ارشيف من :نقاط على الحروف
صدق الجار الله.. هي مشكلة فكر
منذ ان انتصرت الثورة الإسلامية في إيران حتى أعلنت طهران انحيازها التام للقضايا الإسلامية والعربية ولكل قضايا المستضعفين في العالم وعلى رأسهم القضية الفلسطينية. أقدمت الجمهورية - الثورة على إقفال السفارة الصهيونية في طهران، وحولتها الى سفارة فلسطينية وسلمتها للمعنيين بها، وعلى الرغم من ان ثلاثين سنة كانت قد مرت على إنشاء الكيان الصهيوني واغتصاب فلسطين الا ان أياً من العرب لم يفكر ان يقيم سفارة فلسطينية في بلاده. وبمحاذاة القضية الفلسطينية اعلنت ايران الثورة انها لن تقيم علاقات مع جنوب افريقيا طالما ان النظام فيها نظام قائم على التمييز العنصري. لقد كان الشعار الاساس للجمهورية الاسلامية الايرانية ان هذه الجمهورية الناشئة ستكون لا شرقية ولا غربية في اطار تحديد هوية خاصة للجمهورية- الثورة، لن تكون فيها علاقاتها مع المعسكرين آنذاك، الغربي والشرقي، علاقة تابعية كما كان مألوفا في ذلك الوقت. حددت الثورة هويتها وتموضعها، هي جمهورية اسلامية مستقلة تقف الى جانب المستضعفين في الارض بمعزل عن هويتهم الدينية والمذهبية.
ثلاث سنوات فقط فصلت بين انتصار الثورة في ايران (1979) والاجتياح الاسرائيلي للبنان (1982)، ومع هذا الاجتياح بدأت تتكون نواة ما عرف لاحقا باسم حزب الله.
كان شعار حزب الله واضحا منذ البداية، تماما كشعارات الثورة الاسلامية في ايران: مقارعة الاحتلال الاسرائيلي بوصفه عدوانا على لبنان، ودعم القضية والشعب الفلسطيني بوصفه شعبا مستضعفا اغتُصبت ارضه وسُلبت حقوقه. لم ينظر حزب الله الى القضية الفلسطينية من منظار الهوية الطائفية والمذهبية للشعب الفلسطيني بل من منظار إسلامي جامع اولا، وانساني متعاطف مع شعب مستضعف ثانيا، ومن منظار ثوري يقف الى جانب الضحية في وجه الجاني والمحتل. ومنذ ان بدأ حزب الله عمله، كانت الوحدة الاسلامية في صلب شعاراته، لكنها لم تكن شعارات كلامية وحسب بل كانت عملًا دؤوبًا لرسم معسكر وحدوي بين السنة والشيعة. وقد كان «تجمع العلماء المسلمين» هو أحد ثمار هذا العمل، وقد نشط التجمع آنذاك في مختلف المناطق والمساجد السنية والشيعية. لم يبخل حزب الله في دعم هذه الوحدة، وحتى عندما قرر الحزب الدخول في العمل البرلماني فان بعض اعضاء الجماعة الاسلامية كانت على رأس لوائحه الانتخابية.
وعلى الرغم من أن حزب الله لم يسلم من المؤامرات العربية الكثيرة التي كانت تحاك ضده، الا انه غالبا ما كان يتجاهلها حتى لا تُستغل في تحطيم العناصر الاسلامية الاساسية في مشروعه، وأعني بها عناصر الوحدة بين المسلمين.
قدم حزب الله، سواء على مستوى خطابه التنظيمي الداخلي، او على مستوى خطابه مع الآخر، خطابا جديدا فيما يتعلق «بالحركة الجهادية»، كان الخطاب التعبوي الداخلي قبل الخارجي يتمحور حول فلسطين. وحتى من يتسنى له مطالعة الكراسات التثقيفية داخل الحزب سيجد كيف ان القضية الفلسطينية ومقارعة اسرائيل هي القضية المركزية في تعبئته ومشروعه «الجهادي».
اذن، مشروع محاربة اسرائيل ومواجهة المشروع الاميركي لا يمثل بالنسبة للحزب شعارا عارضا بل يمثل عمق الهوية الفكرية والثقافية والسياسية لحزب الله.
هذه الهوية الفكرية لطالما كانت تصطدم بالهوية الفكرية للأنظمة العربية المستبدة والتي كانت تتحين الفرص للانقضاض على القضية الفلسطينية من أجل تصفيتها. أنظمة كانت ولا تزال تريد تسويق ثقافة الاستسلام للعدو، التي كانت تسوق أنه قوي لا يقهر من اجل تبرير ضعفها وخنوعها ووهنها وتراجعها وهزائمها. لكن ما حصل عام 2000 شكل منعطفا كبيرا في المنطقة. فالعدو الاسرائيلي الذي قيل انه لا ينهزم ولا ينسحب من ارض احتلها الا بمعاهدة او اتفاقية، انسحب من لبنان دون قيد او شرط، وقد تم الانسحاب في وقت كانت التكنولوجيا تسمح بتصوير المنهزم والمنكسر، فانتشرت صور العدو كيف يهرب تاركا عملاءه وراءه. وفي الحقيقة، وبقدر ما كان وقع صور هزيمة العدو عام 2000 كبيرا على هيبة الجيش الاسرائيلي، فقد كان وقعها اكبر بأضعاف على تلك الطغم العربية الحاكمة التي تمتلك مليارات الدولارات وآلاف المعدات العسكرية ومئات الاف الجنود.
صحيح ان اسرائيل كانت بأمس الحاجة لحرب 2006 من أجل اعادة ترميم قدرة الردع لديها، وترميم الصورة المهشمة التي سعت لترسيخها منذ نشوئها، بحيث انها كانت تربح حروبها قبل ان تخوضها، لكننا لن نجافي الحقيقة ان قلنا ان حاجة هذه الانظمة العربية لهذه الحرب كانت اكثر من الحاجة الاسرائيلية. لذلك لا غرابة ان يكون شعار العرب في حرب 2006 هو «حزب الله المغامر»، لان اصطلاح «المغامرة» يعبر تعبيرا دقيقا عما كان العرب يعملون عليه طوال سنوات الاحتلال الاسرائيلي. لان المغامرة تعني التهور، والتهور يعني ان طرفا "ضعيفا" يتحرش بطرف "قوي". نعم كان اصطلاح المغامرة يكشف عمق استراتيجية الانظمة. ولعل هذه النقطة واختيار كلمة مغامرة دون سواها قد غاب عن ذهن الكثيرين ممن لم يلتفتوا الى وجه العلاقة بين هذه المفردة واستراتيجية الانظمة العربية.
لكن، لماذا كل هذه المراجعة وما سببها؟ السبب بسيط جدا لقد اردت ان اقول ان الكاتب «عبدالعزيز الجار الله» قد أصاب من حيث لا يدري في عنوان مقالته التي نشرتها صحيفة «المدينة» قبل أيام تحت عنوان «محاربة فكر حزب الله».
صحيح ان «الجار الله» اراد من هذا العنوان شيئا آخر له بعد طائفيُّ ومذهبي كما هو دأب كُتّاب واقلام آل سعود، لكنه بالفعل وضع يده على صلب المشكلة بين حزب الله وآل سعود ومن يقف معهم: المشلكة مشكلة فكر وثقافة، ولطالما كانت المشكلة كذلك، مشكلة حزب يثقف محازبية وانصاره على نبذ الطائفية والمذهبية، وعلى رفض الظلم والعدوان، وعلى رفض الخنوع والاستزلام، وعلى رفض الذل امام طواغيت المال. نعم أيها «الجار الله» إنها مشكلة فكر: فكر وحدوي مقابل تفتيتي وفكر مقاوم مقابل انهزامي وفكر تنويري مقابل ظلامي.