ارشيف من :ترجمات ودراسات

الليبرالية المتطرفة تفتك بالرابطة الاجتماعية

الليبرالية المتطرفة تفتك بالرابطة الاجتماعية

الكاتب :  BENALLAL MOHAMED
عن موقع alterinfo  الالكتروني
18 نيسان /أبريل 2016

"الليبرالي هو شخص يعتقد بأنه مدين لمن هم على شاكلته ويعمل على سداد ديونه بأموالكم".
 جورج غوردون ليدي (مولود عام 1930)

التاريخ هو انتقال دائم من نمط إنتاج ومجتمع إلى نمط آخر. فقد تم الانتقال من المجتمع البدائي إلى الإقطاع ثم إلى البورجوازية الرأسمالية تحت ضغط بنية الإنتاج الصناعي التي نسفت الإنتاج الزراعي التقليدي وغيره من الأنماط السابقة. وبنية الإنتاج تفرض طبيعة معينة لبنية تحتية ولمؤسسات. ويأتي تطور الرأسمالية ليفرض تطوراً نحو مجتمعات حديثة حيث يتم الانتقال من الرأسمالية البورجوازية الوطنية والاستعمارية إلى الرأسمالية المتحللة من القيود والحدود، ثم إلى الرأسمالية العالمية مروراً بعملية العولمة.

في السياق الحالي، حيث انهارت - بما هي نمط وتصور - الكتلة المكونة من بلدان شيوعية واشتراكية تحمل فكراً ماركسياً ولينينياً، أدى هذا الانهيار إلى تغيرات كبرى. فقد توقفت الحرب الباردة مع سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، ولم يعد هنالك من مبرر لوجود العالم الشيوعي والاشتراكي مقابل عالم الليبرالية والنظام الرأسمالي الذي خرج ظافراً من الحرب الباردة.

على الجميع أن ينخرطوا طوعاً أو كرهاً في هذا العالم الراسمالي الجديد. فالمجتمع الجديد تم تنظيمه وفقاً لما تمليه مبادئ النظام الرأسمالي المؤسس بوجه عام على المنشأة الخاصة وحرية السوق.

الليبرالية المتطرفة تفتك بالرابطة الاجتماعية

هذه الرأسمالية تفضي إلى نتائج مشؤومة على جميع مستويات الرابطة الاجتماعية. فالمبادئ الجديدة والمقدسة للعقيدة الاقتصادية النيوليبرالية المتطرفة هي :

- الخصخصة الكاسحة لمرافق الانتاج.
- الرفع الكامل للقيود عن المنشآت.
- التقليص الواسع النطاق للانفاق الحكومي.
- تقليص الخدمات الحكومية بهدف الحد من الديموقراطية.
- شطب دائرة الحياة العامة لصالح دائرة الحياة الخاصة.
- إلغاء أية مراقبة للأسعار.

"ومع العولمة الليبرالية أصبح السوق بامتياز أداة في يد السلطة الاقتصادية والمالية الجديرة فعلاً بهذا الاسم. وهذه السلطة ليست ديمقراطية لأنها لم تنتخب من قبل الشعب ولا تتم إدارتها من قبل الشعب، وخصوصاً لأنها لا تهدف إلى تأمين السعادة للشعب" (خوسيه ساراماغو، كاتب برتغالي في صحيفة لوموند ديبلوماتيك، تشرين 2/ نوفمبر 2005).

الأواليات الموجودة داخل هذا النظام متعددة، وسأكتفي بالنظر في تلك التي تمارس تأثيراً على التماسك الاجتماعي لحساب المؤسسات المالية ودوائر الإنتاج والتوزيع والتسويق والبنية الفوقية. بكلام آخر: أين تكمن الآفة الاجتماعية في هذا النظام؟    

البطالة
 
 في النظام الرأسمالي، يتم ضبط سوق العمل عن طريق القانون المقدس، قانون العرض والطلب. ومفهوم العرض والطلب هذا يمثل أداة ضبط قاهرة في يد من يمسك بوسائل الإنتاج. فهو يستخدمه من جهة ليكبح ارتفاع الأجور لأن هذا الارتفاع يؤدي إلى التضخم (الحمى الاقتصادية).  

 لكن البطالة يمكنها أن تقوم بهذه الوظيفة (كبح ارتفاع الأجور) عن طريق الحد من المطالبة برفعها. والحالات الأكثر بروزاً يمكن أن تلاحظ على مستوى القطاع الخاص حيث مستوى الأجور يقل، بغض النظر عن بعض الاستثناءات الهامشية، عما هو عليه في القطاع العام.

وبالنتيجة، يمكن القول بأن احتواء التضخم يكون ممكناً عندما تتوقف الأجور عن الارتفاع وعندما يرتفع الطلب على الوظائف عن مستوى العرض. أما في الحالة المعاكسة، أي في حالة الانعدام التام للبطالة، فإن أرباب العمل يتعرضون لخطر فقدان العاملين لأن السوق يمنح فرصاً جيدة للعثور على الوظائف، ولأن التضخم (الحمى الاقتصادية) يتصاعد في هذه الحالة.

يقول آلبير جاكار: "إن الحرية الحقيقية لا تنفصل عن حماية من هم أشد ضعفاً. أما الليبرالية من النمط الغربي فهي مرادفة لاستعباد الأكثرية الساحقة من البشر سواء أكانوا مواطنين في بلدان الجنوب أم من المنتمين إلى الطبقات الفاقدة لقيمتها في بلدان الشمال".
ثم إن هشاشة أوضاع العاملين تميل أيضاً إلى التأثير على مستوى الأجور، وهي تشكل مع البطالة عاملين ينشآن عن ضبط سوق العمل بقوانين السوق التي يفرضها الاقتصاد الليبرالي، وهي القوانين التي يطرحها صندوق النقد والبنك الدوليان كعلاج بالغ القدرة على الفتك عبر برامج إعادة الهيكلة التي تشكل إيديولوجيا اقتصادية جديدة تسمح بالقليل من البناء وبالكثير من الهدم، وتفرض انعطافاً إجبارياً نحو اليمين، وتعمل بكل الوسائل من أجل نقل الثروة من الدوائر العامة إلى الدوائر الخاصة. ويلاحظ ذلك في حالة الجزائر وغيرها من البلدان التي يزورها السيدان: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.    

وفي الوضع الاقتصادي الذي يخضع لتوترات تضخمية، تميل المصارف المركزية نحو رفع أسعار الفائدة، الأمر الذي يؤدي إلى تقليص أو حتى إلى كبح أنشطة المرافق الاقتصادية. وبالتالي، فإن هذا التوجه يؤدي إلى تراجع في الاستثمارات وبطبيعة الحال، إلى ارتفاع في معدلات البطالة، وأخيراً إلى الحد من المطالبة بزيادة الأجور. وعندها، تتجه أرقام النمو نحو المجال السلبي.
      
وفي الحالة المعاكسة، أي في حالة التوترات المصاحبة لانخفاض مستوى التضخم، تلجأ المصارف المركزية إلى تخفيض أسعار الفائدة، الأمر الذي يدفع الشركات إلى المزيد من الاستثمار، وبالتالي إلى تشغيل المزيد من الأيدي العاملة، وفي الوقت نفسه، إلى الإذعان لمطالب رفع مستوى الأجور. وهنا، تتجه أرقام النمو نحو المجال الإيجابي.

إن هدف البنك المركزي هو العثور، بوجه عام، على عتبة الحد الأدنى من البطالة الكفيلة بالحد من التضخم وبتلافي الانكماش في اقتصاد السوق، وهذ ما يعرف بـ "صفر نمو". وهذا المبدأ الاقتصادي في التحكم بالسوق غالباً ما ينشط التوجه نحو التضخم، ما يؤدي إلى تآكل الرأسمال المالي.   

يقول جيلبرت كايث شيسترتون أن "الليبرالية المعاصرة تفيد الأغنياء ولا أحد غيرهم".
يمكننا في النهاية أن نصل إلى نتيجة مفادها أن سوق العمل هي بوجه عام سوق يخيم عليها الخوف في وضع دولة القانون التي تعطي الحق للرساميل في أن تهاجر إلى أمكنة أخرى. كما يتحكم الفساد -مع عدم محاسبة الفاسدين- بسوق العمل في حالة عدم كون الدولة دولة قانون. وهنا يتشارك الخوف مع الفساد في تحديد مستوى الأجور حيث نجد كثيراً من "المواطنين" يخسرون حقهم في العمل والضمان الاجتماعي ويتهمون بأنهم لا يصلحون لشيء، أو يصبحون عاجزين عن الحياة بشرف وكرامة. وهنا يبدأ تفكك الرابطة الاجتماعية.

انعدام التضامن

الظاهرة الثانية التي تولد داخل النظام الليبرالي المتطرف هي تقلص روابط التضامن الناشئ عن دمار دولة العناية. فالتماسك الاجتماعي يمكن أن يكون مضموناً عن طريق وسائل عديدة منها وجود إطار حقوقي يسمح للتضامن الاجتماعي بالوجود.  وهذا الإطار التضامني يسمح للمعدمين وغيرهم ممن لا يتمتعون إلا بالقليل من القدرات، بالاستفادة من الحماية الاجتماعية والاقتصادية. وللأسف، فإن هذا الإطار التضامني ينظر إليه في النظام الليبرالي المتطرف على أنه أداة غير اقتصادية تكبح القوى النشطة، لأن عقيدة الليبرالية هذه تقضي بأن يخضع الوضع الاقتصادي للقدرات الفردية وحدها (قوة العمل). من هنا، فإن الذهنية الليبرالية تجنح على الدوام نحو المزيد من تحرير الاقتصاد والحد من الحماية الاجتماعية، وعندها تصبح الديمقراطية خطراً على الاقتصاد الليبرالي.
وهنا تولد طبقة من العمال البؤساء وطبقة من النخب الرافضة لوجود أي إطار للتضامن بشكله المحدد في الميثاق الاجتماعي لليبرالية.
 
الفقر

ظاهرة ثالثة تنشأ عن النظام الليبرالي هي الفقر. فالرأسمالية هي نظام اقتصادي يستند إلى تراكم رأس المال الذي يضمن لها الحد الأقصى من الربح كرمز للثروة المادية (النظرية الماركسية).   

ووفقاً لهذا المنطق، فإن جميع الأفعال الاجتماعية تتقلص شيئاً فشيئاً لتتحول إلى أفعال اجتماعية نافعة وضرورية لعموم الناس. ثم تختفي لتترك المجال كله لـ "الهومو إيكونوميكوس"، أي الإنسان العقلاني أو "المواطن المسؤول". إن الرأسمالية تقتل إنسانية الأفراد عن طريق العقلنة الأنانية وتفرز الذين تتقطع بهم السبل من البؤساء الخاضعين لحفنة الرابحين داخل النظام. إن هذه الليبرالية الجذرية أو المتطرفة تسهم بالفعل في التدمير المباشر للعلاقات داخل المجتمع. إن ملاحظة مختلف الوقائع المشار إليها تبين ببساطة مذهلة كيف أن المجتمع الرأسمالي يزرع مفهوم العقلانية ليحصد الأنانية الفردية. إن هذه الليبرالية تغرق المجتمع في وضع يعمل فيه كل فرد بمفرده ولنفسه. وهنا يتفكك المجتمع خصوصاً في ظروف الانكماش الاقتصادي، وعندما تخيم البطالة على الأوضاع مع ما يتبع ذلك من تخل عن العقد الاجتماعي.

الجسم الاجتماعي في المجتمع الرأسمالي المأزوم يصبح غير مستقر، وقابلاً للكسر إلى أبعد الحدود. ولا يبقى للمواطنين غير فرصة وحيدة هي التوجه نحو إيديولوجيات تفتح أمامهم آفاقاً أكثر جاذبية، مع التضحية بحريتهم من أجل تحصيل المزيد من التماسك والدعم الاجتماعيين. من هنا، فإنهم يتوجهون نحو أنظمة تسلطية من النوع الفاشيستي، التيوقراطي...  أي من النوع الذي تنزلق إليه البلدان الليبرالية المتطرفة حيث تعجز الديموقراطية عن الوقوف في وجه التفسخ الاجتماعي ما يدفعها إلى أن تصبح عنصراً يمنح التفسخ حيوية أكبر بكثير.

 

2016-04-22