ارشيف من :آراء وتحليلات
قراءة حول تخفيض الوحدات الروسية في سوريا
لا شك انه كان لقرار الرئيس الروسي وقع مؤثرٌ على كافة الاوساط عربيا واقليميا ودوليا من النواحي العسكرية والديبلوماسية وحتى الاستراتيجية، منهم من تفاجأ بالخطوة ويعمل جاهدا حاليا على دراستها وتحليلها، ومنهم من اعتبرها مقدمة لسحب بساط الدعم الروسي من تحت أقدام الجيش والدولة في سوريا، وذهب بعيدا في ربط الانسحاب بخلاف اساسي بين الرئيسين الروسي والسوري على خلفية استراتيجية المفاوضات والاصلاحات، ومنهم من نظر الى الخطوة، ومن منظار موضوعي وواقعي، بانها خطوة مدروسة ومنسّقة مع الرئيس الاسد وهي غير بعيدة عن النقلات الخارقة الشطرنجية التي يتميز بها الرئيس بوتين عادة.
استنادا للمعطيات والوقائع السياسية والعسكرية والديبلوماسية، وفي دراسة لهذه الخطوة من الناحيتين الاستراتيجية والميدانية، وحيث تبقى الاخيرة هي النقطة الاساس والمؤشر المحرك لاغلب هذه المعطيات، يمكننا استنتاج التالي:
من الناحية الاستراتيجية
اولاً : لم تتعارض هذه الخطوة مع التصريحات والمواقف الروسية التي سبقت او تزامنت مع نقل وحداتها الى سوريا في نهاية ايلول من العام الماضي، او حتى التي رافقت الضربات الجوية الحاسمة في الميدان السوري، والتي كانت دائما وعلى لسان كبار المسؤولين الروس تعتبر ان الهدف الاخير هو تحضير الارضية الميدانية والسياسية والشعبية لمفاوضات مباشرة بين الدولة السورية والمجموعات المعتدلة والتي لا بد وان تنخرط في النهاية في هذه المفاوضات اذا كانت فعلا مهتمة بايجاد حل سياسي يجنّب سوريا الانهيار والدمار الكامل.
ثانيا: تميزت الاستراتيجية الروسية التي طبعت مسار تدخلها ونمط مناورتها عسكرية في سوريا، من خلال التحكم بالميدان بطريقة تخدم الحل السياسي السلمي حيث لم يثبت انها ذهبت في قصفها الجوي او الصاروخي لهدف التدمير او القتل للتدمير وللقتل، بل كانت استراتيجيتها دائما في تشجيع الجيش السوري على اعطاء الفرص الدائمة للمسلحين لاظهار اعتدالهم والعمل على نزع النقاط القوية في الميدان منهم والتي كانت تعطيهم القدرة على الاستمرار في رفض الحلول السلمية او رفض الانخراط في التسويات والمصالحات المحلية او الواسعة، وحيث انها ساهمت وبفعالية مع الجيش السوري الذي توصل ميدانيًّا الى نزع هذه النقاط منهم وفرض عليهم الذهاب الى المفاوضات حتى المباشرة مع وفد الحكومة السورية، رأت في وقف الحملات العسكرية على هؤلاء مصلحة لاكمال هذا المسار السلمي بعيدا عن ضغوط النار والصواريخ الفتاكة.
ثالثا: كانت ولا تزال الاستراتيجية الروسية تعتبر ان محاربة الارهاب هي اولوية لتحركاتها العسكرية والديبلوماسية، وانها ستسعى لتحقيق هذا الهدف والقضاء على الارهاب بكافة الوسائل، وهذا لم يتغير في مناورتها ضد داعش او جبهة النصرة او ضد كل فصيل ارهابي.
من الناحية الميدانية
اولاً: على الرغم من الدور الفعال للوحدات الجوية الروسية وللمستشارين والخبراء العسكريين في مساعدة الجيش السوري وحلفائه على استعادة السيطرة على مناطق واسعة في الاراضي السورية من خليط المسلحين (ارهابيين او معارضين متشددين، لقد كان الدور الاساس في ذلك لوحدات الجيش العربي السوري وحلفائه الذين اصبحوا الان يسيطرون على ارياف اللاذقية بالكامل تقريبا وعلى السواد الاعظم من ارياف حلب والمناطق الجنوبية حتى درعا على تخوم الحدود مع الاردن او مع العدو الاسرائيلي، وعلى حزام امان واسع في ارياف العاصمة والمدن الرئيسة، وهم الآن على طريق استعادة السيطرة على عاصمة البادية تدمر وامتدادا الى دير الزور لفك الحصار عن مطارها وعن مناطقها المحاصرة، وهم بذلك يحضرون للحصول على نقطة ارتكاز واسعة وقوية في الشرق السوري تؤسس لمحاربة داعش في عمق انتشارها الذي يبدو انه بدأ يتفكك لاسباب متعددة.
ثانياً: لقد اكد المسؤولون الروس، سياسيون وعسكريون، ان قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية باقيتان ولتنفيذ المهمات السابقة ذاتها، كما وانه من الناحية العملية، ان وجود هاتين القاعدتين يشكل نقطتي ارتكاز ثابتة وجاهزة دائما لاستقبال أية قطعة بحرية أو أية قاذفة جوية، وان الغواصات والبوارج الروسية المنتشرة في بحر قزوين او في قواعد جنوب جزيرة القرم، مع صواريخها الباليستية الاستراتيجية كصاروخ " كاليبر" مثلا وغيره باقية لتنفيذ مهمات حماية الامن القومي الروسي، كما ان تأكيدهم على بقاء المنظومة المتطورة المضادة للطائرات وللصواريخ س س 300 وس س 400 يشكل مؤشرا واضحا في التزام القيادة الروسية حماية الاجواء السورية وحماية الوحدات البرية، وذلك في المساهمة مع الطيران السوري ووحداته الصاروخية المضادة للطائرات التي خطت مؤخرا خطوات متقدمة جدا وبتجهيز عسكري روسي، نحو الحصول على جهوزية متطورة لحماية الأجواء السورية.
ثالثاً: ان اغلب القاذفات الروسية والتي شملها قرار قيادتها بالانسحاب، نفذت مهماتها التي تمحورت حول ضرب وتدمير اهداف استراتيجية كغرف العمليات وشبكات الانفاق المعقدة والمحصنة ومخازن الاسلحة والذخيرة والصواريخ الاساسية والثانوية وكامل البنى التنظيمية لاغلب الجماعات المسلحة، ارهابية او "معتدلة متشددة"، وبالتالي فان القاذفات الروسية الباقية في قاعدة حميميم والمضافة الى القاذفات السورية والتي تطورت واصبحت فعالة لدرجة انها كانت تنفذ مؤخرا اغلب طلعات الدعم الجوي، اصبحت كافية لتغطية الميدان كاملا والذي انحصر بمناطق معينة، لا تحتاج الى هذا الاسطول الكبير والذي كان لقسم أساسي منه دور استراتيجي مرتبط بالتوتر مع تركيا ومع حلف شمال الاطلسي ومع الوحدات الاميركية العاملة في المنطقة، والذي يبدو (هذا التوتر) انه قد تم استيعابه على خلفية التفاهمات الروسية الاميركية والاوروبية حول محاربة الارهاب وحول الحل السلمي والمفاوضات وعلى خلفية ايجاد حلول يشترك فيها الجميع (وضمنا تركيا) لمشكلتي اللاجئين والارهابيين في اوروبا.
واخيرا... لقد ارادت روسيا من هذه الخطوة تقديم بادرة حسن نية لرعاة المعارضة السورية المعتدلة، من خلال إزاحة الضغط والصورة المرعبة التي تولدها القاذفات الاستراتيجية المنتشرة في سوريا، والتي طالما اعتبرها هؤلاء حجر عثرة تعيق التفاوض من مواقع متوازنة، فتنزع بذلك عنهم الشعور بالضغط وبالاكراه او ما شابه، وارادت ايضا، ومن خلال استراتيجية ذكية وضع الجميع امام مسؤولياتهم في الذهاب الى حل سلمي يأخذ بعين الاعتبار مصلحة الشعب السوري دون السماح للجهات الاقليمية المعروفة باستغلال هذا الشعب على خلفية خبيثة، ظاهرها دعمه لتأمين حقوقه وباطنها تسليحه لتدمير سوريا ولتأمين مصالح تلك الجهات ومخططاتها.