاعات والحد منها، التركيز على القضايا التي تهم مجتمعنا والتركيز عليها، متابعة المستخدمين الافتراضيين من قبل بعض الناشطين الذين لديهم تأثير فعال عليهم... إلخ.

لقد أصبحت مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وعلى مر السنوات الماضية، عرضة للكثير من التشويه والانحراف على عدة صعد، الفكر والاخلاق والقيم المجتمعية وغيرها، ممّا أدّى الى فتح ثغرة كبيرة استطاع الفكر الغربي الدخول من خلالها، كجرثومة سرطانية خفية أخذت تمعن في الانتشار بين الإعضاء السليمة لهذه المجتمعات، وإذا لم نستطيع إيجاد وابتكار المضادات الحيوية المناسبة وتفعيلها في أسرع الوقت، سيصل بنا الأمر للدخول الى غرفة العناية المركزة، اذا لم نكن قد دخلناها مسبقاً.

2016-03-11