ارشيف من :آراء وتحليلات

من يؤجِّج النزاع بين أرمينيا وأذربيجان؟..

من يؤجِّج النزاع بين أرمينيا وأذربيجان؟..

في تسعينات القرن الماضي نشب نزاع مسلح حول إقليم "ناغورني قره باخ"، وهو إقليم متنازع عليه بين دولتي أرمينيا وأذربيجان منذ عقود، ويدعي كلا الطرفين حقه في الإقليم.

يعود الصراع إلى مطلع القرن العشرين، عندما دخلت الإمبراطورية الروسية المتعددة الإتنيات مرحلة من الاضطرابات. والواقع أن أولى أعمال العنف بين الأرمينيين والأذربيجانيين تعود إلى ثورة العام 1905، عندما تحول ما كان في البدء تضامناً طبقياً إلى مواجھة إتنية. وفي أعقاب انھيار النظام الإمبراطوري في العام 1917 ، ظھرت للمرة الأولى جمھوريتان مستقلتان، إحداھما أرمينية والثانية أذربيجانية، وخاضتا حرباً لإحكام السيطرة على مدن ومناطق تقطنھا شعوب متنوعة الأصول، ھي ناخيتشيفان، وزانكيزور، وقره باخ.

لم يكن إقامة جمھوريتي أذربيجان وأرمينيا بالحدود التقريبية في العام 1918 ، ومن ثم انضمامھما إلى الاتحاد السوفياتي بعدھا بوقت قصير ( 1921  سوى بداية للمشكلات التي عانتا منھا لاحقاً. وكان أبرز بذورھا ضم مقاطعة ناغورني قره باخ إلى أذربيجان في العام 1923 بصفة حكم ذاتي، لكنھا تابعة إدارياً وسياسياً لباكو. حتى إذا انھار الاتحاد السوفياتي كان أرمن ناغورني قره باخ أمام خطوة الانفصال، أولاً عن أذربيجان وثانياً الاستقلال.

تفاقم التطھير العرقي سريعاً، بعد أن وضعت سلسلة مذابح حداً للتواجد الأرميني في أذربيجان، وتم في المقابل ترحيل ذوي الأصول الأذربيجانية من أرمينيا، ليكون الصراع الإتني الكبير الأول ضمن سلسلة حروب من الطراز عينه بقيت كإرث خلفه النظام السوفياتي وانتشرت في جورجيا، والشيشان، ومولدوفا وطاجيكستان.

من يؤجِّج النزاع بين أرمينيا وأذربيجان؟..

أرمينيا وأذربيجان

اندلعت حرب شاملة بحلول نھاية العام 1991 ، وسُحبت كتائب الجيش الأحمر من قره باخ. وكان أرمن المنطقة مطوقين ومعرضين لھجمات دائمة. وما كان أمامھم سبيل للصمود غير خوض ھجوم، وھذا ما فعلوه بالتحديد. وعندما تقرر وقف إطلاق النار، كانوا قد استولوا على قسم كبير من أراضي قره باخ، رابطين ھذه المنطقة بأرمينيا، إلى جانب احتلالھم لسبع مقاطعات أذربيجانية. الستاتيكو الذي أسفرت عنه المعارك، حتى العام 1994 ، لا يزال قائماً.

وعلى رغم محاولات الوساطة الدولية، فإن ھدنة 1994 تتعرض لانتھاكات متكررة على طول خط التماس بين الجيش الآذري والقوات الانفصالية التي تدعمھا يريفان، وكان النزاع بين أرمينيا وآذربيجان بسبب إقليم ناغورني قره باخ ذي الأغلبية الأرمينية. وبين الوقت والآخر، تحدث اشتباكات على الحدود، ويقترب البلدان من حافة الحرب الشاملة، لكن سرعان ما يتدخل الوسطاء ويخف التوتر وينزع فتيل انفجار حرب قد تتحول الى نزاع اقليمي.

السؤال هنا إلى متى ؟

منذ مطلع شھر نيسان الجاري يشھد الوضع في إقليم قره باخ تدھورا واشتباكات ھي الأعنف بعد أن أطلق الجيش الأذربيجاني ھجوماً واسعاً على ثلاث جبھات في منطقة قره باخ الجبلية الحدودية، واستخدمت فيھا الدبابات والمدفعية والمروحيات وسط تبادل للاتھامات: أذربيجان اتھمت أرمينيا بقصف استفزازي للقرى الأذربيجانية، وأرمينيا اتھمت أذربيجان بشن ھجوم لاختراق خط التماس على عدة محاور وتقويض الحل السياسي للنزاع. ويُعتبر ھذا أسوأ تصعيد عسكري منذ وقف إطلاق النار في العام 1994 .

ويعتبر مراقبون ھذا النزاع تنافساً جيوسياسياً، لا يشمل الأرمن والآذريين وحدھم، بل يتجاوزھم إلى الأتراك والروس والولايات المتحدة وإيران والاتحاد الأوروبي، لأن هناك تحالفات بين تركيا وأذربيجان من جهة وتقاطع مصالح بين أرمينيا وكل من روسيا وإيران. وبالتالي هذا الصراع له بعدٌ دولي.

هذا النزاع  يشكل في الواقع واحداً من مسارح صراع النفوذ بين الروس والأميركيين في جنوب القوقاز، فبينما النفوذ الروسي أخذ يتراجع بعد ابتعاد كل من جورجيا وآذربيجان من موسكو لتبدأ تعاوناً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً مع الغرب. بقيت أرمينيا وحدھا، وخشيةً من "عدوھا التاريخي" تركيا، تتردد في سلوك ھذا الطريق صراحة، لذلك أبرمت مع روسيا تحالفاً طويل الأمد لبقاء القواعد العسكرية الروسية في أراضيھا، ما دفع مراقبين إلى اعتبار نزاع قره باخ استمراراً لعداء تاريخي مُحمّل بإرث كبير من الكراھية الدفينة بين الأرمن وكل من الآذريين والأتراك .

من جھته، أعرب الرئيس التركي أردوغان عن دعم تركيا لأذربيجان "حتى النھاية"، قائلا:" إنه يصلي لكي ينتصر إخواننا الأذريون". ويجمع المحللون الروس على أن أنقرة تحاول توظيف كل الأوراق التي تملكھا لممارسة ضغوط على موسكو، في مواجھة ضغوط روسية تستخدم ورقتي تأليب المعارضة داخل تركيا، وتشجيع طموحات الأكراد السوريين ضد مصالحھا. وفي ھذا الإطار تندرج وفق محللين روس، الزيارات المكثفة لمسؤولين أتراك ترددوا إلى باكو مؤخراً. ويبدو الاتھام واضحاً، فالرئيس التركي أراد تأجيج نزاع في الحديقة الخلفية لروسيا، بالتوازي مع تسخين الوضع في القوقاز الروسي، عبر عودة نشاط المسلحين في داغستان وتنفيذھم تفجيرات مؤخراً . يحدث ھذا من وجھة نظر الروس، بالتوازي مع "محاولات لتأليب تتار القرم" الذين تربطھم بتركيا علاقات تاريخية وثيقة، أو بكلمات أخرى "التدخل في شؤون روسيا الداخلية" كما يردد مسؤولون.

ويرجع محللين الأسباب المباشرة لتجدد الحرب على جبھة ناغورني قره باخ إلى:

1- أسباب داخلية: البعض يعيد انفجار الوضع إلى عوامل داخلية أذرية، نابعة من تكاثر فضائح الفساد، و قمع الحريات، بالإضافة إلى تراجع إنتاج النفط الأذربيجاني، مرفقاً انھيار أسواق النفط الدولية، بمشكلة حادة طاولت الاستقرار الداخلي في أذربيجان.

2- دور روسيا: إذ إن الجالية الأرمينية في روسيا ھي الأكثر عدداً بين الجاليات الأرمينية في سائر بلدان العالم الأخرى، كما تمثل الجالية الآذربيجانية في روسيا عاملاً مھماً في التنمية الاقتصادية لآذربيجان. موقع قناة 24 الإسرائيلية أشار، في تحليل له، إلى أن إشعال نار النزاع في الإقليم، في ھذا الوقت تحديداً، يأتي خدمة للمصالح الروسية، وذلك بعد التحسن الذي طرأ على العلاقات الأذرية مع الولايات المتحدة ومع الغرب عموماً.

وتشير القناة إلى أن الرئيس بوتين يسعى من خلال تجديد القتال في الإقليم الأرمني إلى إرسال إشارة إلى الغرب، وأن يوضح للولايات المتحدة وللأوروبيين أن مفتاح تسوية النزاع الحدودي بين أرمينيا وأذربيجان، وعودة أراضي أذربيجان من أرمينيا، وكذلك السيطرة على منطقة القوقاز، ھي فقط في متناول اليد الروسية.

3- دور تركيا: يرى محللون أن لأنقرة مصلحة في الصراع الدائر في ناغورني قره باخ، حيث أعلنت تركيا أنھا تقف بالكامل وحتى النھاية مع باكو. بل أضاف أردوغان:"إن الثلاثة ملايين أرمني في أرمينيا وناغورني قره باخ يشكلون تھديدا للأمن القومي التركي". فتركيا تريد من وراء تصريحات اردوغان تخفيف الضغوط عليھا في سوريا. ومن جھة ثانية يريد أردوغان شد العصب القومي التركي من أجل استمالة الجيش إلى جانبه. بعكس روسيا المنشغلة في سوريا وأوكرانيا، وليس من مصلحتھا فتح جبھة انشغال جديدة تشتت جھودھا.

وضمن هذا النزاع، تبرز أيضاً وجهتان معنيتان بالحرب المتجددة بين أرمينيا وأذربيجان، تتمثلان بالجمهورية الإسلامية في إيران من جهة والكيان الصهيوني من جهة أخرى، الأولى منحازة الى أرمينيا والثانية الى أذربيجان. الواقع يشير إلى أن علاقات إيران بأرمينيا تعتبر أقوى من تلك التي تربطھا بكثير من الدول الإسلامية المجاورة،  فإيران في حاجة إلى أرمينيا لتوفير معبر بديل للنقل إلى روسيا وأوروبا، وأرمينيا تواجه انسداداً متواصلاً في طرق التجارة من جانب آذربيجان وتركيا، وھي معنية بتأمين ممر آمن وموثوق للتجارة، ويرتبط تطور العلاقات الأرمينية - الإيرانية، في الوقت الراھن بحال التنافس القائمة بين الولايات المتحدة وروسيا على بسط نفوذھما في المنطقة.

أما "إسرائيل"، فإن ھناك تحالفاً استراتيجياً قديماً بينها وبين أذربيجان. وترى "ھآرتس" أن أسباب ھذا التحالف تتمثل في واقع أن أذربيجان دولة علمانية مسلمة تقع إلى جوار إيران جغرافياً، وھذا يمنحھا أھمية بالغة في نظر الإسرائيليين. وعدا عن  ذلك، فإن أذربيجان من بين أكبر مصدري النفط لإسرائيل. وفي السنوات الماضية، صارت إسرائيل مزوداً رئيسياً للسلاح لأذربيجان. وكشف الإعلام الإسرائيلي قبل أيام أن استمرار القتال بين الحليف الأذري الاستراتيجي وأرمينيا، ھو مصلحة إسرائيلية ويعدّ فرصة لمزيد من المكاسب في المنطقة القوقازية المحاذية لإيران.

لكن السؤال هنا، أين تقف واشنطن من ھذا النزاع "القوقوازي"؟!

في الواقع إن الولايات المتحدة لا تنزعج من أي خضة تزعج روسيا وإيران. ولكن من المستبعد أن تكون واشنطن تسعى إلى تفجير صراع إقليمي واسع في القوقاز، وضد أرمينيا تحديداً. ذلك أن باكو ھي في النھاية حليفة واشنطن الاستراتيجية. ولذلك وقفت واشنطن إلى جانب ناغورني قره باخ وإلى جانب القضية الأرمنية، وللأرمن لوبي قوي في الولايات المتحدة بحيث لن يفيد أي مرشح ديمقراطي للرئاسة الأميركية في نھاية ھذا العام أن يجلب عداوة اللوبي الأرمني القوي ويخسر أصواته والقوى التي معه. فضلاً عن أن المسألة الأرمنية تحظى في الغرب بمكانة وجدانية، انطلاقاً من اعتبارات حضارية وثقافية ودينية، لا تدفعه إلى وضع الأرمن في موضع حرج وصعب.

في النهاية كل الدول الاقليمية والدولية لها مصالحها في اقليم ناغورني قره باخ، ولكن من منهم سيحسم الصراع لصالحه؟ الجواب ستكشفه الأحداث الجارية على المرمى الاقليمي السوري الأخر ضمن منظومة التسويات في الكواليس السياسية للدول الفاعلة في هذا الصراع.

2016-04-18